حينَ لا يَنْكَسِرُ قَيْدُ العُبُودِية

الأب كميل مبارك

يُخْبِرُنَا سِفْرُ الخُرُوج في الكِتَابِ المُقَدَّس، عَنْ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ الَّذينَ عَانَوا العُبُودِيَّةَ في أَرْضِ فَرَاعِنَةِ مِصْر، وعَاشُوا الذُّلَّ والحِرْمَانَ وانْغَمَسُوا في الوَحَلِ والطِّين، خِدْمَةً لأَسْيَادِهِم الَّذينَ كَانُوا لا يَمُنُّونَ عَلَيْهِم إلاَّ بقَليلٍ مِنَ البَصَلِ والخُبْزِ، والمَاءِ العَكِر يَبُلُّونَ بِهِ ريقَهُم تَحْتَ حَرِّ الشَّمْسِ وفَوْقَ لَهيبِ الصَّحْرَاء، وظَلُّوا هكذا إلى أَنْ أَتَى موسى فَحَرَّرَهُم بِقُوَّةِ الله، وعَبَرَ بِهِم إلى صَحْرَاءِ سينَاء، وهُنَاكَ تَخَلَّصُوا مِنَ الطُّغْيَانِ وتَنَشَّقُوا للمرَّةِ الأُولى نَفَسَ الحُرِّيَّة، غَيْرَ أَنَّهُم، وَهُمُ الَّذينَ اعْتَادَتْ قُلُوبُهُم الهَوَانَ وتَمَرَّسَتْ عُقُولُهُم بالخُضُوعِ، بوَعْيِ وبِلا وَعْي، ثَارُوا على مُوسَى، واسْتَعَادُوا بِنَاءَ العِجْلِ المُذَهَّب لِيَعْبُدُوه ويَسْجُدُوا أَمَامَهُ كَأَّنَّهُ فِرْعَوْنُهُم الجَديد، وحَنَّتْ أَحْشَاؤُهُم إلى بَصَلِ العُبُودِيَّةِ وأَنْكَرُوا على مَنْ حَرَّرَهُم فَضْلَهُ وتَنَاسَوْا فِعْلَه، مُثَبِّتينَ بِفِعْلَتِهِم هذه أَنَّ مَنْ تَرَبَّى على الذُّلِّ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ قيمَةَ الحُرِّيَّةِ ويُعْطيها حَقَّ قَدَرِها، ومَنْ كانَتِ العُبُودِيَّةُ مُعَشِّشَةً في قَلْبِهِ ونَفْسِهِ وعَقْلِهِ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ آثَارِها ويَنْقَطِعَ عَنْ جُذُورِها، فيَهْوَى الخُنُوعَ ويَسْتَعْذِبَ ضَربَاتِ جَلَّادِيه، هَمُّهُ مِنَ الدُّنْيَا أَنْ يَمْلأَ جَوْفَهُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَسْيَادِهِ أَو مِنَ الخَرُّوبِ الَّذي تَأْكُلُهُ الخَنَازيرُ ولا يُمَكِّنُه مِنْهُ أَحَد.
هَؤُلاء المَسَاكينُ لَيْسُوا فَقَط في صَحْرَاءِ سينَاء أَيَّامَ سِفْرِ الخُرُوج، بَلْ هُمُ على مَا هُم علَيْه في كُلِّ زَمَانٍ وكُلِّ مَكَان، تَرَاهُم في الأَحْيَاءِ والقُرَى والمُدُنِ على مِسَاحَةِ أَرْضِ النَّاس، يُنْكِرُونَ على مَنْ أَعْطَاهُم فُرَصَ الحُرِّيَّةِ دَوْرَه، ويَنْقَلِبُونَ عَلَيْهِ سَاعينَ، مَع مَنْ كانَ سَبَبَ إذْلالِهِم، إلى رَفْضِ مُحَرِّرِهِم وإبْعَادِهِ، مُسْتَعْمِلينَ شَتَّى الوَسَائِلِ لإعادَةِ العِجْلِ المُذَهَّبِ الَّذي يَأْكُلُ مَالَهُم ويَحْتَقِرُ حَالَهُم، جَاعِلينَ مِنْهُ طَريقَ الخَلاصِ وسَبيلَ الوُصُولِ إلى مَا تَهْدِفُ إلَيْهِ نُفُوسُهُم المَريضَةُ، فَيَقْنَعُونَ بِمَا يُرْضِي بُطُونَهُم لِتَتَخَدَّرَ عُقُولُهُم، ويَسْعَوْنَ عَنْ جَهْلٍ مُطْبِق، إلى أَنْ يَتَسَلَّمَ أَمْرَهُم أَنْذَالُهُم ويُقْصَى قِدِّيسُوهُم وأَبْطَالُهُم. فَوَيْلٌ لأُمَّةٍ لا تَعْرِفُ أَنَّ الشَّرَّ يَسْتَفْحِلُ إذَا سَكَتَ أَهْلُ الخَيْرِ عن الكَلام، وَوَيْلٌ لأُمَّةٍ تَبيعُ الزَّمَانَ الآتِيَ لتَرْبَحَ نُتَفًا مِنَ الحَاضِر، فيُصْبِحُ كَلامُها، مَهْمَا عَلا، أَشْبَهَ بِصَمْتِ القُبُورِ أَمَامَ أَعْرَاسِ أَهْلِ الطُّغْيَان.