الحق في المال الخاص كما العام.. وجيه فانوس

ثمَّة تحليلات كثيرة، تستغرقغالبيّة الأجواء العامّة كما الخاصّة في لبنان؛متناولة ما يحصل مؤخّرا، بشأن مصير الودائع الماليّة للنّاس. إنّها الوادائع التي ما برحت، منذ ما يزيد على سنتين، مجمّدةً، أو بالأحرى محجوزةً، لدى المصارف؛ وما ذلك سوى بناءًعلى قرارات متقلّبة،ما برحت تصدر عن حاكم المصرف المركزيّ، وتقوم إدارات المصارف بتنفيذٍ عشوائيٍّ لها. إنَّ ما يجري راهنًا في أروقة المجلس النّيابيّ، وكذلك عبر الحركات الماليّة المريبة وغير المنطقيّة للتّصاعد الأسطوريٍّ في سعر صرف الدّولار الأميركيّ، تجاه اللّيرة اللّبنانية، لا يترك أيّ راحة بال لدي اللّبنانيين كافَّة، كما لا يعطي أيّ انطباع مطمئنٍ لدى أحد من المراقبين الخارجيين المهتمّين بالوضع الحالي في لبنان، على مختلف جوانبه.

 

ثمّة استنتاجات مرعبةٌ،تنتشر في هذا المجال، مشيرة إلى مساع لتحميل المُودِعين عبء فقدان السّيولة المصرفيّة لأموالهم؛ وثمّة من يرى، تاليًا، أنّالأمر، برمّته، يقعضمن سعي جهاتٍ رسميّةٍ محدّدةٍ، معنِيَّةٍ بالشّأنِ الماليِّ بشكل خاصّ، بالعمل على تشريع،ما بات يعرف بـ«الكابيتال كونترول»، وقوننته؛ وذلك توفيرًا، من هذه الجهات،لغطاءٍ عمليٍّ تشريعيٍّ يتيح لها تحميل الحصّة الأكبر من عبء فقدان سيولة هذه الأموال، لأصحابها أنفسهم؛ وما هذا إلاّلإبعاد هذه المسؤوليّة الغير إئتمانيّة،عن كاهل حاكميَّة المصرف المركزيّ وإدارات المصارف؛والذبن هم من ذوي العلاقة المباشرة بهذا الأمر. ومن الجدير ذكره، بل التّأكيد عليه، ههنا، أنَّ حاكميّة المصرف المركزيّ، ومعها المصارف المعنيّة، التي ائتمنها النّاس على ودائعهم الماليّة، لا يمكن لها أن تكون إلاّ أن تحمل المسؤوليّةً المصرفيّةً البحتةً، تجاه هذا الحال، وذلك بحكم عقود الإيداعِ القائمةِ عليها، واستنادًا إلى أعراف التّعامل المصرفيِّ ومبادئه.

تشبه الضّجّة القائمة اليوم، بشأن أموال المودِعين، إلى حدٍّ بعيدٍ، تلك الاحتجاجات الصّاخبة، التي انتشرت بين النّاس، قبل أكثر من سنتين؛ حين نهض اللّبنانيون يطالبون باستعادة المال العام المنهوب للدّولة اللّبنانيَّة؛ خاصّة بعد أن وصفه بذلك، في حينه، السيّد رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة، وكما ألحّ، معه رسميًّا وشخصيّا، على المطالبة بالسعيّ الدؤوب لتحصيله، كبار كبار من حملة المسؤوليّة الوطنيّة وذوي الشّأن السّياسيّ في الدّولة. واقع الأمر،لم ينتج، منذ أكثر من سنتين، عن جميع هذه الاحتجاجات، سوى أنّها صارت هباءً شبه منثورٍ، في سياق توالي أحداث البؤس في لبنان. لقد استمرّ تداعي المصائب الاقتصاديّة والاجتماعيّة وحتّى الأمنيّة،في هذا البلد، وكأنّها طغيان طوفان أمطار؛ يجرف، بسيوله المتدفّقة،كلّ ما يقف في وجه مسيرة هيجانه، من عثرات واعتراضات وسدود. وكان أن قضى هذا السّيل على زخم إضرابات الرّافضين، وشتَّت تظاهرات المحتجّين، وبدّد تحقيقات الباحثين، كما أضلّ صراخ الموجعين. وكان له أن ينجز، تاليًا،هذاالخراب َالملموسَ والمنظورَ، مِمّا تعيشهُ الجمهوريّة اللُبنانِيّة، بكلّ ما فيها؛وذلك رغم الاعتراف الإعلاميّ الرّسميّ، المستمرّ للجهات الرَّسميّة المعنيّة، بحقوق ناس البلد، في مالهم العام، التي يكفلها الدّستور لهم.

ad

ولئن بات هذا التّسيّب للحقيقة والضّياع في المحاسبة، في موضوع انتهاب المال العام للدّولة اللّبنانيّة، حقيقةً معيشةً، طوال ما يزيد عن السّنتين المنصرمتين، أمرًا واقعًا؛ فإنّ الأمر صار، وللأسف المخزي، وكأنّه من باب موضوعات الفولكلور أو التّراث؛ وقد ألفها القومُ، إذ استحالت، في عيشهم اليوميّ،من باب الأمر المقبول والحدث المألوف؛فلا تليد فيها، ينشّط الهمّة ويشدّ العزيمة، ولا تغيير في أحوالها، يثير الوعيّ اليوميّ.

