1- أرســطــو:
يَربُطُ أرسطو موضوعَ الحُرِّيَّةِ بالاختيارِ؛ وهو يقدِّم، بهذا الرَّبط، تَتْويجاً رائعاً لِعَيْشِ الحُرِّيَّةِ مِن خلالِ الإرادةِ. وإذا ما كانت تجارب العصورِ والأزمِنَةِ السَّابقةِ لِأرسطو، وكذلك المذاهبِ الفكريَّة الأخرى في الحضارة اليونانِيَّةِ، قد سَعَت جميعُها إلى تحقيقِ الحُرِّيَّةِ عَبْرَ المعرفةِ، أو بتوجُّهٍ مُعَيَّنٍ للإرادةِ المُقَيَّدّةِ، فإنَّ أرسطو يَرى في الحُرِّيَّةِ مَجالَ تحقيقٍ أساسٍ للإرادةِ الواعية وحسب. إنَّ أرسطو ينظرُ إلى الاختيارِ المحقَّقِ لِلحُرِّيَّةِ باعتباره قائماً على أمرين مُتلازمين فيما بينهما: المعرفةُ والإرادةُ. فإذا ما وصل الإنسانُ إلى المعرفةِ، كانَ لهُ، عندئذٍ، أنْ يُمارس إرادته فِعل اختيارٍ للمعرفةِ التي تُحَقِّقُ له الحُرِّيَّةَ. فالاختيارُ، عند أرسطو، في كتابه Nicomachean Ethics، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، نقله إلى العربيَّة المُفَكِّرُ والفَيلسوفُ المصريُّ أحمد لُطفي السَّيِّد (1872-1963)، مـطـبـعة دار الكُتب المـصـريَّـة، سنة 1924، في الصَّفحات 113 إلى 115، من الجزء الثَّاني، فِعلُ اجتماعٍ للعقلِ مع الإرادة – أرســطـــو.
إنَّ فَهمَ أرسطو لِلحُرِّيَّةِ ينطلقُ مِن ضرورةِ تحقيقِ مبدأ وَعِيِ الحُرِّيَّةِ؛ أمّا هذا الوعي، فيشكِّل تطوُّراً نوعيّاً أساساً في تعامل الحضارةِ اليونانِيَّة مع الحُرِّيَّةِ. لقد تحوَّلت الحُرِّيَّةُ مِن وجودٍ مَعرِفِيٍّ أو اختيارِيٍّ مُقَيَّدٍ بِشروطِ اجتماعِيَّة مَوضُوعِيَّةٍ أو مِثالِيَّةٍ غَيْبِيَّةٍ، لِتُصْبِحَ وُجوداً مَعرِفِيًّا إراديًّا مرتبطاً بصاحبه فقط. وعلى هذا، فإذا مـا كانت الإرادةُ تحقيقاً للحُرِّيَّةِ عند أرسطو؛ فإنَّ سَلْبَ الإرادةِ هو تحقيقُ العُبودِيَّةِ بالذَّات. ولمَّا كانت الإرادةُ، في هذا المجالِ، وَعياً مَعرِفِيًّا؛ فإنّ َالحُرِّيَّةَ هي المعرفةُ بامتيازٍ، في حين إنَّ الجَهلَ، هو العبودِيَّةَ بامتيازٍ.
هكذا تبدو المساهمةُ الأسـاسُ التي قدَّمها منهجُ أرسطو في التَّعامل مع الحُرِّيَّةِ. إنَّهُ، باعتباره لِلْحُرِّيَّةِ وجود َإرادةٍ معرفيَّةٍ، قد وضعَ الإنسانَ أمامَ حقيقةِ وجودِهِ الكُبرى المُتَمَثِّلَةِ في السَّعيِ إلى المعرفة. فباتت الحُرِّيَّةُ، والحالُ كذلك، مصدراً لِدَيْمُومَةِ هذا الإنسان؛ وأصبحَ الإنسانُ، بالتَّالي، وجوداً هوَ الحُرِّيَّةُ عينها, لقد نقلَ أرسطو التَّفاعلَ الإنسانيَّ مع الحُرِّيَّةِ مِن حال ِالحُرِّيَّةِ السَّلبيَّةِ المُرتبطةِ بالآخـرِ، أكانَ هذا الآخرُ إنساناً أو تنظيماً اجتماعيًّا أو مثالِيَّةً غَـْيـبِـَّيةً، إلى حال ِالحُرِّيَّةِ الإيجابِيَّةِ الموجودةِ بِذاتِها، والمُحَقِّقَةِ بوجُودِها الذَّاتيِّ للتَّجلّي الحَقيقيِّ للإنسانِ. فَطالما أنَّ الإنسانَ قادرٌ على المعرفةِ، فهو قادرٌ على تحقيقِ ما تَكْشُفُهُ لهُ هذه المعرفةُ مِــن حُرِّيَّةٍ تكونُ مجالَ تَجلٍّ لوجودِهِ الإنسانِيِّ.
خـــلاصـــة:
لَمْ تَكُـن آراءُ أرسـطـو فــي الحُرِّيَّةِ، بِما تمثِّله مِن تركيزٍ على الإرادةِ المعرِفِيَّةِ، وليدةَ فراغٍ. لقد أتت نتيجةَ تطوُّراتٍ وتفاعلاتٍ كثيرةٍ عاشتها الحضارةُ اليُونانِيَّةُ في الحقبِ التَّاريخِيَّةِ المُتَعَـِّدّدَةِ التي مرَّت بها. وهذهِ التَّطوُّراتُ والتَّفاعلاتُ قـد قامـت على أساسِ فَهم ِالحُرِّيَّةِ بِناءً على المُدرَكاتِ المُوَلِّد ِبعضُها لبعضِها الآخر. وكانَ لكلِّ مرحلةٍ مِن مراحلِ تاريخِ الحضارةِ اليُونانِيَّةِ، كما لِكُلِّ مذهبٍ مِن مذاهبِ الفِكرِ الأساسِ فيها، أن تَسْتَوْعِبَ ما سبقها، وتولِّد منه تجربتها الخاصَّة بها. واستمرَّ هذا الإدراكُ التَّــوالدِيُّ، مِن خلالِ مِحوَرَيِّ المعرفةِ والإرادةِ، يُغَذِّي التَّعاملَ الإنسانِيَّ مَع الحُرِّيَّةِ ويقودُهُ؛ حتَّى وصلَ هذا التَّعامل إلى ما وَصَل َإليهِ في النِّهاية.
رئيس المركز الثقافي الإسلامي