من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحريّة (1)

رئيس المركز الثقافي الإسلامي

الدكتور وجيه فانوس 

لَئِن كانت ِالحُرِّيَّةُ فعلاً يَرتكــزُ على المادَّة المعرفيَّة التي يَسعى إليها الإنسان، فإنَّ ما في هذه المادَّة مِن جوهرٍ معرفِيٍّ يُحدِّد، بِحُكْمِ وُجودِهِ، خطَّة تفكير هذا الإنسان وتوجُّـهاتِه. والجوهرُ المَعرِفِيِّ يُؤدِّي، بذا، إمَّا إِلى إدراكٍ للمعـرفــة، تكـون المعــرفةُ فيه غايةً بِحَدِّ ذاتِها؛ وإمّا إِلى إدراكٍ بالمعرفةِ، تكونُ المعـرفةُ فيه وسيلةً لِتحقيقِ غايةٍ أبعد منها.

 

أمّا النَّتيجة المُتَحَصِّلَةُ، في كِلا الحالَين، فمرتبطةٌ ارتِباطاً وثيقاً بمصدر المعرفة المطلوبة. ويتعلَّقُ مصدرُ المعرفةُ بالقدرةِ الخاصَّةِ بكلِّ إنسانٍ على تحـصِيلِها. والإنسانُ، في هذا المجالِ، أمامَ احتمالين: امّا أنْ تكـونَ المعرفةُ نابعةٌ مِن خارجِ وُجودِه، فهي، بِذا، مِن مصدرٍ وَضعِيٍّ؛ وإمّا أنْ تكونَ مِن داخلِ هذا الوجودِ، وهي، بِذا، مِن مصدرٍ ذاتِيٍّ.

 

 

عِنْدَما لا يَتَمكَّن الإنسان مِن تحصيل معرفته مِن ذاته، فإنَّه يلجأ إِلى مصادر خارجيَّة للمعرفةِ، تكونُ، فـي أغلب الأحيان، وبِحُكم تقديمها لِما لا يقدر عليه أســاساً، مصادر فوقيَّة. والمعرفة الفوقِيَّة المصدرِ تكونُ ذات جوهـرٍ معـرِفِيٍّ عُلْوِيٍّ يتظَّهرُ، عادةً، مِن خلالِ أصولٍ غيبيَّةٍ أسطورِيَّة أو إلهِيَّة دينيَّـة.

 

إنَّها معرفة وضعيَّةُ المصدرِ، تدفعُ بِمتبنِّيها، بِحُكمِ إقرارِ هـــذا المُتَبَنِّي بِعجزِهِ عن إدراكـهـا كاملةً، إِلى سُـلوكِيَّـة تتَّصفُ بالتَّسليم المُطْلَقِ بها؛ فيكــونُ هـــذا التَّسـليمُ فِعــل إدراكٍ للمعرفةِ. ولمَّا كانت هذه المعرفةُ، في الأساسِ، مِـن مصدرٍ خارجيٍّ، فإنَّ مفهوم الحُرِّيَّةِ النَّاتجةِ عنها يبقى ضمن ما يمكن وصفه بالحُرِّيَّةِ السَّلبِيَّةِ؛ إذ تظــلُّ الحريَّةُ ضمنه مقيَّدةً بثباتيَّةِ مصدرها.

 

إنَّ قُدرَةَ الإِنسانِ عــلى تَحصيلِ مَعرفَتِهِ مِن داخلِهِ، تُؤدِّي بهِ إِلى اعتمادِ المصدرِ الذَّاتِيِّ للمعرفةِ؛ وهذا، ما يَقودُ، عِنْدَ الإِنسانِ، إِلى تحقيقِ معرفةٍ شخصيَّةٍ ذاتِ جوهرٍ موضُوعِيٍّ عَقْلانِيٍّ. وانْطِلاقاً مِن هذا المَنْطِقِ، فإنَّ هذهِ المعرفةُ، تدفعُ بالحاصلِ عليها، وبحُكْمِ قدرتِهِ على فَهمِها، إِلى سُلوكِيَّةٍ تَتَّصِفُ بالاستِقرارِ وتقودُ إِلى قناعاتٍ عقليَّةٍ تعتمدُ مبدأَ العِلِّيّةِ؛ مِمَّا يحكمُ فِعلَ الإِدراكِ بِالمعرِفَةِ. ولمَّا كانت هذهِ المعرفةُ، في الأسـاسِ، تنبثقُ مِن مَصدَرٍ داخِلِيٍّ قابلٍ، بتطـوُّر صـاحـــبه، للتَّغييرِ والنَّماءِ؛ فإنَّ الحرِّيَّةَ النَّاتِجَةَ عَنْهُ هِيَ حُرِّيَّةٌ إيجابِيَّة.

