الوَردَةُ الجانِيَة بِقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(حَولَ كِتابِ «حامِلُ الوَردَةِ الأُرجُوانِيَّةِ» للأَدِيبِ الدّكتُور أَنطوان الدُّوَيهِي)
بَعدَ أَن رَوِينا مِن نَمِيرِهِ، وسَكِرنا مِن رَحِيقِهِ، في كُتُبِهِ الخَمسَةِ السَّابِقَةِ، أَطَلَّ عَلَينا أَنطوان الدّوَيهِي بِرِوايَتِهِ الجَدِيدَةِ «حامِلُ الوَردَةِ الأُرجُوانِيَّة».
هو، فِيها، مَدَى طَوافِ قَلَمِهِ، شاعِرٌ يَسكُبُ الرُّوحَ في أَلفاظٍ تَلِيقُ به، وخَيالٍ يَرقَى إِلى شَفافِيَّةِ صاحِبِهِ، ونَمنَماتٍ تَتَوالى وتَتَكامَلُ، استِرجاعًا مِن ذاكِرَةِ سَجِينٍ في تَداعِياتٍ غائِيَّةٍ، وتَنامِيًا في الأَحداثِ والشَّخصِيَّاتِ، حتَّى بُؤْرَةِ القَصِّ ولَحظَةِ التَّنوِير.
«البَطَلُ-السَّارِدُ»، في هذا العَمَلِ القَيِّمِ، بَدا لنا شَخصِيَّةً رَسَمَت دَربَها جَبرِيَّةٌ، لا حَوْلَ لها فِيها ولا طَوْلَ، وهي عاجِزَةٌ أَن تَختَطَّ دَربَها الَّتي تُرِيدُ، فما كانَت نِهايَتُها نَتِيجَةً حَتمِيَّةً لِصِفاتِها وتَصَرُّفاتِها، إِذ قَدَرُها مَرسُومٌ، كما حَصَلَ مع بَطَلِ الأُسطُورَةِ «أُودِيب».
لا مَجَّانِيَّةَ في نَصِّهِ، ولا تَرَهُّل وهو شاعِرٌ مِن بَدءِ العَمَلِ حتَّى نِهايَتِه.
ولو أَرَدنا أَن نَتَمَثَّلَ بِمَقطَعٍ لَعَزَّ الانتِقاءُ لأَنَّ النَّسِيجَ كُلَّهُ مَحبُوكٌ بِخَيطِ الشِّعرِيَّةِ كما القَوافِي المَجدُولَةُ على يَراعِ شاعِرٍ مُبدِع.
«شَخصِيَّتُهُ اللُّغَوِيَّةُ» أَو «جِلدُهُ اللُّغَوِيُّ»، على حَدِّ تَعبِيرِ رُولان بارت، مُتَمَيِّزَةٌ، مَوسُومَةٌ بِطابَعٍ يُفشِي هُوِيَّتَهُ ولو في بَحرٍ مِن الأَسالِيب.
لَدَيهِ قُدرَةٌ عَجِيبَةٌ في الإِيهامِ، تَجعَلُ القارِئَ على يَقِينٍ أَنَّهُ حِيالَ سِيرَةٍ ذاتِيَّةٍ، بِالرُّغمِ مِمَّا دَسَّهُ في النَّصِّ، لَمْحًا، لِيُزِيلَ هذا الظَّنَّ. فهو إِذ حَكَّمَ «الطَّاغِيَةَ» بِالمِنطَقَةِ بَينَ «العَاصِي والفُرات»، أَضافَ وَ«دِجلَة»، فاكتَمَلَ اللَّبْس. على أَنَّ «صِدقَهُ في الفَنِّ» كان مِن البَراعَةِ أَن أَوهَمَنا أَنَّهُ «صِدقٌ في الواقِع». وكُلُّ شَخصِيَّةٍ رَسَمَها تَلَبَّسَها وهَتَكَ أَخفَى سُتُرِها. فَلِلَّهِ عَلَيهِ، أَكانَ في ذِهنِهِ، مُدَبِّجًا، القاصُّ الفَرَنسِيُّ بيار دُومَنديَارغ حِينَ قَال: «إِنَّ الأَشخاصَ يَلبَسُونَنِي كما أَلبَسُهُم أَنا بِنَفسِي»؟!
