الدكتور وجيه فانوس
منذ أن كانت الخليقة على وجـــه الأرض، والإنسان يتطــوَّر في عيشهِ، من حالٍ إلى حال، ويسير في منكاب حضاريَّةٍ معيَّنة، أو في سواها من الحضارات؛ وذلك بفعل ما يكتسبه مِن إدراكٍ لوجوده الإنسانيِّ. واقع الأمرِ، إنَّ الإنسانَ يكتسبُ المعرفةَ، بصورة عامَّةٍ، بِفِعلِ تماسِّه المباشِر مع الأمور، كما مِن خلال مراقبته لها؛ ويكون له، مـع هذه المعرفة، ادراك يقوده إلى معارف ومُدرَكاتٍ أُخَرِ. ومن هنا، يرتبط انتقال الإنسانُ، مِن طورٍ حضاريٍّ إلى آخر، بالمعـارفِ التي يكتسبها، من جهة؛ وبتوسُّع آفاق مداركه وتعـمُّقها، في مجالات وعيهِ وفضاءات استيعابه، مِن جهةٍ أخرى. إنَّ المرويَّات التَّاريخيَّةِ المحفوظــةِ عن هذه الحركيَّة للإنسان، تُشَكِّل المصدر الواقعيَّ التَّأسيسيِّ لدراسةِ الحـــضارةِ الإنسانيَّة. ولا شــك فـي أنَّ الإنســـان، في كلِّ تنقُّلاته وتطوُّراته هذه، كان يتفاعل، مع موضوع الحريَّة؛ وهذا وفاق ما يذهب إليه الأستاذ الفخري للُّغة العربيَّة والباحث في الأدب العربيِّ والإسلام في «جامعة ييل» Yale University في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، فرانز روزنتال Franz Rosenthal (1914-2003)، في الصَّفحة 15 مِن مؤلَّفهِ «The Muslim Concept of Freedom» «مفهوم الحريَّة في الإسلام»، ترجـمــة وتقــديم مَعن زِيادة ورضوان السيِّد، من منشورات «معهد الانماء العربــــي»، لبنان – الجماهيرية العربية اللِّيبيَّة الاشتراكيَّة، لا.ت.
من المعروف أنَّ ملامح أساسٍ، مِن مظاهر وجودِ الحضاراتِ الإنسانيَّةِ القديمة، قد زالـت؛ بفعــلِ تـقــادُم الحقب والأحداث وتواليها. ولذا، فإنَّ كثيرا مِن هذه الحـضــارات انزوى، خلال حركيَّة الحياة؛ وجوداً مَنسِيًّا، في غــياهــب التَّاريخ، أو هو شِبْهُ مَنْسِي. وبذا، لم تستطع بقايا هـــذه الحضارات أنْ تقدِّم للإنسان المُعاصِرِ دليلاً واضحاً، أو معارفَ مـوثـوقــةً، تُمكِّنه مِن الغـوص فـيـهـا، والتَّعُّمــق في أبعـادهـا، واستكشاف آفاق تفاعلها مع موضوع الحريَّة. بيد أنَّ الحضــارة اليــونانيَّـة، بالغِنى المعرفِيِّ والعقلِيِّ الواسِعين الذي كانت فيهما، وبالقربِ الزَّمنيِّ النِّســبِــيِّ الــذي تحـتـلُّــه مــن إيقـــاعاتِ الحضارة الإنسانيَّة الرَّاهنة، وبإمكانيَّة اعتبارِها مِن بيــن أبـــرز المؤسِّـسين المباشرين لكثيرٍ مِن مبادئ الفِكر الإنسانيِّ المُعاصِر؛ قد مكَّـنــت إنسـانَ اليومِ، مِن سَبْرِ كثيرٍ مِن أغــوارِهــا، ودراستها، والتَّملي مِن أوضاعها. ولذا، فإنَّه مِن المُمـكِـــنِ اعتبار تفاعُلِ الحضارةِ اليونانيَّةِ، مع موضوعِ الحريَّةِ، واحــداً مِــن أقـــدم التَّجاربِ الإنسانيَّةِ المعروفة، في هذا المجال؛ والتي يُمكنُ، تالياً، دراســتــها؛ فِعـلَ إضاءةٍ مُميَّزٍ لكثيرٍ مِن المنطلقاتِ الحاليَّة للإنسانِ، فـــي دُنيا الحرِيَّة.