 

ويَظهرُ البُعد الإِيجابِيُّ لِهذهِ الحُرِّيَّة مِن خلالِ ارتباطِها بِمَقْدِرَةِ الحاصلِ عَلَيْها عَلى مُمارَسَةِ الفِكرِ الذي يَقودُ، بِحَرَكِيَّتِهِ المُتَوَثِّبَةِ والبَعِيدَةِ عنِ التَّسليمِ المُطْلَقِ، إِلى استِمْرارِ الجَدَلِ الذَّاتِيِّ والسّعيِ إِلى مَزِيدٍ مِن المَعرِفَةِ، أَيْ إِلى مَزِيدٍ مِن الحُرِّيَّة.

 

لَمْ يَستطعْ الإنسانُ، رَغمَ مُحاولاتٍ كثيرةٍ لهُ عَبْرَ امتدادِ الأجيالِ، أنْ يَصِلَ إِلى مُستوى تَحصيلِ المعرفةِ الكامِلَةِ، التي تُحَقِّقُ لهُ الحُرِّيَّةَ المُطلقَةَ؛ ولِذا، فإنَّهُ ظلَّ في حاجةٍ إِلى مَن يَسُدَّ تقصيره في محاولاتِ بحثِهِ عن هذهِ المعرفةِ. ومن هنا يُعتَبَرُ الدِّينَ، بالمعرفةِ الوَضْعِيَّةِ التي يُقدِّمها، سَنَداً أساساً للإنسانِ فـي هـذا المجال. والمُلاحَظُ أنَّ الدِّين، باعتبارِهِ مِن المصادِرِ الوَضْعِـَّةِ لِلمَعرِفَةِ الإنسانيَّةِ، يُراعي تَقصير الإنسان في إدراكِ المعـــرفةِ الكامِلَةِ؛ ولذا فإنَّهُ يُقَدِّمُ لهُ ما يَبغِيهِ مِن جوهرٍ مَعرِفِيٍّ عَـبْرَ وسائطَ مُحدَّدةٍ ولَيْسَ مِن خِلالِ الكَـشْـفِ المُباشِـــر.

 

إنَّ التَّعاليم، والشَّرائع والقَصص وكذلكَ الأمثالَ، التي يقدِّمها الدِّيـن، تُمثِّل نَوْعاً مِن التَّشَكُّل الظَّاهريِّ الذي يُغَلِّفُ حقيقةَ المَعرِفَةِ؛ لكـنَّه، وبحدِّ ذاته، تَشَكُّلٌ يَسِيغُ للإنسانِ تَقَبُّلَهُ بِحُكْمِ ما لا يزالُ هذا الإنسان يُعانيهِ مِن قُصورٍ أساسٍ في إدراكِهِ المَعرِفِيِّ. يُمكِنُ، تالِياً، وعـلى هذا الأساس، تَصَوُّر ما يقدِّمه الدِّين للإنسانِ مِن معرفةٍ عـلـى أنَّـه معرفةٌ مُغَلَّفَةٌ. لكن، ولأنَّها معرفةٌ مغلَّفةٌ، فإنَّها تتطلَّــبُ مِــن الحاصِلِ عَلَيْها أمرَين أساسينِ، أوَّلهما الكشفُ عنها، بِتَخْلِيصِها مِن التَّغـليــفِ الـذي يحـيطُ بِهـا؛ وثانيهما التَّعرُّف عليها، بإدراكها.

 

 

إنَّ قـصـورَ الإنسان عـن الإدراكِ الكُـلِّي للمعرفةِ، والمتمثِّل في عجزِهِ عن تحصـيلها بطريقـةٍ مباشِـرَةٍ، يضعه، إضافةً إِلى ما سَبَقَ، أمام خيارين صعبين لا بُدَّ له مِــن أحدهما. يتمـثَّـل الخـيار الأوَّل بأن يقرَّ الإنسان بنهائية عـجــزه وتقصيره؛ ويميل بالتالــــي إِلى التسليم المطلق بما يحصل عليه.

 

والإنسان، بذا، يكون قـــد رهن وجوده إِلى ما هو خارج هذا الوجود، مما يجعل من الدِّين دلالـة أساساً على عجز الإنسان عن تحصيل المعرفة بذاته. أمّا الخـيار الثَّاني، فيتمثَّل في حال مجاهدةٍ يأملُ الإنسانُ مِن خِلالها تحطيم العجـزِ وسَـِّد القُصورِ؛ فيكون، بِذا، قد رَهَنَ وجوده إِلى قدراته الذَّاتيَّة؛ واستمرَّ باحثاً بامتيازٍ عن المعرفة.

