يُقدِّمُ، ما تشهدُهُ السَّاحةُ الأوكرانيَّةُ الرُّوسيَّةُ، في هذهِ الأيَّام، وبكلِّ وضوحٍ وجلاءٍ، حقيقةَ المنطقِ الذي يتحكَّم بكثيرٍ من مساحاتِ العلاقات الدَّولِيَّة؛ الأمرُ الذي يُظْهِرُ، بصفاءٍ وشفافيَّة، طبيعة العلاقات التي تربط القُوى الدَّولِيَّةِ الفاعِلَةِ في ما بينها. وَلعلَّ بالإمكانِ الإفادةَ، ههُنا، مِن هذا جَمِيعِهِ، لاستِطلاعٍ عَمَلِيٍّ لطبيعةِ المنطقِ الفِعليِّ لما يتحكَّمُ بالأحداث الجارِية راهِنًا في لبنان، وكذلك على أرض فلسطين المغتصبة؛ بل وبما يشملُ كثيرًا مِن فضاءاتِ التَّصارعُِ الحاصِلِ، في هذه المرحلةِ، على أرضِ القوى العربيَّة المتعدِّدة، وحتَّى في سائر أرجاء الدُّنيا.
شَهِدَت الأيَّامُ الحاليَّةُ، وما بَرِحَت تَشهدُ، لِهجومٍ عسكريٍّ، مِن قِبل قوات الجيش الرُّوسي، على جمهوريَّةِ أوكرانيا؛ لِرَدعِ الحكومةِ الأوكرانيَّةِ، عَبْرَ مساعٍ تُظَنُّ بها، عن تصرُّفٍ سياسيٍّ للالتحاقِ بـ«حِلْفِ النَّاتو»، ذي التَّوجُّه السِّياسيِّ والعسكرِيِّ الأميركيِّ؛ بِما يُشكِّل تَهديدًا صريحًا وربَّما شَرِسًا، للنُّفوذ الدَوليِّ لِرُوسيَّا وما تمثِّله، في المنطقة، من سلطات إقليميَّة ودولِيَّة. وتزامن هذا الحدثُ في أوكرانيا، أو ربَّما سبقه بساعاتٍ قليلةٍ جدًّا، إعلانُ الاستقلالِ التَّامٍّ عنها، لاثنتين مِن مقاطعاتها؛ فباتت، كلُّ مِن جمهوريَّتي «دونيتسك» و«لوغانسك» الشَّعبيتين، دولةً قائمةً بذاتِها؛ مِمَّا يُخوِّلُها حقُّ طَلَبِ الحمايةِ، مِن ما يناسبها مِن الدُّول الصَّديقة لها.
أعلنَ الرَّئيسُ الرُّوسيُّ، فلاديمير بوتين، في حينهِ، أنَّه سيعترف باستقلال المنطقتين الأوكرانيتين اللَّتين أعلنتا استقلالهما عن دولة أوكرانيا؛ مُشيرًا إلى أنَّ أوكرانيا ليس لها تاريخ، بوصفها بلدًا حقيقيًّا؛ ومتَّهِمًا السُّلطات الأوكرانيَّة بالفسادِ. ردَّ الرَّئيس الأوكرانيِّ، فلوديمير زيلينسكي، أنَّ بلاده تريد السَّلام؛ غير أنَّه أوضحَ أنَّ شعبهُ ليس بخائفٍ، وأنَّهم لن يتنازلوا عن أيِّ شيءٍ لأحد»، ومؤكِّدًا أنَّ العاصمة الأوكرانِيَّةَ «كييف»، بحاجة الآن إلى «دعم واضح وفعال» من قبل شركائها الدوليين، مُشيرًا، وبالحرفِ الواحِدِ، إلى أنَّه «مِن المهم للغاية أن نرى الآن من هو صديقنا وشريكنا الحقيقي، ومن سيستمر في استخدام مجرَّد كلمات لإخافة الاتِّحاد الفدراليِّ الرُّوسيِّ». لا بدَّ، ضمن هذا السِّياق، من تبيان أنَّ الجيش الرُّوسيَّ يمتلك قوَّة عسكريَّة تفوق بمراحل ما عند نظيره الأوكرانيِّ، إذ يحتلُّ الجيشُ الرُّوسيُّ، وفاقًا لأحدثٍ الإحصاءات الدَّولِيَّةِ المُعلَنَةِ، المرتبة الثَّانية على مستوى العالم، بينما يحتلُّ الجيش الأوكراني المرتبة 22. ومن هذا القبيل، أتَه لدى روسيا 900 ألف عسكريٌّ نَشِطٌ، عبر قوَّاتها، مقارنة بـ 196600 في أوكرانيا.
