الفَسَاد : حطّ بِالخرج أمْ حطّ بالسّجن ؟!/ المحامي انطوان القاصوف  

كتب المحامي انطوان القاصوف :

 

 

في عَهد المُتصرّفيّة ، كانَ المُتصرّفون يَتَصَرّفون على هَواهُم ، ولمْ نَرِث مِن كُلّ مُتَصَرّفٍ إلاّ اسوأ تصرُّفاتِه…؟!

تقولُ الواقعةُ التّاريخيّة : في عَهْدِ الُمُتصرّف واصا باشا ، عَمّ الفَسادُ أرجاءَ البلاد ، وكُلّمّا قالَ لهُ قائِل : إنّ الحالةَ سيّئة ، كانَ يُجيب قائلاً : ” حُطّ بِالخِرج” وهي العِبارةُ الوحيدةُ التي تَعلّمَها مِن اللُغة العربيّة وأتْقن نُطقها ،لأنّها كانت تُلائِم أهَواءَه … ولأنّهُ كانَ فاسِداً فقَد عَمّت الرّشوةُ في عَهْدِه جَميعَ مَرافِقِ الدّولة…!

عندما مَاتَ واصا باشا، دُفِنَ في الحازمية ، في المكانِ الذي صارَ مَعروفاً لاحقاً باسم ” قبْر الباشا ” وقدْ تَناوَبَ على رِثائِه عَددٌ مِن خُطباء ذلك الزّمان مِن ” ماسحِي الجُوخ ومُعفِّري الجِباه وفاقِدي الكَرامة ” وكُلّهم مِن جَماعة ” حطّ بالخِرج ” ، لذلك جاءَت كلِماتُهُم نِفاقاً وتَدجيلاً عن فَقيدِ النّزاهةِ والشّهامةِ والاستقامَةِ والنُّبلِ والشّفافية ونَظافة الكَفّ … إلى أن اعتلَى القبرَ الشّاعر تامر بك الملّاط وهجاهُ في هذين البَيتين الخَالدين مِن الشّعر :

” قالوُا قَضَى وَاصا ووَارُوه الثّرى

فأَجَبْتُهُم وأَنا الخَبيرُ بِذاتِهِ

رِنّوا الفلوُسَ على بِلاطِ ضَريِحِه

وأنا الكَفيلُ لَكُم بِرَدِّ حياتِهِ “!!

ثمّ نَزِل عنِ القبرِ … مَشى … واختَفى … ومُنذ ذلك الزّمان ، اسْتَوْطَنَ الفسادُ عندنا : تَزاوَجَ ، تَنَاسلَ ، تكاثَرَ كما تتوالَدُ وتتكاثَرُ الأوبِئةُ في المَناخات المُلوّثة !!

… وفي هذا العهدِ الذي شارَفَ على الأُفول ، وصَفَ سيّدُ العَهد” الفسادَ “بأنّهُ مَرضٌ عُضال وقد أمضَى أكثرَ من خمسِ سَنواتٍ يَبحثُ عن دَواء ليَقضي عليه مُتناسياً بأنّ الدّواء مُتَوفّر والمِبضَع مَوجود ولكنّ القرار مَفقود !!

” من أين لك هذا “؟ و” الإثراء غير المشروع ” سؤال يُكمل قانوناً ، والإثنان يَفضحان مُمْتَهِني الخِدمة العامّة !

– “وزيٌر لمُكافحة الفساد ” ، غادرَ وبَقيَ الفَساد !؟

– ” تدقيقٌ جنائي ” ، أحكامُه مُسبقة ، تَسبِقُ التّدقيق ، تُرى وِفقاً لأيّ أصول ؟!

– ثمّ هيئةٌ لمُكافحة الفَساد …شُكِّلَت … وماذا بعد … لا أمل ؟!

خمسُ سنواتٍ : إِحالة واستِحالة ، مانِعٌ ومَوانِع ، تأخيرٌ ، تأجيلٌ ، تَسْويفٌ ، أمّا جَمْهَرَة النّاهبِين المُحترفين والسّارقين المَدعومين والفاسدين المعرُوفين ، فمُلاحقتُهم باتت بحاجة الى مُلاحَقَة ؟!

فإذا كانَ مِنَ المُستحيل إخفاءُ الحَقيقة ، كما قالَ الإمام علي : ” أبتِ الدّراهمُ الاّ أن تَمُدّ أعناقَها … ” فيَبقى السّؤال : ألا يكفي تَعيين هيئة قضائية من خيِرة قُضاتنا تتوفّرُ فيهم ثلاثةُ شروط : الكفاءَة ، الخوفُ على الوطن ، “واللّه يراني ” وعندها يتحوّل حُكماً ” شعار حطّ بالخِرج ” الى حُكم ” حطّ بالسّجن “!!