وهو لا يَتَوَكَّأُ على المُفاجَآتِ، وضَرَباتِ القَدَرِ، لِلتَّمَلُّصِ مِن وَضعِيَّةٍ تَعَقَّدَت، أَو اشتِباكٍ صَعُبَ جَلْوُهُ؛ فَلِلمَعقُولِيَّةِ، عِندَهُ، حِسابٌ، ولِفَرَضِيَّةِ الاحتِمالِ قَدْرٌ مَرمُوقٌ في عَرضِهِ، والعَلاقَةُ السَّبَبِيَّةُ دَيدَنُهُ، ففي عُرفِهِ المَعلُولُ يَدُلُّ على العِلَّةِ، والسُّحْبُ السُّودُ تُنذِرُ بِالعاصِفَة.
مَكانُهُ الرِّوائِيُّ الأَبرَزُ جَوَّانِيٌّ، ما أَتاحَ له تِقنِيَّةَ «تَيَّارِ الوَعْيِ أَو المُونُولُوجِ الدَّاخِلِيِّ (Stream of consciousness)» لِيَرسُمَ الأَعماقَ الإِنسانِيَّةَ بِما يَصطَخِبُ فِيها مِن أَحلامٍ وهَواجِسَ بِحُنكَةٍ مَغبُوطَة. ولقد حَقَّ فِيهِ قَولُ فرانسواز فان رُوسِيم (Francoise Van Rossum): «إِنَّ ما يُحكَى لنا أَو يُروَى في أَيَّةِ رِوايَةٍ هو دائِمًا عَمَلُ أَحَدٍ ما يَقُصُّ علينا ويُخبِرُنا بِقَدْرِ ما يُخبِرُ عَن نَفسِهِ أَو يَحكِيها». وأَصدَقُ ما يُلَخِّصُ عَمَلَهُ قَوُلُه: «أُفَكِّرُ في رِوايَةٍ تَجرِي فِيها أَحداثُ الحَياةِ العادِيَّةِ، وفي الوَقتِ نَفسِهِ، وبِصُورَةٍ مُتَلازِمَةٍ ودائِمَةٍ، تَنسابُ على مُستَوًى آخَرَ أَشياءُ الرُّوح» (ص163).
نَعَم…
أَلَم يَقُلِ الرِّوائِيُّ مَحمُود تَيمُور: «القِصَّةُ رُوحٌ قَبلَ أَن تَكُونَ مَظهَرًا، وفِكرَةٌ قَبلَ أَن تَكُونَ حادِثَة»؟
لِرِوائِيِّنا قُدرَةٌ عَجِيبَةٌ في تَصوِيرِ المَشهَدِ حتَّى يُصبِحَ لِلقارِئِ في مَدَى حَدَقَتَيهِ سُطُوعًا يَبهَرُ، ويَكادُ يَلمُسُ تَفاصِيلَهُ بِبَنانِهِ، وذلك بِأُسلُوبٍ لِكُلِّ لَفظَةٍ فِيهِ حَيِّزٌ وافٍ مِن الدِّفْءِ والمُوسِيقَى، ولِكَلِمِهِ إِيماءٌ وخَيالٌ، فَإِذا بِهِ إِلى الشِّعرِ أَقرَبُ مِنهُ إِلى النَّثر.
هو شاعِرٌ رَهِيف. إِمَّا طَرَقَ الجَسَدَ، فَبِرِيشَةِ الفَنَّانِ الأَثِيرِيِّ، والمَثَّالِ المُبدِعِ، والحالِمِ الشَّفِّ، الَّذي لا يَغمِطُ الجَوارِحَ مُعْطاها في اللَّذَّةِ، بَيْدَ أَنَّهُ لا يُنزِلُهُ المَنزِلَ الوَضِيع. يَقُول: «ثَمَّةَ مَكانٌ مُغلَقٌ، يُقِيمُ فيه جَسَدُهَا الأَبْيَضُ، النَّقِيُّ، البَضُّ، البَالِغُ النُّعُومَةِ والعُذُوبَةِ، الَّذي يَشِعُّ مِنهُ نُورٌ ودِفْءٌ وسِرٌّ يَصعُبُ إِدراكُ أَغوارِها» (ص64).
