تَبنِي هذهِ الأفكارُ، مِن «عَصرِ الامبَراطوريَّةِ»، مَوْقِفاً مُمَيزاً في مَسيرةِ الحضارةِ اليُونانِيَّةِ. إنَّه موقِفٌ يؤسِّسُ لِبدايةُ الانتقالِ مِن «مرحلةِ المعرفةِ»، فِعلَ تَمييزٍ للـذَّاتِ عنِ الآخَرين، إلى «مرحلةِ الإرادةِ»، فِعلَ تأكيدٍ لِمَعرِفَةِ الذَّاتِ، وَسَعيَ تَحقيقٍ لها مِن خِلالِ تَجذيرِ وُجُودِها والعملِ على استمرارِ تَجَلِّيهِ. فلئن سَعى الإنسانُ اليونانيُّ في العصرين الهُوميريِّ والهِلِّينيِّ، إلى الحريَّةِ، عَبْرَ معرفةِ ذاتِه؛ فإنَّه، مع تعرُّفِهِ عليها، في عصرِ الامبراطوريَّة، بدأ يُمارسُ حريَّته فِعلَ إرادةٍ لتحقيقِ معرفتهِ بذاتـِهِ ولديمـومِـِة وجودِها. لكن، إذا ما كانت بدايةُ مرحلةِ الإرادةِ هذهِ، قد تمثَّلت في تحـقـيقٍ أنانيٍّ للقُوَّةِ، لِمصلحةِ الذَّات الفرديَّة؛ فإنَّها بدأت تأخذُ، في المـراحلِ التَّاليةِ، مساراتٍ أكثرَ عُمقاً، لكن أشدَّ مراعاةً للقِيَمِ الأخلاقيَّةِ. ولعلَّ مِن أبرزِ الأفكارِ التي تَشْهَدُ على هذهِ المراحلِ التَّالِيَةِ مِن التَّعامُلِ مع موضوعِ الحريَّةِ، وتَجَسُّدِ مناحي التَّعاملِ مَعَ الذَّاتِ، في «مرحلةِ الإرادةِ»، في الحضارةِ اليونانيَّةِ، ما دَعا إليهِ كلٌّ مِن «سُقراط» Socrate، و«الكَلبِيُّون» The Cynics و«أفلاطون»، Plato و«أرِسطو» Aristotle.
I. سُـقـراط:
إنْ كانَ بعضُ السُّفسطائيينَ قد دعا إلى ممارسةِ الحريَّةِ فِعلَ تحقيقٍ للذَّاتِ الفرديَّةِ، مِن خلالِ رؤيةٍ واقعيَّةٍ حادَّةٍ منطلقةٍ مِن قِيَمٍ أنانيَّةٍ للقوَّةِ، فإنَّ سقراط قد دعا، أيضاً، إلى تحقيقِ الذَّات الفرديَّةِ كذلكَ، ولكن عن طريقِ قِيَمٍ أخلاقِـَّةٍ. إنَّ زرعَ سقراط لمبادئه المتعلِّقة بالخيرِ والفـضيلةِ، قد أدَّى، وفاقَ ما يُشير إليه أستاذ الفلسفة في جامعة باريس، البير ريفو، في الصَّفحتين 110 و111 مِن مؤلَّفهِ «الفلسفة اليونانية أصولها وتطوُّراتها»، ترجمة عبد الحليم محمود وأبو بكر زكي، منشورات مكتبة دار العروبة، القاهرة، سنة 1958، إلى معرفةِ الحرِيَّةِ على أنَّها فِعلُ الأفضل. أمّا ما هو هذا الأفضل، فأمرٌ يَعني، بَداهةً، التَّمَكُّن مِن مَعرِفَتَيْن: الأُولى مِن المُمْكِنِ تَعريفُها بأنَّها معرفةٌ أساسٌ بِهذا الأَفضل؛ في حِين يُمكِنُ تَعريفُ الثَّانيةِ بِأنَّها مَعرِفَةٌ مُؤَكِّدّةٌ لِهذا الأَفضل، مِن خِلالِ مَعرِفَةِ ما هُوَ دُونَهُ في الفَضِيلَةِ. بِهذا، يَكونُ فِعلُ الحُرِيَّةِ قَد أَخَذَ، مَع دَعوَةِ سُقراط إلى الأَفضل، مَنحَىً أَخلاقِيًّا؛ أَمَّا الهَدفُ مِن الحُرِيَّةِ، عِندَ سُقراط، فقد تَجَلّى في مَبْدَأ الاكْتِفاءِ الذَّاتِيِّ.