يشكّل نقص السّيولة، كما هو متعارف عليه علميّا، أحد الأسباب التي قد تتسبّب في إفلاس الدّولة؛ ويحدث هذا، عندما تكون الدّولة في حال تخلّف عن السّداد؛كما يكون عند عدم قدرة الدّولة على الوفاء بمدفوعاتها تجاهمستلزماتِهالشؤون الاستهلاك الآني؛ بما يرتّب عليها ديونًا وفوائد،بما لايمكّنها من تصفية قاعدة أصولها الماليّة بسرعة.

يمكن النّظر، في هذا الحال المزري للوضع في لبنان، عبر ناحيتين تحليليّتين واستنتاجيتين. ترى التَّحليلات العلميّة، أنّ الضّائقة الماليّة للدّول، هي في الأساس ليست مجرّد ماليّة على الإطلاق، بل إنّها مشكلة سياسيّة ماليّةبامتياز؛ تنجم عن طبيعة العلاقة السياسيّة القائمة بين الدّولة وشعبها. وتؤكّد هذه التّحليلات على أنّ الخروج من الضّائقة الماليّة للدّولة، لا يكون، في هذه الحال، سوى بإعادة نظرٍ جذريّةٍ، من قبلِ الدّولة، في طبيعة السّياسة الماليّة والاقتصاديّة التي أوصلتها إلى هذه العلاقة مع الشّعب. وتفيد مراقبة الواقع العمليّ الرّسميّ الرّاهنِ في لبنان، من جهة أخرى، بأنّ في هذا الحال الرّاهن ما يوحي، وبوضوح ساطع،وكأنّ الهدفَ الذي تجهد الدّولة في سبيله، لا يكمن في إعلان إفلاسها على الإطلاق؛ ما هو في سعيها إلى إعلان إفلاس الشّعب. إنَّ في هذا التّوجُه الملحوظ من قبل الدّولة، ما يبيّن أنَّ ثمّة خطّة للشّبكة المتولية السّلطة في البلد، منذ عقودٍ مديدةٍ من الزّمن، وخلال عهودٍ متلاحقةٍ من الحكم، في سعيها الدؤوب، إلىاستمرار إدارتها للسّياسة الماليّة للدّولة، بما يخدم مصالحها الذاتيّة وينمّي طموحاتها،رغم ما في هذا من مخالفات متناقضة مع الصّالح الوطنيّ العام، بل وتعديّات عليهِ مع الإجرام المقصود بحقّ الشّعب وماله الخاصّ كما العام.

 

لقد أثبت الواقع أنَّ في هذا السّعي، من قبل الشّبكة الحاكمة في لبنان، ما يضع الشّعب، أمام وجع الإذعان وبؤسِ الخضوع وذل الاستسلام، أمام نفوذ سياسات ماليّة لا تجديه نفعًا؛ وحكمًا قبالة ما قد يلحق بهذه السّياسات الماليّة، من خياراتٍ سياسيّةٍ، قد تكون أشدّ لؤمًا وإيذائًا وإجرامًا وطنيًّا وإنسانيًّا منها؛ وفي هذا ما يدفع إلى رؤية أنّ كلّ ما صار يعانيه لبنان، جرّاء هذا الوضع تجاه المال الخاص والعام فيه، من تخريب في بناه، وتشتيت لقواه، وما يلحق بكل هذا من بؤس في العيش وخراب للمجنمع وضّيم في مشاعر النّاس وتخريب لتوجهاتهم في بناء سليم لوطنهم، لم يكن لولا رؤية مبيّتة لإرغامهم على الرّضوخ لهذه الخيارات السّياسية وما تخفيه من توجّهات وتغيّيرات.

إنّ في هذا، جميعه، ما يخفي طموحًا انتهازيًّا قائماً، لدى جماعات من الشَّبكة الحاكمة في لبنان، إلى قلب المعادلة العلميّة القائمة على أنّ الخروج من الضّائقة الماليّة للدّولة، لا يكون، سوى بإعادة نظرٍ جذريّةٍ في طبيعة السّياسة الماليّة، التي أوصلت علاقة الدّولة مع الشّعب، إلى ما صارت إليه؛ إلى أنّ الخروج من الضّائقة الماليّة للدّولة، لا يكون، سوى بإعادة نظرٍ جذريّةٍ في وجود الشّعب بحدّ ذاته؛ وهذا لن يكون إلاَّ بإلغائه، عبر إعلان إفلاسه.

إنّ في هذا، ما يدفع إلى الاستنتاج، من هذه التَحليلات الكثيرة، التي تستغرق غالبيّة الأجواء العامّة كما الخاصّة في لبنان،بأنّ طموحًا شرهًا، من ناسِ هذه الشّبكة الحاكمة والواقفين في الدّاخل كما في الخارج، على دعم مصالحا وتحصين وجودها وتعزيز سلطتها،سيقود إلى تلاشي القوى المنتجة، لهذا الشّعب، فكريّا وعمليّا؛ بما يساهم في إعادة تشكيله، ليكون مكرّسًا لخدمة هذه الشّبكة الحاكمة وحدها ولصالح طموحاتها المتوحّشة وجشعها المجرم.

 

 

* (رئيس ندوة العمل الوطني)