وهذا التَّوْلِيفُ الرَّائِعُ لِلمَعرِفَةِ والقَصِّ والبَيانِ جَعَلَ مِن «حامِل الوَردَةِ الأُرجُوانِيَّة» تُحفَةً فَرِيدَةً في الرِّوايَةِ، ودُرَّةً في الأَدَبِ الرُّومَنطِيقِيِّ الرَّاقِي، تَكفِي السَّراةَ، وقد لا تُرضِي «الجَماهِيرَ»، على أَنَّها تَحمِلُ شَحنَةً كَثِيفَةً مِن التَّشوِيق.
لقد أَجادَ الكاتِبُ في رَسمِ الاستِبدادِ الَّذي يَضطَهِدُ حَرَكاتِ وسَكِناتِ الشَّخصِ، ويَتَوَفَّرُ حتَّى على جَوَّانِيَّتِهِ ونِيَّتِهِ وحَمِيمِيَّتِه. فهو استِبدادٌ يَتَعَسَّفُ البَرِيءَ كما الجانِيَ، و«يَقتُلُ حتَّى المَشاعِرَ» (ص123)، وهو «باتَ على دَرَجَةٍ مِن الكَمالِ تُتِيحُ له رُؤيَةَ دَخائِلِ الأَنفُسِ، وبِأَنَّ «رُوحَ الاستِبدادِ» أَضحَت حاضِرَةً في العالَمِ الخارِجِيِّ وفي الدَّاخِلِ أَيضًا» (ص46).
ويَصِلُ الرَّاوِي في قَرَفِهِ حَدَّ كُرهِ «شَمسِ المَشرِقِ المُحرِقَةِ، شَمسِ الاستِبدادِ» (ص126)، استِبدادٍ يَجُورُ على مَن «هو في نَظَرِ الكُلِّ مِثالُ الرَّجُلِ الهادِئِ، المُسالِمِ، المُقِيمِ في عالَمِهِ الخاصِّ، الَّذي لا تَشُوبُ حَياتَهُ شائِبَة» (ص6).
وكانَت بَشاعَةُ الاستِبدادِ، وسَطوَةُ «الطَّاغِيَةِ»، وعَنَتُ النِّظامِ، ثَقِيلَةً كَهَمِّ الثَّكْلَى، سَوداءَ كَأُفقِ الضَّرِيرِ، حتَّى بَدا السِّجنُ، في بَعضِ الغَفَلاتِ، مَقبُولًا لو تُزالُ منه صُورَةُ الطَّاغِيَةِ، ويُفسَحُ فيه لِنَفاذِ النُّورِ، وزُرقَةِ البَحرِ، وحَفِيفِ الهَواء. وكَأَنَّ العُزلَةَ بَينَ الجُدُرِ المُوصَدَةِ أَخَفُّ وَقْعًا على النَّفسِ مِن صُورَةٍ مُحَملِقَةٍ تُجَسِّدُ الطُّغيان.
ولا غَرْوَ، فَـ «الرَّاوِي-السَّارِدُ» مُولَعٌ ومَهجُوسٌ بِالحُرِّيَّةِ، لِذا فهو وَلِهٌ بِفَردانِيَّتِهِ الَّتي كُلَّما تَشَظَّت أَودَى التَّشابُكُ مع الآخَرِ إِلى وَفْرٍ في الأَسوارِ تُحاصِرُ الحُرِّيَّةَ وتَتَرَبَّصُ بها.
و«طاغِيَةُ» صاحِبِنا، وإِن أَوحَى السَّردُ، في بَعضِهِ، أَنَّهُ مُعَيَّنٌ مَعرُوفٌ، فهو، في الحَقِيقَةِ، صُورَةٌ لِلطَّاغِيَةِ في كُلِّ مَكان. فالطُّغيانُ رُوحُهُ واحِدٌ، وإِن تَعَدَّدَت أَسالِيبُه. ولا أَظُنُّ التَّركِيزَ على «الطَّاغِيَةِ» هَدَفًا لِذاتِهِ، وإِنَّما مُحَفِّزًا لِقُوَى الذَّاتِ في التَّجَلِّي والبَوْح.
لقد خِلتُنِي، والحَقَّ أَقُولُ، وأَنا في رِفقَةِ هذا الكاتِبِ المُبدِعِ، مع مُلحَقٍ أَدَبِيٍّ مُحكَمِ السَّردِ لِـ «طَبائِع الاستِبداد» لِعَبدِ الرَّحمَنِ الكَواكِبِيّ.