لقد حَدَّ سُقراط،، بِـدَعـوَتِهِ هذهِ، مِن جُموحِ اسْتِخدامِ القوَّةِ، تعبيراً عَن الذَّات الفرديَّة وتحقـيـقاً لِحُرِيَّتِها. أصبَحَتِ الذَّاتُ، بِحُكْمِ ما دَعا إليهِ سُقراط من معـرفةٍ، واقِعةً ضمنَ قانونين أو حدّين أساسيين: الأوَّل، ويتناولُ الأفضل، وهذا يَعني مَعرفةً أخلاقيَّةً في موضوعِ الحُرِيَّةِ؛ أمّا الثَّاني، فَيَتناوَلُ الكِفايَةَ الذَّاتِيَّةَ، وهذا يَعني مَعرِفَةً في الذَّاتِ السَّاعِيَةِ إلى الحُرِيَّةِ مِن خِلالِ تَحديدِ احتِياجاتِها وقُدراتِها على تَلبِيَةِ هذهِ الاحتِياجات. لقد صارَتِ الحُرِيَّةُ، مِن خلالِ دعوةِ سُقراط، فِعلاً ذِي نَشاطَيْنِ اثنينِ؛ يَتَمَثَّلُ الأوَّلُ مِنْهُما بِتَطويرِ الذَّاتِ باتِّجاهِ الفَضِيلَةِ، بَيْنَما يَتَمَثّلُ الثَّاني فِي كَبْحِ جماحِ الذَّاتِ عن أَذِيّةِ الآخرين، لكن ليسَ مِن خلالِ قوانيـن الخارجِ الموضوعةِ، بَل مِن خلالِ قُوى هذه الـذَّات ومداركِـها الذَّاتيَّة الدَّاخليًّة. فالحُرِيَّـةُ، ووفِـاقـاً لِهـذا التَّصوُّرِ، قِيمَةٌ أخلاقِيَّةٌ عَمَلِيَّةُ تَنمو مِن داخِلِ الذَّاتِ الفَردِيَّةِ. وعلى هذا، فَإِنَّ الحُريَّةَ تَتَجلّى فِي كُلِّ تَوَجُّهٍ نَحو الفَضِيلَةِ؛ بَيْنَما تَتَحَقَّـقُ العُبودِيَّةُ في كُلِّ ما هُو ضدَّ الفَضِيلةِ.
II. الكَلبِيُّـون:
إنَّ ما يَفرُقُ تَفكيرُ الكَلبِيينَ، استِناداً إلى ما يَذْكُرُهُ المُفكِّرُ والمؤرِّخُ والفَيلسوفُ العَرَبِيُّ المِصرِيُّ، يُوسُف كَرَم (1886-1959)، في كِتابِهِ المُتعدِّدِ الطَّبعاتِ والواسِعِ الانتِشار، «تارِيخُ الفَلسَفَةِ اليُونانِيَّةِ»، عَن تَفكِيرِ سُقراط في الحُرِيَّةِ، يَقومُ على الاختِلافِ بَيْنَهُ وبَيْنَهُم فِي مُنْطَلَقِ الفِعلِ المَعرِفِيِّ لإدراكِ الحُرِيَّةِ. فَلَئِن أَدرَكَ سُقراط الحُرِيَّةَ مِن خِلالِ مَعرِفَتِهِ للفَضيلَةِ، فَإنَّ الكَلبيين أَدركوا الحُرِيَّةَ مِن خِلالِ مَعرِفَتِهِم لِمَوْقِعِ الإنسانِ مِن الآخَر؛ إِذْ حَوَّلَ الكَلبيون فِكرةَ سُقراط عَن الحُرِيَّةِ مِن مَجالِها الأَخلاقِيِّ إلى المَجالِ الشَّخصِيِّ.
