التّحرير
غادة الخَرسا
أرى حَياتي في مرآةٍ؟ أشبهَ بنقاطٍ ملوّنَةٍ مُتماسكةٍ… أراها خُطوطًا، رسومًا وأشكالاً متجمّعةً بتناسُقٍ وانسجامٍ. لتظْهَر لوحةً مُعبَّرةً خَطَّتها أنامِلُ التّجرُبَة!
أكشِفُ ما توصّلتُ إليهِ بعد مُعاناةٍ قاسِيّةٍ وسعيٍ مُضيءٍ، بِمثابةِ مِصباحِ أمَلٍ في يدِ من يَبْحَثُ في عتمةِ هَذا العالم!
الأيامُ حاربَتْني وطاردَتْني إلى حدّ أنّ قِوايَ خارت.
يَئِسْتُ حَتّى من الطُّموحِ ومن التوجُّهِ إلى لا مكانْ… لا هدَف! لماذا؟ لم يعُد هُناك ما أتَحَدّاهُ أو أصْمدُ لأجلِهِ.
تُراني فقدتُ إيماني بوجودي؟
ألأَنّي أبحثُ عن ذاتي خارجَ ذاتي؟
فظننتُ أنّ السّعادهَ نَنالُها بالعَيْشِ الرّغيدِ والأيّامِ الهنيئَة؟
في تلكُمُ الأجواءِ تَدرَّجَ شَقائي في معارجِ الغربَةِ والضّياعِ،
فلم أعُد أملكُ سِوى نفسٍ مُتَأَوّهة وفكرٍ يبحثُ عَبَثًا عن أسبابِ، ما يتآكَلُني يَومًا بعدَ يوم؟!
من يُجاهِدُ يَبْلُغُ هَدَفًا
وإذ وافَتني عباراتٌ مِنَ الماضي السَّحيقِ حَسِبْتُني في وِحدَةٍ زمنيّةٍ، يَتَمازَجُ فيها الحاضِرُ والماضي!
تأمُّلاتٌ، فجّرَت في نفسي وعيًا، راسِمةً لحياتي تطبيقًا عمليًا، حوّلتني من شخصٍ يعيشُ على الهامِشِ إلى شخصٍ يجعَلُ كلّ فكرةٍ إنجازًا وفعلاً مُتْقَنًا…
أدركتُ أنّ الحياةَ تهبُ كلَّ مَن يجهَدْ هَدفًا ومثالاً.
أمّا أولئكَ الكسالى فَهُم يَحيَونِ وسْطَ فراغٍ باردٍ جامدٍ موحِشٍ، وغالِبًا ما نسمعْهُم يتأسَّفونَ على الوقتِ المهدورِ في تبذيرِ أموالِهِم ورتابةِ عيشهِم، ذلكَ أنَّهُم لا يَنْعمونَ بالعرقِ المتصبَّب من جبينِ العامِل ولا بعبقِ الإبداعِ الَّذي يحقّقهُ المفَّكّرُ والباحِثُ والأَديبُ والفَنان!
عندها وعيتُ، أنّ السَّعادهَ لا نذوُقها إلاّ بعدَ ولوجِنا غَوْرَ الأَلمِ وأنَّ ما يبدو لنا وَجَعًا، قد يكونُ مُدعاةَ للفَرح.
المخلوقاتُ كافةً تُعاني المشقّات
الحيواناتُ: تعملُ جاهدةً، لتوفّر غِذاءَها ولتحيا في مأمنٍ من المخاطِر:
الطيورُ: تتكبّدُ أشدَّ المعاناة ساعيةً وراءَ قُوتِها اليوميّ. قاطعةً المسافاتِ الطويلةِ بحثًا عن المناخِ الملائِم لها، متجنبةً أفواه الجوارحِ المفترسةِ، متّقيَّةً بنادقَ الصّيادين.
وماذا عن النملةِ! تلكَ الحاملةِ مؤونتَها بفمِها لتَشُقَّ دربَ العودةِ إلى جُحرِها!
ولا نباتاتُ الأرض؟
أَوَلا تشقُّ ظلمةَ التُربةِ قابعةً فيها رَدحًا من الزَمن دون أن تبصرَ النّور!
وكم عليها أن تعاني لتتفادى دودةَ الأرضِ أو جرثومةً تحاولُ امتصاصَ غِذائِها!
في خضمِّ شطحاتي: جاءَني من أشارَ عليّّ التعرُّفَ إلى عابدٍ مُستنير كُشِفَ عنه الحجابَ، لديهِ لكلَّ سُؤالٍ جواب، يَحيكونَ حولَهُ الكثيرَ مِنَ الأَقاويلِ العجيبةِ، منها أنَّه مُعطى سِرَّ الشّفاءِ. وطردَ الأرواحِ الشَّريرةِ وجلاءَ الملبَسِ!