 

إنَّ هذا الخــيار الأخيـر يظلُّ من أبرز الأســباب التـي تـدفع بالإنسانِ إِلى امتحانٍ ومناقشةٍ للأمورِ؛ بل، وفي بعض الأحيان، إِلى رفــض ما يكشــفه أو يدركه من المصدر المعرفيِّ الوضعيِّ. فالمصدر المعرفيُّ، إذا لـم يكن نابعاً من الذَّات الباحثة عن المعرفةِ، يظلُّ، والحال كذلك، مبعث تشكيكٍ ومصدرَ تساؤلٍ!

 

إذا ما نأى الإنسانُ بذاتِهِ عن أن تكون مجالَ تسليم ٍمطلقٍ للمعرفةِ التي تَتَسنَّى لَـُه مِن خلالِ المصدر الوَضعيِّ؛ وإذا ما استمرَّ هذا الإنسانُ وجوداً اسـتـقــرائيًّـا للمعرفةِ، مِن خلال المصدرِ الذَّاتيِّ لها، فإنَّه يَجِدُ نفسـه بيـن حاليـن: الرَّاحة أو التَّوتُّر.
تتجلّى الرَّاحة في النَّهل من المعــرفـــة المُغَلَّفةِ، ومِن استخدامِها فِعل تحقيقٍ نِسبِيٍّ للحُرِّيَّةِ؛ في حين يَتجـلَّى التَّوتُّر في الاستمرار في البحث عن المعرفةِ الذَّاتيَّة المصـدر.
وهذا التَّوتُّر يَعني، فيما يعنيه، استمراراً لِجَهْلٍ يظلُّ ينتظـرُ جلاءً له. وهو، في هذا، جهلٌ يحولُ دونَ الوصولِ إِلى الحُرِّيَّة. فالإنسانُ، والحالُ كذلك، بين خيارين: إمَّا أن يـكـونَ حُرًّا بالمعرفةِ المُغَلَّفَةِ ويستريحَ؛ وإمَّا أن يظلَّ باحثاً عن معرفة تنبثقُ مِن ذاتِهِ، وتكونُ وسـيلةً إِلى الحُرِّيَّةِ التي تبـنـى عـليها، ويبقى هو على توتُّره.
و لمّا كــان من الصَّعب على الإنسانِ أن يُعاني التَّوتُّر وجودَ استمرارٍ؛ كما كــان مِن الصَّعب عليه، كذلك، أن يميل إِلى الرَّاحة فِعل ديمومةٍ لِـُوجــودهِ، فإنَّه كان يتقلَّب بين أحوال ثلاثة:
أ- يلجأ إِلى الدِّين، باعتباره مصـدراً وضعيًّا لمعرفة مغلّفة.
ب- يلجأ إِلى قدراته الذَّاتيَّـة، باعتبارها مصدراً لِمعرفةٍ استقرائيَّةٍ لا متناهية.
ج- يسعى إِلى مـصالحـة بين الحالين السَّابقين؛ إذ يسمو بمعارفه، التي حصلها من ذاته، إِلى ما يفرضه منطق الدِّين؛ أو يُسقِط معارفَ الدِّين، التي يتبناها هو، على منطقِهِ الذَّاتي.
لقد عانَى الفِكرُ الغَربِيُّ، انطِلاقاً مِن أوروبا، هذهِ الأحوالَ جميعا. تَجَلَّـتِ المعرفةُ الوَضْعِيَّةُ عندهُ، بدايةً، بالنَّهلِ مِن منابِعِ الدِّينِ، وتحديداً مِن تعالِيـمِ المَسِيحِـيَّةِ بِشكلٍ خاصٍّ.
وظهرَ هذا النَّهْلُ، بصورةٍ أساسٍ، انطِلاقاً مِـن مبادئ القِدِّيس بُولُس الرَّسولِ، ومِن الأَفكارِ التي عالجَها مُفَـكِّـرونَ وفلاسِفَةٍ أمثالَ القِدِّيسِ أوغَسطِين، وسبينوزا، وشوبنهَوْر. وتَجَلَّى السَّعيُ إِلى المعرفةِ الذَّاتِيَّةِ مِن خــلالِ ما عُرِفَ بالنَّزَعات العقلِيَّةِ أو المادِيَّةِ، والتي يُمْكِنُ التَّمثيلُ عَلَيْها بِالمَبادِئِ التي اسْتَنْبَطَها هِيغِل وماركس وهَيْدِجِر، وُصولاً إِلى سارتر.
أمّا تَجَلِّي الحالُ الثَّالِثُ، بالتَّسامِي والاسـقاطِ، فَيُمْكِنُ التَّدليلُ عَلَيْهِ مِن خِلالِ ما قدَّمَهُ كُلٌّ مِن ديكارت وكنت وشيلينغ.وانطِلاقاً الأَبْرَزَ مَع مَوْضُوعِ الحُرِّيَّةِ ومَفاهِيمِها وَقِيّمِها.
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الثَّانية، وموضُوعها: «القديس بُولُس الرَّسول»)