آمال البيروتي طربيه
من سقط في القمة العربية الاقتصادية التي استضافتها بيروت لم يكن مؤسسة القمّة بمقدار ما انّ الحدث، الذي لم يكن حدثا، كان سقوطا للبنان.
استطاع ما يسمّى “محور الممانعة” اثبات انّه اخترق الحال اللبنانية بالطول والعرض.
ليس ذلك حدثا عابرا على الصعيد الإقليمي اذا اخذنا في الاعتبار ان اخضاع لبنان كان هدفا ايرانيا عمره 40 عاما، من عمر عودة آية الله الخميني الى طهران في اول شباط – فبراير 1979.
ما حلّ بلبنان تجسيد لعمل دؤوب عملت عليه “الجمهورية الإسلامية “التي انشأها الخميني طوال سنوات وسنوات وصولا الى تحويل المسيحيين في لبنان الى مجرّد غطاء لتصرفات “حزب الله” وذلك تمهيدا *لشرذمة السنّة* في ظلّ بثّ للرعب بين الدروز.
اثبت هذا المحور الذي تتزعمّه ايران ان لبنان يعجز عن ممارسة دوره الطبيعي بصفة كونه عضوا مؤسسا لجامعة الدول العربية.
اذا كان هناك من اختزال لمعنى السقوط اللبناني الذي تجسّده القمة، فهذا الاختزال هو سقوط *للقيادات المسيحية اللبنانية وللمسيحيين عموما* الذين يرفضون حتّى هذه اللحظة الاعتراف بواقع جديد في البلد وفي المنطقة يبدون غير مهيّئين للتعاطي معه.
هناك بكلّ بساطة رفض لمواجهة الحقيقة وتفضيل للهرب منها.
ينمّ هذا الرفض عن رغبة في الهروب الى امام من جهة وكميّة كبيرة من الجهل من جهة أخرى.
عكست مقاطعة الملوك والامراء والرؤساء العرب للقمّة واقعا بدأت تتبلور ملامحه منذ فترة طويلة جدا… عمر هذه الفترة خمسون عاما، أي في العام 1969 عندما اضطر لبنان الى توقيع اتفاق القاهرة غير مدرك ماذا يعني التخلّي عن السيادة على جزء من الأراضي اللبنانية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
مهّد السلاح غير الشرعي الفلسطيني ، الذي سمح به اتفاق القاهرة، للسلاح غير الشرعي لميليشيا “حزب الله” بعد العام 1982.
من يتحمّل مسؤولية ما حلّ بلبنان الذي بات مكانا يقاطعه الزعماء العرب، خصوصا اهل الخليج بصفة كونه بلدا ساقطا عسكريا وسياسيا؟
لم يحضر القمّة العربية سوى امير قطر الشيخ تميم بن حمد وذلك من باب رفع العتب و *نكاية بالمملكة العربية السعودية* لا اكثر…
ثمّة من يقول ان جمال عبد الناصر، الذي تولّى رعاية توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 بين ياسر عرفات، بصفة كونه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، والعماد اميل بستاني قائد الجيش اللبناني، الماروني الطامح الى رئاسة الجمهورية، من جهة أخرى، سعى الى تحذير لبنان من عواقب مثل هذا الاتفاق.
قد يكون ذلك صحيحا، لكنّه كان الاجدر بعبد الناصر الذي خسر حرب العام 1967 ادراك ان على مصر اتخاذ موقف جريء ومنع الكارثة المقبلة على لبنان من دون محالة. المؤسف انّ عبد الناصر كان في غير هذا الوارد، خصوصا بعدما تبيّن، من خلال ممارساته، انّه ليس اكثر من ضابط جاء من الريف لينتقم من المدينة بدل ان يتعلّم شيئا من قيمها، بما في ذلك الابتعاد عن الغوغاء والشعارات الفارغة…
لا يمكن القاء مسؤولية توقيع اتفاق القاهرة على الخارج وحده.
يتحمل اللبنانيون الجزء الاكبر من المسؤولية. لم يعرفوا في نهاية المطاف كيف يحموا بلدهم وكيف يحموا نفسهم قبل بلدهم. تتحمّل في الواقع كلّ الأطراف اللبنانية هذه المسؤولية. لكنّ الطرفين الأساسيين الذين لم يستوعبا النتائج التي ستترتب على التخلي عن جزء من السيادة اللبنانية، مع ما يعنيه ذلك من تخلّ في الواقع على السيادة كلّها، هما السنّة عموما والمسيحيون بشكل خاص.
