حكايات العالم وفلسطين.. باحثان يجمعان القصص الخرافية منذ 4 عقود

في كتابهما الجديد “حكايات العالم” يقدم الباحثان الفلسطينيان شريف كناعنة ونبيل علقم حكاية “الصبي ذو النصف الواحد”، وهي إحدى الحكايات الشعبية الخرافية في كوريا (عندما كانت موحدة)، وتدور الحكاية حول زوجين كبيرين بالسن بدون أبناء، تحلم الزوجة أن امرأة عجوز أهدتها 3 حبات من فاكهة البرسيمون (الكاكا) فتأكل اثنتين ويشاركها زوجها بأكل نصف الحبة الثالثة، فتحمل وتلد 3 توائم ذكور، أحدهم نصف صبي بعين وأذن ورجل ويد واحدة.

 

وتتوالى قصة النصف صبي والذي يكبر قويا ويكون ذا أخلاق بعكس أخويه اللذين يحاولان استغلاله ثم التخلص منه ولكنه في كل مرة يستطيع أن يتفوق عليهما.

 

حكاية شعبية فلسطينية

تتشابه هذه الحكاية مع الحكاية الشعبية الفلسطينية “نص نصيص” التي يوثقها الباحثان أيضا في موسوعة الحكايات الخرافية الفلسطينية، وصدر الجزء الأخير منها في بداية العام 2022.

 

وتبدأ الحكاية الفلسطينية عندما تزوج 3 أخوة في يوم واحد، وقد رزق اثنان منهم “بالصبي”، ولم يرزق الثالث، وبقيت زوجته في حزنها حتى سمعت في يوم ما بائعا متجولا يبيع تفاحا على حماره وينادي “دوا للحبل”، فاشترت تفاحة لكن زوجها الذي عاد للبيت جائعا أكل نصفها ولم يتبق لها سوى النصف. مرت الأيام وحملت وأنجبت صبيا صغير الحجم سموه “نص نصيص”، والذي كبر وأصبح رغم حجمه الصغير جدا أقوى وأذكى من أبناء أعمامه.

 

 

ورغم تشبه الحكايتين، إلا أن حكايات شرق آسيا الأخرى التي ترجمت وقدمت مع تحليل في الكتاب، لا تتشابه مع الحكايات الفلسطينية، فالتشابه كان أكثر مع الحكايات الأوروبية وخاصة اليونانية، وهو ما يعيده الباحث علقم (77 عاما) إلى وجود علاقات تاريخية متبادلة بين فلسطين واليونان.

 

إنهاء الباحثان من هذه الموسوعة بأجزائها الخمسة (صدر الجزء الأخير منها في يناير/كانون الثاني 2022) بالتزامن مع صدور كتاب “حكايات العالم” لم يكن صدفة، فخلال 40 عاما عملا على جمع الحكايات الفلسطينية الخرافية من كل فلسطين التاريخية، وكان لا بد من الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى التي جمعت حكاياتها، لا سيما أن الباحث كناعنة (86 عاما) تخصص في جمع الحكايات الشعبية منذ عودته إلى فلسطين بعد دراسة الأنثروبولوجيا في العام 1978، وتأسيسه أول مساق لتدريسه في جامعة بيرزيت، وهو جانب العلوم الإنسانية الذي لم يلق الاهتمام الكافي في فلسطين حتى الآن.

 

اختار كناعنة 109 حكاية شعبية من 5 مناطق في العالم (وهي جزر المحيط الباسيفيكي، أميركا الجنوبية واللاتينية، أوروبا، أفريقيا السوداء “جنوب الصحراء الكبرى”)، وقام بترجمتها، وتقديم تحليل والربط بينها وتحديد نقاط الالتقاء والاختلاف مع الحكاية الفلسطينية.

 

ومن خلال التحليل وجد الباحثان أن لكل دولة ما يميز حكاياتها، كما يقول علقم للجزيرة نت، فالحكايات الأوروبية نلاحظ نظرة دونية للمرأة، بينما كانت حكايات الهنود الحمر أسطورية وتعليلية مثل “أسطورة قبيلة شيروكي.. كيف تكونت الأرض”، بينما كانت الحكايات اليابان عملية جدا، وحكايات السود تغلب عليها النكتة والفكاهة.

 

حكايات نسائية

وللحكاية الفلسطينية الخرافية خصائصها أيضا، فهي حكايات نسائية بامتياز، فيها المرأة اللاعب الرئيسي وحتى لو من خلف الكواليس، فهي دائما صاحبة الذكاء والدهاء وأحيانا المكر.

 

يقول كناعنة للجزيرة نت “الحكاية الخرافية الفلسطينية هي كل ما تحكيه النساء، فبينما كان الرجل يخرج إلى المقهى أو الديوان ليجتمع مع الرجال كانت النساء تروي هذه الحكايات لعائلتها”.

 

وبدأ الباحثان العمل المشترك مع بداية الثمانينيات ضمن لجنة حفظ التراث التي شكلتها جمعية إنعاش الأسرة للرد على قيام شركة طيران إسرائيلية باستخدام الثوب الفلسطيني لمضيفاتها، من خلال كتاب “الملابس الشعبية الفلسطينية”.