كانَ الرّئيس فؤاد شهاب ” مُدخّن الياننجيّة ” والنّائِم على سريرٍ من حديد مُفترِشاً الألم ومُلتحفاً الأمل : لا ” ابن مُدلّل ” و ” لا صهر مُتَطَلّب ” لا أزلام ” زواحِف ” ولا أقاربَ من فَصيلة ” أفواه وأرانب ” ؟! أقامَ دولة وبنى وَطناً … خرجَ من الرّئاسة الى العزلة، فلم تُلاحقهُ ولو شُبهةُ فساد او رشوة أو كسب غير مشروع … عاشَ مُكتفياً وماتَ فقيراً …؟!

أمّا وريثُه في النُّبل والشّهامة الرّئيس الياس سركيس ، فعِندما شارَفت ولايته على نهايَتها، تبيّن أنَّ ” خزنة” القصر الجمهوريّ كانت مَليئة بالمال فقالوا له : فخامتك نْسيت الأموال في الخزنة ؟ أجاب : هيْدا مَعاشي ، صَرَفت منه ما احتجت اليه والباقي “رَجْعّوا” على خزينة الدّولة ( درسٌ في مُحاربة الفَساد ) وهل ننسى أنّه هو بالذّات مَن اشترى للبنان الإحتياطيّ منَ الذّهب عندما كانَ حاكِماً للمَصرف المركزي… فكانَ فِعلاً رجُلَ دولة لا رَجُلَ سُلطة : الرّئيس سركيس ذَهَبَ وبقي ” ذَهَبُهُ “؟!

أمّا الرّئيس المُنتخَب بشير الجميّل ، دامَت ولايتُه عشرين يوماً فقط قبلَ أن يغتالَه ” مغتالو الرؤوساء”… وقبل ان يستَلِمَ ، وقبل ان يُعيّنَ وزيراً أو هيئةً لمُكافحة الفساد ، فَرَضَ هيَبتة .. فعَمَدَ الفاسِدون ” رهبةً ” الى ” شيل من الخِرج ” بدلَ من “حطّ بالخِرج ” وكافحوا أنفسهم بأنفسِهم… وتسألون لماذا ما زلنا ننتظر ” الرّئيس الحلم ” ؟!

وفي مجال “مُكافحة الفساد ” عن طريقِ الَبدء بالنّفْس ، لا بُدَّ أن نذكرَ ما حصلَ عام 1949 عندما تمَّ تعيين المحامي بهيج تقي الدّين وزيراً للزّراعة فكتَبَ له أخوه الكاتب والصّحفيّ سعيد تقي الدّين الرّسالة التّالية :

” تحيّاتي أخي بهيج ، علمتُ أنّكَ أصبحتَ وزيراً وهذا شرفٌ كبيرٌ لعائِلتنا ومِنطَقتنا ، لكنّي أُحِبُّ أن أُذكِّرَكَ ، بأنّنا عندما كُنّا صغاراً ، كُنّا نتسابقُ للنّوم في فراشِ أبينا ، لرُوحه السّلام ، وأتذكّر أنّ الوالد كانَ يشُمُّ رائحة أيدينا ليتأكّدَ أنّها نظيفة وأنّنا غسلناها بعد الطّعام لكي يسمحَ لنا بالنّوم معه ، والآن يرقُدُ أبونا تحت التُّراب ، ولا شكّ انّنا سوفَ نرقُدُ معه بعد مُدّة، فاحرص يا أخي أن تكونَ يداكَ نظيفَتين لترقُدَ معه ُبأمان …” رحم الله أيّام زمان؟!

إنّها نَماذِجُ مثاليّة ، على سبيلِ المِثال لا الحصر ، عن رجال دولة من “خميرةٍ ” وطنيّةٍ ، بأمثالِهِم وعلى مِثالِهِم يحيا ويستمرُّ ويبقى الوطن …! فهل يُمكنُ مساواتهُم برجال سُلطة : اُمُّهُم السّياسة وأبوهُم الفساد ؟؟

فيا أيّها الشّعبُ الواعي الثّائر !

في شهرِ أيّار القادِم (… إذا حصلَت الإنتخابات ؟؟!! ) سيُصَوّتُ المُنتشِرون منكم في أوّله ، والمقيمون مَعَكُم في وسطه ، فاجعلوا أصواتَ الإحتجاج تلتقي وتَتَوحّد مع أصوات الانتماء وامنعوا انتخاب ” واصا باشا ” من جديد وكلّ ورثتِه الفاسدين ، خوفاً مِنْ أن يستمرّ مَفعول ” حطّ بالخِرج ” ويُصبحَ شعبُ التّغيير، مُجرَّدَ – ” شرّابة خِرج ” ؟!