صَحيحٌ أنَّ الكَلبيين رَأوا، مِثْلَ سُقراط، أَنَّ مِحوَرَ تَجَلِّي الحُرِّيَّةَ يَكْمُنُ في مَبـدأُ الكِفايَةِ الذَّاتيَّة؛ إِلاّ أنَّهم اعتبروا أنَّ الاحتياجَ إلى الآخرِ عُبودِيّةٌ؛ في حِين إنَّ الكِفايَةَ الذَّاتيَّةَ هيّ حُرِّيَّة. وكأنَّ الآخرَ، ههُنا، مُناقِضٌ لِوُجودِ الذَّاتِ؛ أو هُوَ، بِالمَعنى الوُجُودِيِّ، جَحِيمُها. لَقَـد أَرادَ الكَلبِيُّون أنْ تكونَ الحُرِّيَّةُ فِعلَ استقلالٍ عن الغَيْرِ؛ وَهُم، بِهذا، حَقَّقوا سَعيـاً للخُروجِ مِن كلِّ ما هُوَ آخر. وعلى هذا، يُمكنُ اعتبارُ الطَّريقُ إلى الحُرِّيَّةِ، بالنِّسبَةِ إِلَيْهِم، يّكْمُنُ في القانونِ النَّابِعِ مِن الذَّات، ولكنه القانون الذي لا يَحتَكُّ بالآخر. والمُلاحَظُ، في هذا المَجالِ، أنَّ سُقراط نادى بِحُرِيَّةٍ لا تُسيءُ إلى الـذَّاتِ؛ غير أنَّها تأخذُ الآخرَ بِعَيْنِ الاعتبارِ، إذْ تَسعى إلى عَدَمِ أَذِيَّتِهِ. أمّا الكَلبيون، فقد سَعوا، منذُ البدء، إلى حُرِيَّةٍ بامْكانِها أنْ تَسْتَغنِي كُلِيًّا عن الآخَر. وعلى هذا، فقد تَعامَل الكَلبيون مَع الحُرِّيَّةِ على أنَّها الكِفايَةَ بالذَّاتِ؛ ونَظروا إِلى العُبودِيَّةِ على أَنَّها فِعلُ الحاجَةِ إلى الآخر.