راوِينا السَّارِدُ مُتَخَبِّطٌ بَينَ هَجْسٍ في الحُرِّيَّةِ، وإِغراقٍ في الوَحدانِيَّةِ، وارتِياحٍ لِلذِّكرَياتِ المُخَلَّدَةِ في الذَّاتِ، والمُخَلِّدَةِ لِمَآتِيها الغابِرَةِ، ولِمَآتِي الآباءِ والجُدُودِ، وتَحَسُّسٍ عَمِيقٍ بِالجَبرِيَّةِ، وامتِلاءٍ بِفِكرَةِ المَوتِ والتَّلاشِي. وهو كَثِيرُ الوُلُوجِ إِلى لاوَعيِهِ، فَزِعٌ إِلى أَحلامِهِ، يَستَنطِقُها ماهِيَّةَ النَّفسِ وقد نَضَّت بَراقِعَها، فَبَدَت عارِيَةً كالحَقِيقَةِ، سافِرَةً كَالمَوت. وهو لا يَركُنُ إِلى يَقِينٍ يَقِيهِ التَّضَعضُعَ والتَّمَزُّق. فَبَينَا يَسكُنُ إِلى «وُجُودِهِ في هذه الإِمارَةِ الجَبَلِيَّةِ المَشمُولَةِ مِن زَمانٍ بِنِعمَةِ الحُرِّيَّةِ وَسْطَ مُحِيطٍ فاقِدٍ لها» (ص7)، إِذ «تَقُضُّهُ الجَماعاتُ الحَذِرَةُ، المُكَبَّلَةُ، المُكَرِّرَةُ ذاتَها على مَرِّ الزَّمانِ» (ص136)، فَـ «يَصعُبُ عَلَيهِ العُثُورُ على المِثالِ المَنشُود» (ص136).
مَهجُوسٌ، هو، بهذه السِّلسِلَةِ الطَّوِيلَةِ مِن الحَيَواتِ والمَصائِرِ الَّتي نَبَضَت في أَجسادٍ «تَهَدَّدَت بِالتَّلَفِ المَحتُومِ» (ص78)، و«ذَهَبَت كُلُّها إِلى الانهِيارِ المُحَتَّمِ والمَوت» (ص75)، وبَقِيَتِ الأَمكِنَة. فهل خَلَت هذه الأَمكِنَةُ حَقًّا مِن عابِرِيها؟ وهل فَنِيَ شَغَفُهُم يَومَ التَهَمَ التُّرابُ ذَرَّاتِهِم؟ و«مَن قالَ إِنَّ المَشاعِرَ تَزُولُ مع أَصحابِها؟!» (ص19).
وقد تُؤَرِّقُهُ حَتمِيَّةُ التَّلاشِي فَيُنطِقُ مُحَدِّثَهُ فَيَقُول: «كُلُّ شَيءٍ مَحكُومٌ بِالنِّسيانِ» (ص75). ويَمَضُّهُ هذا «اللَّااستِقرارُ الرَّهِيبُ، الَّذي يُخَيِّمُ عَلَيهِ المُوَقَّتُ والزَّائِل» (ص77). هو قَلَقُ كُلِّ نَفسٍ شاعِرَةٍ مُرهَفَةٍ، عَدَت شَأْوًا بَعِيدًا في المَعرِفَةِ، ووَرِثَت مَخزُونًا عَظِيمًا مِن إِرثِ عُقُولٍ شَعَّت في حُلكَةِ الوُجُودِ المَجهُولِ، فَتَنَطَّحَت لِلأَسئِلَةِ الكَبِيرَةِ فكان في جَزائِها ثِمارٌ مَهزُولَةٌ، وَكَرَّاتٌ سِيزِيفِيَّةٌ عَقِيمَة!
كما أَنَّهُ في هذه الرِّوايَةِ المُمَيَّزَةِ كَشفٌ دَقِيقٌ لِلكَثِيرِ مِن وُجُوهِ الدَّاخِلِ البَشَرِيِّ المُجَلَّلِ بِالغُمُوضِ، والتَّقَلُّبِ، والتَّجَاذُب. وهي لَقيَةُ مَن «يَستَمِدُّ قُوَّتَهُ مِن حَياتِهِ الدَّاخِلِيَّةِ ومِن قُدرَتِهِ على الصَّمتِ» (ص29)، ومَن «يَغُوصُ في داخِلِهِ ولا يَعُودُ يَشعُرُ بِما يَحدُثُ حَولَه» (ص19).