إزاءَ ميزانِ القُوى العسكريَّةِ هذا، فقد دانَ «حِلفُ شمالِ الأطلسي» (النَّاتو)، ومعه «الاتِّحاد الأوروبي»، قرار الرَّئيس بوتين؛ كما أعلن الرَّئيس الأمريكي، جو بايدين، إنَّه سيفرض عقوباتٍ على روسيَّا؛ ووصفت، أورسولا فون دير لاين، رئيسة «المفوضيَّة الأوروبيَّة»، في تغريدة أطلقتها على موقع «تويتر» للتَّواصل الاجتماعِيِّ، الخطوة الرُّوسيَّة، بأنَّها «انتهاكٌ صارخٌ للقانونِ الدَّوليِّ» و«لِوحدةِ الأراضي الأوكرانيَّة»؛ وكان أن أعلنت وزيرة الخارجيَّة البريطانيَّة، ليز تراس، عن إنشاء مركزٍ معلوماتيٍّ حكوميٍّ يهدف إلى مكافحة «المعلومات المضلِّلة» من جانب روسيا، على خلفيَّة الوضع حول أوكرانيا؛ وأخيرًا، فقد صرَّح رئيس الوزراء البريطانيُّ، بوريس جونسون، بأنَّ الوضع «كئيبٌ للغايةِ»، غير أنَّ مؤشِّرات الدّخولِ في حربَ، رغم كلِّ هذا، قد لا تكون حتميَّة.
نَظَمَ الشَّاعرُ الشَّعبيُّ الانتقادِيُّ البيروتِيُّ، عمر الزِّعِنِّي، سنة 1938 قصيدةً تكاد تشابهُ بعضَ جوانبَ أساسٍ، مِن هذا الحالِ الرَّاهنِ في مجالاتِ منطِقِ تفاعُلِ السِّياسةِ الدَّوليَّة. كانَ هذا قبل أربعٍ وثمانينَ سنةً مِن اليومِ، عندما تمكَّنت «إيطاليا» مِن احتلالِ «الحَبَشة»؛ في ما عُرِف دَوْلِيًّا، بـاسم «أزمة الحَبَشَة» سنة 1935. وقد كان لمنطقِ السُّكوتِ الدَّولِيِّ، الذي وُجِهَ بِهِ الأمرُ سنة 1937، مُمَثَّلاً بموقِفِ مَجْمَعِ «عُصبةِ الأممِ»، الذي كان قائمُا منذ سنة 1920؛ أنْ يُسبِّب ضررًا بالغاً بِسُمْعَةِ «العُصبَةِ»، قبل أنْ تنهار، وتخلِفُها «منظَّمة الأمم المتَّحِدة»، سنة 1945:
بَلا عُصْبِة، بَلا مَجْمَعْ/ كُلْ وَاحِدْ إِلُو مَطمَعْ
وِالْحَقّ بِإيِدْ القوِّة/والقُوِّة بِبُوزْ المَدْفَعْ
كُلْ وَاحِدْ إِلُو غَايِة/وْعَامِلْ المَجْمَعْ بِرْدَايِةْ
كِلّهُمْ بِالوِشْ مْرايَةْ/وْبِالقَفا، اللهُ أعْلَمْ
لمَّا ضُعْفِتْ تُركِيَّا/عَمْلُولْها عَمَلِيِّة
جَرَّحُوها بِالسِّكِّينْ/واحِد سَكَنْ فْلَسْطِينْ
وأَرضِ النَّفْطْ وِالبِنْزِينْ/وْوَاحِد بِبْلادنا تْرَبَّعْ
والتَّالِتْ قَالْ كانْ نَايِمْ/لمَّا قَسَمُوا الْغَنَايِمْ