لم يمتلك رشيد كرامي، رئيس الوزراء وقتذاك، ما يكفي من الوعي للوقوف في وجه الشارع المسلم وافهام المواطن العادي انّ اتفاق القاهرة كناية عن بداية كارثة ستحلّ بلبنان عاجلا ام آجلا.
لم يتعلّم رشيد كرامي شيئا من حرب 1967 وما اسفرت عنه.
لم يستوعب على وجه التحديد امرين في غاية الاهمّية هما لماذا استطاع لبنان البقاء بعيدا عن هذه الحرب بما سمح له بحماية أراضيه، وما هي موازين القوى في المنطقة. لم يوجد في لبنان من يريد فهم المعنى الحقيقي لهزيمة 1967 التي في أساسها الجهل بموازين القوى في المنطقة.
لم يكن جمال عبد الناصر اكثر من مزايد لم يستطع ان يتعلّم شيئا من دروس الهزيمة. لم يتعلّم قبل ذلك شيئا عن مصر نفسها واهمّية التعليم وماذا يعني طرد الجاليات الأجنبية منها وانعكاس ذلك على مستقبل المدينة المصرية، خصوصا القاهرة والإسكندرية والاسماعيلية…
يتحمّل المسلمون السنّة مسؤولية كبيرة بالنسبة الى توقيع اتفاق القاهرة. ولكن ماذا عن المسيحيين الذين كان يفترض بهم ان يكونوا على دراية بما يدور في هذا العالم وفي المنطقة؟
منذ توقيع اتفاق القاهرة الذي لم يعترض عليه سوى زعيم مسيحي واحد هو *ريمون ادّه*، بدأ السقوط المسيحي بشكل تدريجي وصولا الى قمّة بيروت التي تجسّد سقوط لبنان.
ليس عيبا الاعتراف مسيحيا بانّ هناك مشكلة لدى الزعماء الموارنة. تكمن المشكلة في الاستعداد لتقديم كلّ التنازلات من اجل الوصول الى رئاسة الجمهورية.
قلائل بين الموارنة يرفضون، الى يومنا هذا، الوصول الى رئاسة الجمهورية بايّ ثمن. كان احد هؤلاء ريمون ادّه الذي لم يقبل هذه المعادلة وفضّل اللجوء الى فرنسا على البقاء في اسر العقدة التي تتحكّم بالموارنة… وصولا الى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية بصفة كونه مرشّح “حزب الله” اوّلا واخيرا.
انتمى ريمون ادّه الى عائلة غنيّة أصلا. لذلك لم يلهث خلف المال. لم يتعرّف على المال بعد تقدّمه في السنّ. كان يعرف كيف يحمي لبنان وكيف تفادي لعبة السلاح والميليشيات التي لا طائل منها. لعلّ اهمّ ما اكتشفه ريمون ادّه باكرا هو ما هو النظام السوري الذي قام بعد 1970 والذي عزّز وضعه الداخلي والإقليمي والدولي بعد “حرب تشرين” 1973.
في خمسين عاما، اثبت مسيحيو لبنان، الذين اضاعوا كلّ الفرص التي توافرت لهم، انّهم غير مؤهلين للارتفاع الى مستوى الحدث الإقليمي وما يدور في المنطقة ومعنى ان تكون ايران في بلدهم وان تخلف الوصاية الايرانية الوصاية السورية مباشرة بعد اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005.
لم يفهموا معنى إعادة رفيق الحريري الحياة الى بيروت ولا معنى ان يكون رئيس الجمهورية في لبنان نسيب لحّود وليس اميل لحّود.
في السنوات الخمسين الماضية، اقدم مسيحيو لبنان على أسوأ الخيارات بدءا باللجوء الى إقامة ميليشيات خاصة بهم خدمت في نهاية المطاف النظام السوري الذي *أراد ضمّهم الى حلف الاقلّيات*.
ما فشل النظام السوري في تحقيقه نجحت فيه “الجمهورية الإسلامية” التي باتت تقرر من هو رئيس الجمهورية في لبنان وتحدّد “معايير” تشكيل الحكومة فيه… هل من سقوط مؤلم اكثر من هذا السقوط؟