مــرَّ التَّفاعـــلُ مع موضوعِ الحريَّة، في الحضارةِ اليونانيَّةِ، بمرحلتين أساسيين: «مرحلة المعرفة» و«مرحلة الإرادة». أمّا «مرحلة المعرفة»، فتـكـشـــف عن سَعي الإنسانِ إلى «إظهارِهِ لِذاتِهِ بِمَعرِفَتِهِ لِها مِن سِواها»؛ وهــذا ما يُمكـن تسميته بـ«فِعلِ تَمييزِ الذَّاتِ عنِ الآخرين». ولمّا كانت المعرفــةُ نَوْعاً مِن الامتلاكِ؛ فإنَّ الإنسانَ، وبعد أنْ يَظْهَرَ لِذاتِهِ، أو يَمْتَلِكَ ذاتَهُ، يميلُ إلى الدِّفاع عن هذا الظُّهورِ أو الامتلاكِ للذَّاتِ، ضدَّ كلِّ ما قد يقضـي عليه أو يشوِّه تجلِّيه. وهنا يكـون السَّعيُ إلى حمايةِ هــــذا الظُّهورِ/التَّملُّكِ للذَّاتِ مِن العناصِرِ والعوامِلِ المعوِّقة لهُ؛ أكانت هذه العناصرُ والعواملُ خارجيَّةً أو داخليَّةً؛ بينما تَكْشُفُ «مرحـلة الإرادةُ» لا عن محاولةِ الإنسانِ إظهارَ ذاتِهِ وحسب، بلْ عن سعيِهِ لتحقيقِ هذهِ الذَّات؛ مِن خلالِ إرادتِهِ لِوُجُودِها. فالإنسانُ يعملُ، فــــــي هذه المرحلةِ، على تحقيقِ ذاتِهِ بإدراكِهِ لها؛ ساعِياً إلى إبــرازِها وجوداً فذّا، غير مرتبطٍ بواسطة. ولعلَّ في هذا كلِّه، استناداً إلى ما يذهبُ إليهِ المفكِّر الألماني إريك فروم (1900-1980) Erich Fromm، في الصَّفحات 32-37، من مؤلَّفه The Fear of Freedom «الخوف من الحرِّيَّة»، الصَّادر بداية سنة 1941، تــرجمــة مجـــاهد عـبد المنعم مجاهـــد، منشورات «المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر»، في بيروت، من الطبعة الأولى، سنة 1972، ما يكــوِّنُ تفاعـلاً مـع الحريَّـِـة عبر تَشَكُّلّيْنِ أساسيين لِتَجَلِّيها: «الحريَّةُ السَّلبيةُ» و«الحريَّةُ الإيجابيَّةُ».
إنَّ «الحريَّة السَّلبيَّة» هــي تلك التي لا تتحقَّق بذاتها أو لذاتها؛ فهي في حاجة مستمرَّة إلى وســائــط تشكِّل لها فِعلَ وجودها. ثمَّة مسافة، ههُنا، بين الحــريَّـة والإنسان. ولذا، فإنَّه لا يـمـكــن للإنسانِ أن يكون حرًّا، في نـطـــاق «الحريَّة السَّلبيَّة»، إلاَّ بأمـورٍ أو مِن أمورٍ. إنَّه مجرَّد متعاملٌ مع موضوعٍ مِن خارجِ وجـودِهِ؛ وتعامُلُهُ، هذا، يتجلَّى في سَعيِهِ إلى الاقتراب مِن هذا الموضــوع أو إلى الابتـعــاد عـنــه. أمّا «الحريَّة الإيجابيَّة»، فهي تلك التي تحقِّق وجودها وتشــكِّـله مِن غير ما واسطة. إنَّها موجودة لأنَّها، وبكلِّ بساطة، مـوجــودة. ووجود «الحريَّة الإيجابيَّة» دليل على وجود مَن يعيـشـها. إنَّها، وبحدِّ ذاتها، فعل وجود. فَنَفْيُ «الحريَّة الإيجابية» لمــبدأ الخارج، وإلغاؤهــا – بالتالــــي – لمقولة «المتعامل والموضوع»، يعنيان ان الإنسان بات يعيـش هذه الحرية لا لأنها موجودة، بل لأنها وجوده الذي لا وجود لـه خارجا عنه. هكذا، تكون الحريَّة دَيْمُومة وجود. وبذا، لا يعــود الإنسان مُخَيَّراً بين اقترابِ عن الحرِيَّةِ أو ابتعادٍ عنها. يتحوَّلُ الإنسانُ، تالياً، مِــن متـعـاملٍ مع الحريَّةِ أو ساعٍ إليها، لِيُصبحَ فِعلَ وُجودٍ لها؛ وتكون الحريَّةُ، ههُنا، تجلِّياً فاعلاً لوجوده.
لئــن سعــى الإنسان، في «مرحلة المعرفة» إلى إظهار ذاتِه وجوداً؛ فـقــد كان لا بدَّ له، في «مرحلة الإرادة»، مِن أن يطمحَ إلى عَيْشِ هـــذا الوجــود. والحضارةُ اليونانيَّةُ، عَبْرَ مراحلِ تَشَكُّلِها، قد عاينت هـذينِ الأمرَيْنِ، وعاشتهما؛ فِعلَ تفاعُلٍ وتَطَوُّرٍ لإدراكِ الإنسانِ لوجــودِهِ؛ فكانت، بذا، تعبيراً حقيقيًّا عن تجربة عَيْشٍ للفِكرِ الإنسانيِّ، مِن خلالِ موضوعِ الحريَّة.
(وإلى اللِّقاء في الحلقة الثَّانية «العَصرُ الهُومِيرِيّ»)