لَمَّا جَاعْ، فَارْ دَمُّو/مَدْ إِيدُو فَتَحْ تِمُّو
عِمْرِتْ خِربِتْ، مَا هَمُّو/وْعَن أَفْكَارُو مَا بْيِرْجَعْ
هَدَّدُوا، مَا تْأبَّى/قَاطَعُوا، مَا تْرَبَّى
قَامِتْ عْلِيه أُوُرُوبَّا/وْفَرْضُوا عْلِيه العُقُوبَاتْ
مَعْ هَيْدَا وْكِلُّوا مَا أنْهَزّ/لَا أَثَّرْ فِي وَلَا اهْتَزْ
أَخَدْ الحَبَشِة وْصَارْ يْفِزْ/وِيَهَدِّدْ الْكُوُنْ أَجْمَعْ
يبدو وكأنَّ المنطق العمليَّ المتحكِّم بمسارات الأمور الدَّولِيَّةٍ، لا يعبأ سوى بمجالات إبداء احترامه لمن يمتلك القوَّة الأكبر، ولمن يسيطر على المدفع الحربيِّ، إذ فيهما المفهوم الفِعلِيُّ للحقِّ في المجالاتِ العملِيَّةِ للسِّياسةِ الدَّولِيَّةِ ضمن المؤسَّساتِ صاحبة القرار العملِيِّ التَّطبيقِيِّ في المجتمعِ الدَّولي. ومن هنا، فما يمكن أن يثار من قضايا حقوق الإنسان، وموضوعات تقرير المصير، وشؤونِ احترامِ استقلال الدُّول، فيبدو خاضعًا، وكما أدركه شاعر الشَّعب، «عُمَر الزِّعِنِّي»، منذ أكثر مِن أربعٍ وثمانين سنةٍ من اليوم، ما برحَ خاضِعًا لمقولةِ «الْحَقِّ بِإيِدْ القوِّة، والقُوِّة بِبُوزْ المَدْفَعْ»، وأنَّ هذه المؤسَّسات السِّياسيَّةِ الدَّولِيَّةِ ليست، ووفاقًا لِما أدركها بهِ «الزِّعنِّي»، «كُلْ وَاحِدْ إِلُو غَايِة، وْعَامِلْ المَجْمَعْ بِرْدَايِةْ، كِلّهُمْ بِالوِشْ مْرايَةْ، وْبِالقَفا، اللهُ أعْلَمْ».
تُرى، ألا يشهدُ ما يُعايِنُهُ الشَّعبُ اليومَ في لبنان ، من بؤسٍ وهوانٍ وضياعٍ للحقوقِ، ويعانيهِ مِن الدِّفاع عبر المؤسَّسات الإنسانيَّةِ والسِّياسيَّةِ عن حقوقهِ؛ وكذلكَ الحالُ معِ الفلسطينيُّينَ، على أرضِ فلسطين، ومع كثيرٍ من ناسِ أرجاءِ العالَمِ العربِيِّ الحاليِّ، وساحاتِ تلاقي أوضاعهِ مع مساقاتِ السِّياسة الدَّولِيَّةِ؛ أنَّ الأمور ليست ضمن مدارات الحقِّ الانسانيِّ في العيشِ الكريمِ والحريَّةِ المُصانةِ، بقدرِ ما هوَ بإمرةِ توجُّهاتٍ عُليا لِسِياسَةٍ دَوْلِيَّةٍ لا تقومُ سوى على منطِقِ أنَّ الحقَّ بِيَدِ القُوَّةِ، وأنَّ القوَّةَ لا تكونُ إلاَّ بقدرةِ السِّلاحِ الحَربِيِّ؟!
* رئيس ندوة العمل الوطني… الدكتور وجيه فانوس