III. أفــلاطــون:
يَختَلِفُ أفلاطون في تَعَرُّفِهِ على الحُرِّيَّة عن أرسطو كما عن الكلبيين؛ إذ لَمْ يقصد الفضيلةَ لأنَّها تُحَقِّقُ الكفايةَ الذَّاتيَّة، التي تعني الحُرِّيَّة؛ بل رأى أنَّ عليهِ قَصدَ الفضيلةِ لأنَّها، وكما يذكرُ في كتابِ «الجمهورِيَّة» The Republic، وفاقاً لما عرَّبه المترجم العربي السُّوري، حَنَا خبَّاز (1871-1951)، في الصَّفحتين 27 و28، مِن كتاب «جمهورِيَّة أفلاطون»، منشورات المطبعة العصريَّة، القاهرة، لا. ت.، الطَّبعة الثَّالثة، أنَّ عند أفلاطون فَضِيلَةً وحسب؛ كما أشار إلى مثل هذا الأب جيروم غيث (1911 – 1978)، في الصَّفحات 171-173، مِن مؤلَّفِهِ «أفلاطون – جَدَلِيَّةُ الفَسادِ والصِّراعِ الطَّبقيِّ، جدليَّة المُثُل والمُشاركة، جدليَّة الاصلاحُ والحُرِّيَّة والوحدة»، منشورات الجامعة اللُّبنانِيَّة، سنة 1970، ذاكِراً أنَّ الخيرَ، عند أفلاطون، يُرادُ لِذاتِهِ لا لِسِواه. وهكذا فقد تجلَّت الحُرِّيَّةُ، مع أفلاطون، في إرادةِ تحقيقِ الفضيلَةِ التي يَبْغيها المرءُ لِذاتِها، وليسَ لارتِباطِها بِسِواها. ويكونُ أفلاطون، مِن خلالِ هذا التَّعامُلِ المَعرِفِيِّ، قد استطاعَ إِخراجَ تَعَلُّقِ مَوضوعِ الحُرِّيَّةِ بِوُجُودِ الإنسانِ، لِيُصبِحَ وجوداً قائماً بِذاتِهِ، يُقصَدُ لِذاتِهِ، ويُرادُ مِن خِلالِها. أَصبَحَ، إذن، ثمَّةَ إنسانٌ وثمَّة حُرِيَّةَ؛ وباتَ على الإنسانِ، إِذا ما أرادَ الوُصولَ إلى الحُرِّيَّةِ، أنْ يُدرِكَ انفصالَ وجودها عنه، وأن يَصلَ إِليها لِذاتِها ولَيْسَ لأنَّها مِن عناصِرِ تشكُّلِهِ أو مِن عوامِلِ هذا التَّشَكُّل.
بيد أنَّ أفلاطون يميّز، في هذا المجال، بين اثنين من أسباب الوجود؛ إذ يَرى، بناءً على ما يَرِدُ في خلاصة الصَّفحات 259 إلى 274، من ترجـمـة Plato, Timese للأب فؤاد جرجي برباره لـ«أفلاطون تيمئيس»، مـنشورات وزارة الثَّقافة والسَّياحة والارشاد القومي، دمشق، سنة 1968، ما هو ضروري، وما هو إلهي. أمَّا الضّروري، فهو شرط المعرفة؛ غير أنَّ الضرورة، في النِّهايــة، ووفاقاً لأفلاطون، تُحدِثُ الشَّرَّ؛ في حين أنَّ الالهي، هو علَّة الوجودِ والخير. و لذا، يُمكن الاستنتاجُ بأنَّ أفلاطون يَرى أنَّ ما ينتُج عـن الضَّـــرورة متعلِّق بأسبابه الضَّروريَّة؛ وهذه الأسبابُ، ووفاقاً لِمَبدأ الضَّرورةِ، قابلةٌ للتَّغيير؛ وكلُّ مُتَغَيّر ناقص، وكلُّ نَقْصٍ شر؛ فكـلُّ شرٍّ، بالتَّالي، عُبودِيَّة. بينما يرى في النَّاتج عن ما هو إلهي، تعلُّقاً بأسبابٍ غير قابلةٍ للتَّغيير وفاقاً لِمبادئ الثَّبات الإلهيِّ؛ وكلُّ ثابتٍ كامِلٍ، وكلُّ كاملٍ خير؛ فكلُّ خير هو حُرِيّة. وعلى هذا يمكن فَهم تعريف أفلاطون للحُريَّةِ على أنَّها وجودُ الخَيْرِ. وهي، في وجودِها الخَيِّرِ هذا، وجودٌ خارجُ الإنسانِ؛ إنَّها وجودٌ إلهِيٌّ. وهكذا، فالحُرِّيَّةُ، مع أفلاطون، تتحوَّلُ إلى فِعلٍ إدراكِيٍّ للغَيْبِيَّات-المِثالِيَّات؛ وتَظْهَرُ مِن خلال إرادةِ الإنسان في السَّعي للوصولِ إلى هذهِ الغَيْبِيَّاتِ-المِثالِيَّاتِ.