عندما قَرَأتُ: «هكذا يَمتَزِجُ الأَلَمُ بِما يُشبِهُ الارتِياحَ والنَّشوَةَ […] في لَحظَةِ الاقتِرابِ الأَقصَى مِن المَوتِ» (ص59)، تَذَكَّرتُ دِراسَةً قَرَأتُها يَومًا عَن المَحكُومِينَ بِالإِعدامِ في وِلايَةٍ أَمِيركِيَّةٍ، جاءَ فيها أَنَّ المَحكُومَ بِالمَوتِ يَشعُرُ بِنَشوَةٍ تُضاهِي النَّشوَةَ الجِنسِيَّةَ عِندَ إِسلامِهِ الرُّوح! فَلِلَّهِ عَلَيكَ، يا صاحِبِي… أَفي ذُروَةِ تَجَلِّيكَ الأَدَبِيِّ الجَمالِيِّ لا تَبتَعِدُ عَن العِلم؟!
لَمسَةُ العالِمِ الاجتِماعِيِّ ظاهِرَةٌ في سَردٍ يَصهَرُ نَبضَ المَلَإِ، مع نَبضِ الأَمكِنَةِ، ويُقِيمُ دِراسَةً مُقارَنَةً مُعَمَّقَةً بَينَ المُجتَمَعِ الشَّرقِيِّ والمُجتَمَعِ الغَربِيِّ، بِلُطفٍ لا يَفرُضُ نَفسَهُ على القارِئ. فَفِي الغَربِ «ما يَلفِتُ في الحُشُودِ العابِرَة الشَّوارِعَ […] مُعطًى واحِدٌ: احتِرامُ الكائِنِ البَشَرِيِّ في ذاتِهِ» (ص76). يَقُول: «إِنَّ ما يُمَيِّزُ عَلاقَتِي بِالأَمكِنَةِ في الغَربِ عَمَّا هي عَلَيهِ في بِلادِي، أَمرانِ أَساسِيَّان: الجَمالِيَّةُ والحُرِّيَّة. الجَمالِيَّةُ، لأَنِّي حِينَ عَودَتِي ذُهِلتُ أَمامَ فَظاعَةِ التَّشوِيهِ والبَشاعَةِ اللَّذَين أَحدَثَهُما الإِنسانُ في الطَّبِيعَة» (ص121).
وكَيفَ له أَن لا يَوْجَعَ وهو مَن «يَسكُنُ في أَحلامِهِ الحَيُّ القَدِيمُ» (ص43)، المُولَعُ بِالمَطَلاَّتِ السَّاحِرَةِ، وَذَهَبِ الشُّرُوقِ، وَجُلَّنارِ الغُرُوبِ، وبِكُلِّ ما في الكَونِ مِن إِبداعٍ وإِعجازٍ، حتَّى في ظَواهِرِهِ القاسِيَة.
يَقُولُ، وهو الرُّومَنطِيقِيُّ المُرهَف: «لَم يَكُن جُمُوحُ الطَّبِيعَةِ سَبَبَ يَقَظَتِي، بَل على عَكسِ ذلك، كانت العاصِفَةُ تُؤنِسُ سُهادِيَ، كما في كُلِّ مَرَّةٍ، وتُشعِرُنِي بِقُوَّةٍ أَنِّي حَيٌّ، وَتُوصِلُنِي بِعَوالِمَ قَصِيَّة…» (ص39). وهو… «الشَّاهِدُ–العاجِزُ» لِلمُستَباحِ في الإِنسانِ والحَيَوانِ والطَّبِيعَةِ، كيف لا يَتَشَظَّى في صِراعٍ بَينَ سَكَنِ النَّفسِ واطمِئْنانِها لِعالَمِ الغَربِ بِما فِيهِ مِن احتِرامٍ لِلكائِنِ البَشَرِيِّ ولِلطَّبِيعَةِ، وبينَ تَوقِهِ الطُّفُولِيِّ، المُتَجَذِّرِ في أَعماقِهِ، إِلى مَطارِحِ الوِلادَةِ والصِّبا وإِرثِ الجُدُودِ، على وَجَعِهِ لِرُؤيَةِ وَطَنِهِ يَنمُو بَشاعَةً وحَجَرًا، ويَضمُرُ بَشَرًا وشَجَرًا، وحيثُ «لا تَجِدُ مَن يَرفَعُ لافِتَةً تَقُول: يَتِمُّ تَنفِيذُ هذا المَشرُوعِ مِن دُونِ قَطعِ شَجَرَةٍ واحِدَة» (ص175). كَيفَ لا وفي عُرفِهِ «أَنَّ شَجَرَةَ سِندِيانٍ أَو صَنَوبَرٍ واحِدَةً هي أَهَمُّ، بِما لا يُقاسُ، مِن بِناءٍ شاهِق» (ص18).