 

ومع اندلاع الانتفاضة الأولى نشرت الصحافة الإسرائيلية على لسان قادة الجيش أن الفلسطينيين لا يكترثون بأطفالهم الذين يرشقون الحجارة على الحواجز ويقتلون، فكان كتابهما الثاني وهو دراسة حول “الإنجاب والطفولة دراسة في الموروث الشعبي” يتضمن كل ما يتعلق بالإنجاب واهتمام الفلسطينيين به من قبل الزواج وحتى السنوات الأولى من عمر الطفل

 

ثم جاء كتاب مشترك آخر حول النكتة في الموروث الشعبي، وحمل اسم نكته ابتدعها الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى من أسماء المركبات العسكرية التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في اعتقال وقمع الشبان “ليش الشتوح (الجيب العسكري الصغير) طلق عزيزة (الجيب العسكري الكبير المخصص للاعتقال

 

ورغم التعاون الممتد على مدار 45 عاما، إلا أن أهم هذه الإنجازات هي موسوعة الحكايات الخرافية، لما رافقه من عقوبات وصعوبة في الوصول إلى أصحاب الحكايات مع كل الظروف والتقسيمات الجغرافية التي يفرضها الاحتلال.

 

جمع كناعنة حكايات الجليل -مسقط رأسه- والتي سمع الكثير منها في طفولته وهو ابن قرية عرابة البطوف بالجليل الأعلى، ومن مدينة رام الله حيث عاش وعمل، بينما استعان بطلبته في الجامعة من المناطق الفلسطينية الأخرى في جمع حكاياتها “كلما تقدمنا بالوقت يصبح أصحاب الحكايات أكثر انغلاقا عليها، حتى لو هناك من يتذكر هذه الحكايات فإن القليل منهم يرغب في روايتها”.

 

وخلال رحلة الـ40 عاما جمع الباحثان 800 حكاية، تكررت بعض الحكايات مع الاختلاف بالنكهة وفق البيئة، فبينما كان المكان في حكايات الجليل تحت الزيتونة أو الليمونة ويذكر فيها طبريا وعكا، كانت حكايات غزة ومدن الساحل تأخذ بطل الحكاية إلى البحر.

 

400 حكاية

اختار الباحثان قرابة 400 حكاية وتم تقسيمها على 5 أجزاء، الأول حول العلاقة بين الزوج والزوجة، والثاني حول العلاقة بين “الضرائر” والعلاقة بين الحماة والكنّة، والثالث حول العلاقة بين الآباء والأبناء، والجزء الرابع حول العلاقة بين الإخوة والأخوات، والجزء الخامس حول العلاقة بين أفراد العائلة والمجتمع.

 

 

مصدر بعض الحكايات كانت كتب المستشرقين، وتحديدا كتابين لمستشرق ألماني قبل العام 1900 جمع خلالها حكايات من القدس وقرية بيرزيت وسط الضفة.

 

وبينما تداول اللاجئون في المخيمات حكايات بلادهم الأصلية، اختلفت الحكايات بين المدينة والقرية، فكانت الأولى منمقة أكثر وتحتوي تفاصيل وتعقيدا أكثر، وكانت حكايات القرية بسيطة وتركز على خلافات الحماة والكنة. وفي البلدات المسيحية كانت نفس الحكاية، ولكن بدل من كلمة يا “الله” التي يقولها المسلم في حكايته، يردد المسيحي يا “عذراء”.

 

ومن أكثر الحكايات التي علقت في ذهن كناعنة حكايات جمعها من والدة رفيقه علقم، وهو من بلدة ترمسعيا شمال رام الله، وهي حكاية “زينة الدار ست الكل” وهي قصة زوج تزوج فتاة جميلة، وبعد الزواج أكتشف أنها غبية “هبلة”.

 

 

الزوجة كان اسمها لا يعجبها، وفي يوم من الأيام قررت شراء اسما جديدا لها، وعندما مر أحد الباعة المتجولين سألته أن يبيعها اسما جميلا مقابل قطعة أرض، فيطلق عليها “زينة الدار ست الكل”. وعندما يعود زوجها ويكتشف ما فعلته يخرج من البيت ويقول لها “إذا لقيت أهبل منك برجعلك”، وبعد رحلة طويلة ومواقف يمر بها الزوج يكتشف أن هناك من هو “أهبل” من زوجته فيعود.

 

هذه القصة ذاتها تروى في منطقة نابلس شمال الضفة، ولكن يكتشف الزوج غباء زوجته عندما يطلب منها “طبخ حبة عدس”، في إشارة إلى الكمية القليلة، فتقوم الزوجة بطبخ حبة عدس واحدة، وعندما تقوم بتذوقها تأكلها وتقدم لزوجها مياه بلا عدس فيغضب وبترك البيت بحثا عمن هو “أهبل منها”.

 

يقول كناعنة “في الحكايات الفلسطينية هناك توازن في تقديم صورة المرأة، فهي ليست الأذكى ولا الأجمل، ولكنها أيضا ليست الأضعف والأكثر دونية، على عكس صورة المرأة في الموروث الشعبي لشعوب أخرى

 

ويعتبر كناعنة وعلقم انتهاءهما من جمع هذه الحكايات “أوج الإنجاز”؛ فجمع هذه الحكايات على مدار كل هذه السنوات لم يكن سهلا، كما يقول علقم “في حالتنا الفلسطينية جمع الحكايات الشعبية ليس ترفا، وإنما ضرورة، فهي جزء من روايتنا الفلسطينية”.

 

ويشير علقم إلى أن الأرشيف الفلسطيني يحتوي على 12 ألف حكاية عربية، منها 290 حكاية فلسطينية يحاول الاحتلال نسبها إليه.

 

وهذه الموسوعة بالنسبة للباحثين لن تكون عملهما الأخير، فهما الآن بصدد جمع الحكايات المتعلقة بالمعتقدات الفلسطينية الشعبية، مثل “كب القهوة” و”حكة كف اليد” وغير ذلك.