رئيس المركز الثقافي الإسلامي / الدكتور وجيه فانوس
إنَّ الإنسان، الذي يخـتار «المدى»، الإنسانُ الذي يخوض عباب المغامرة، قد يعضُّه وَجَـعُ التَّوَتُّر اللاَّمتناهي للارتقابِ النَّاتج عن مغامرته؛ وقد يتعـب. و لـــذا، فإنَّ هذا الإنسان يلجأ إلى مصالحةٍ ما، هـــي «لعبة» وجــودٍ متنقِّلة بين «الحَدِّ» و«المَدى»؛ وفاقاً لما يشير إليه عبد الله العروي، في مؤلَّفهِ «مفهوم الحريَّة»، الصَّادر عن «المركز الثَّقافيِّ العــربيَّ»، في «الدَّار البيضاء»، في الصفحة السابعة من «الطَّبعة الأولى» منه، سنة 1981. يرضـــخ الإنسان، في هذه الحال، لما لا يستطيع مقاومته من القانــون، لما لا يستطيع مواجهة فعل الندم فيه؛ ويميل الى اعتبار رضوخــــه هذا حـــرية له في التحرك ضمن «الحد»، مقابل الوجع الذي قد يصيبه خـــــلال تحرّكه في رحاب «المدى». وقد يعتقد الإنسان انه، بذا، يضـع نفسه في حالين: واحدة في ثبات «الحد»، وهــو خاضـع فيها للقانون ولا حرية له فيها؛ وثانية في انفتاحية «المدى»، و هــــو فيها يسعى إلى إشباع نوازعه إلى لذَّة المغامرة عبر الحريَّـة. ومع هذه «المصالحة»، بين «الحدَّ» و«المّدى»، يعتقد الإنسان انَّه حُرٌّ مِن أمورٍ، وحُرٌّ بأمور؛ وهذا ما يتوافق مع يرد عندالمفكِّر الألماني إريك فروم (1900-1980) Erich Fromm، في مؤلَّفه «الخوف من الحرِّيَّة»، The Fear of Freedom، الصادر بداية سنة 1941، تــرجمــة مجـــاهد عـبد المنعم مجاهـــد، الصَّادر عن «المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر»، في بيروت، في الصَّفحة 35 من الطبعة الأولى، سنة 1972. يعتقدُ الإنسانُ، إنَّهُ باختياره «المَدى»، قد أصـبـح حُرًّا مِــن قيــودِ «الحد»؛ وإنَّه باختياره «الحَدَّ»، قد أصبح حُرًّا مِن أوجــــاع «المدى». وحقيقةُ الحالِ انَّ الإنسان، وفي خِضَمِّ هذه الاخـتـباراتِ، يُدخِلُ وجودَهُ في قانون -حَدٍّ أساسٍ يسَتْوَعْبُِ كلَّ ما اعتـبره «حَدًّا» أو «مدىً». إنَّ وجود الإنسان، والحالُ هذه، بات مُقَـيَّـداً باختياراتِهِ؛ وهذه الاختياراتُ باتت قوانيناً لِعَيْشِهِ.
ad
هنا يُطـرَحُ السُّؤال الأشدّ إيلاماً ودراميًّة: «هل إنَّ هذا الإنسان، الذي اعتَـَبَرَ نفسه حُرًّا، هو في الواقعِ حُرٌّ في أن لا يدخل لعبة المصالحة بيــن «الحَدِّ» و«المَدى»، طالما هو عرضة لفعلِ النَّدم القائمِ على المعـرفة النَّاقصة؟ أَهُوَ حُرٌّ في أن يكون في معاناةٍ مستمرَّة لِفِعلِ الحُرِيَّةِ؟ أَهُوَ حُرٌّ لأن يعيش وجوده دخولًا في «مَدىً» لا يمكن أن يضمن له أيّ انتهاءٍ أو أيّ استمرارٍ؟ أَهُوَ حُرٌّ في أن يمارس وجوده في تَـَوتُّرِ مغامرةٍ لن تعرف لذاتها «حَدًّا»؟ أَهُوَ حُرٌّ لأن يدخل دوَّامة انفعـالٍ في لَذَّةٍ تظلُّ، مهما عاش فيها، فِعلًا مجهولَ النِّهاية، لكن متواصل التَّأثير؟!
قَبِلَ ابليس هذا التَّحدي؛ فعاش في دوَّامة تجربةٍ، دفعت به إلى لعنةٍ لا يــزالُ يرقصُ في عنفوانِ ضجيجها. لقد انطلق، في قبوله هـــذا، إلى أقصى «المَدى»؛ بعد أنْ طلّقَ «الحَدَّ» إلى غيرِ رجعةٍ. أمّا الإنســــانُ، هذا المخلوق البشريُّ مِن صلصالٍ، فإنَّه، ومنذ أنْ كانَ، ظـــلَّ يميلُ إلى مُصالَحَـٍة بين «الحَدِّ» و«المَدى»؛ وما فَتِيءَ يُمارس تَعَبَهُ مِن هذا ومِــن ذاكَ. لقد أدرك أنَّه حُرٌّ بأمورٍ، وأدرك، كذلك، انَّ بإمكانه أنْ يكـون حُرَّا مِن أمورٍ؛ لكــن هل يستطيع، بِما مُنِحَ مِن معرفةٍ، أن يعلـم أنَّه حُــرٌّ لأمــور؟ ولعــلَّ المأســــاة الأساس، في وجود الحضارة الإنسانيَّة الراَّهنة، ووفاقا للأدبيَّاتِ الغَيْـبِـيَّـــة المصـدرِ المتوارثة، تتلخَّص في السَّعي التَّساؤليِّ المستمرِّ للإنسـانِ عمّا إذا كان بمستطاعه الوصول إلى الحريَّة التَّامَّة؛ الحُرِيَّةُ مِن غيرِ ما واســطةٍ: الحُرِّيـَّـة الإيجابِيَّةُ التي يكونُ فيها حُرًّا، لأنَّه، وببساطةٍ مطلقةٍ، حُرٌّ؟!