لِلقَلَمِ رَهبَةُ نُصُوعٍ، ولِلكَلِمَةِ قُدسِيَّةٌ، ولِلأَدَبِ التِزامٌ بِالحَقِّ والحُرِّيَّةِ والجَمالِ، تَستَأهِلُ المُجازَفَةَ بِالثَّمِينِ العَزِيزِ… حتَّى الأَنفاسِ، في شَرعِ كاتِبِنا. لَقَد رَفَضَ تَسخِيرَ يَراعِهِ في أَشَدِّ العَوَزِ، ضَنًّا بِصَفاءِ «عَلاقَتِهِ بِذاتِهِ، ولأَنَّ الحُرِّيَّةَ هي كَنزُهُ الحَقِيقِيُّ (ص105)، ولأَنَّ الوَطَنَ لا يكونُ إِلَّا أَن تُصانَ الطَّبِيعَةُ والحُرِّيَّةُ (ص172)». وهو يَأسَى، حتَّى الجُرحِ، لِمَن في بَلَدِهِ «تَسَرَّبَ رُوحُ الاستِبدادِ إِلى ذاتِهِ، فَأَضحَى بِلا هُوِيَّة» (ص170).
إِيمانُهُ بِالكِتابَةِ الحُرَّةِ عَمِيقٌ كَإِيمانِ الرُّسُلِ، حادٌّ كَشَفا السَّيفِ، يَصِحُّ عِبرَةً لِبَعضِ الأَقلامِ، في يَومِنا هذا، لا تَتَوَرَّعُ أَن تَهبِطَ إِلى قاع ِالمَذَلَّةِ كَرْمَى لِدِرهَمٍ يَتَلَألَأُ، هناك، في قَرارَتِها المُظلِمَة. لَكَأَنِّي به يَرفَعُ في الوُجُوهِ المُتَخاذِلَةِ الآيَةَ الكَرِيمَة: «فَوَيلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَت أَيدِيهِم ووَيلٌ لَهُم مِمَّا يَكسِبُون» (سُورَة البَقَرَة 79).
في المُحَصِّلَةِ…
هذا الكِتابُ يَنتَمِي إِلى فَنِّ الرِّوايَةِ الذِّهنِيَّةِ الرَّاقِيَةِ، بَينَهُ وَبَينَ الشِّعْرِ قَرابَةٌ وُثْقَى، على أَنَّهُ قِيمَةٌ في المَعرِفَةِ ودِراسَةِ الإِنسان. وصاحِبُنا، «سَيِّدُ الرُّوحِ»، كاتِبٌ فَذٌّ، مِن فَضائِلِهِ الوَفِيرَةِ أَنَّهُ استَلَّنَا مِن زَمَنِنا الضَّحْلِ المَعمُورِ بِالتَّشَوُّهاتِ في الأَدَبِ والشِّعرِ، وأَعادَنا إِلى الحِسِّ الرِّوائِيِّ المُدَغدِغِ، الدَّفِيءِ، بَعدَ أَن اجتاحَتنا طُرُوحاتٌ غَرِيبَةٌ جَوفاءُ، مِن رِوايَةٍ عِمادُها الجِنسُ البَهِيمِيُّ، إِلى «رِوايَةٍ جَدِيدَةٍ»، إِلى «رِوايَةِ ما بَعدَ الجَدِيدَة». لِذا حَقَّ لِكِتابِهِ أَن يَتَرَبَّعَ على رُفُوفِ الصَّدارَةِ، ولَهُ، هو، أَن يَزهُوَ ويَتَبَختَرَ ولو أَمَضَّ خَجَلَهُ الطُّفُولِيَّ وتَواضُعَهُ الأَبيَض!