تساءَلَتُ بِحيرةٍ: هَل أقصُده؟ أم أظَلُّ مع فراغِ أيّامي؟
لكنّ، لمْ لا؟ قد يساهِمُ العابدُ في سبرِ أغوارِ واقعي المريرِ الَّذي يُطبقُ علَيَّ بِجَناحَيْهِ المظلمَتَيْنْ.
… هُناك في مسكنِه بَرَزَ من إِحدى الغرف شخصٌ يَبدو في مُنْتَصفِ العُمرِ طَويلُ القامَةِ منتَصِبُها نحيلُ الجسمِ ذو لِحيةٍ صَغيرةٍ وجنتاهُ المُرتفعتانِ توحيان بترفُّعٍ وسُمّوٍ… نَظرتهُ تَنمَّ عن وقارِ المعرفةِ وعَميقَ الحكمةِ… ملامحهُ تَتَّسِمُ بالحيويَّةِ، تُلازِمُ ثَغرهُ اِبتسامَةٌ هادئةٌ مُشعةٌ بالسّلام، تُضْفي على مَحْياهُ شفافيةً جاذِبَة.
ما إن أطلَّ:
حتى خَيَّم على المكانِ ومنْ فيهِ شُعورٌ لم أَذُقْ مِثْلَهُ مِنْ قَبْل. مَلأَ الفرَحُ الأرجاءَ، وراحَ يَتَمَدَّدُ لِيَنْتَّشِر في الحَديقَةِ المحيطةِ.
في ظِلال تلكُم الأَجواءِ، وَجَدتُني أَسْتَصرِخُ اللهِ آهٍ!
ألا لَيْتَني أمتلِكُ هناءة كَالّتي تَنْعَمُ بها جدرانَ هَذا المسَكن!
ولمّا لم يطرح مُضيفي السُّؤالَ عن الدّافِع لِزيارتي، قُلتُ في سِّرّي: غريبٌ أمر هَذا الرَّجُلْ؟ لكّن ما هَمَّ: طالَما يَحتَويني كُلَّ هَذا السَّلامَ.
اصطحبَني مُضيفي إلى حديقته وَطُفْنا في أَحْضانِ الأشجارِ المثمرة والخضار وبراعمِ الزُهور المتنوعةِ، المنسِّقَةِ بطريقَةٍ خلاّبةِ.
أخبرني مضيفي أنّه زرعَها بِنفسهِ، يعتني بها ويَرْعاها.
أمْضَيْنا وقتًا نتَجَوَّلُ في الحديقةِ نتحدَّثُ عن الأرضِ، الإنسان والوجود. في حديثهِ شَدَّني شوقٌ إلى خفيٍ، لأبقى أذانًا صاغِيََةً ولم أصحُ إلى نفسي، إلاّ وأنا أراقِبُ الشَّمسَ تُشارِفُ عَلى رحلةِ المَغيب!
وإذ أستأذنتهُ للمغادرةِ، رافقني عبرَ رواقِ الحديقة مُتَمَنِيًّا عَلَيَّ مُعاودةَ الزِّيارةِ.
في طريقي تنبَّهتُ إلى أنَّ هُناكَ سكينةً انبلجّتْ في أعماقي…
تُراهُ حقيقيًّا ما أختَبِرَهُ
أتراها الحياةُ رَضيتْ عَنّي أخيرًا؟!
أيّامٌ قَليلَةٌ انصرَفَتْ
ووجدتُني مُندفِعَةً إلى التوجُّهِ نَحو النّاسِك.
أأخبرهُ عن مشاكِلي وهُمومي؟ عن الأيامِ الّتي تُشنُّ عليَّ حربُها الضَّروس؟
ربتَ النّاسِكُ على كِتفي بحنانٍ أبويٍ قائِلاً: «لا عليكِ» أُدرِكُ ما تشعرينَ بِهِ وأردفَ مُشفِقًا: «لو لكنتِ تُدْركينَ كُنهَ الحياةِ، لكنتَ أوفرَ النّاسِ سعادةً».
وتابع: «عندَ إطلالةِ الصِّباح كنتِ تعتَقدينَ أنّ الحياةَ مَلهاةٌ فأدّى بكِ عَبَثُكِ إلى طريقٍ مَسدودٍ… ولأنّك صَمَمْتِ أُذِنَيْكِ عن صَوتِ الحَقِّ، كان لكِ هَذا الامتحانُ العسيرُ علَّكِ تستفيقينَ من غَفوتكِ أو غَفْلَتِك؟
أَما آن لكِ أَنْ تَسْتَيقظي وتَعي الهدَف؟
واستَرسل: «أن تكوني إرادة الحياةِ، أن تكوني كلمةً معبّرةً في سِفرها فإِن رَفَضتِ تنتزعُكِ من كتابِها، لينتَهي بكِ الأمرُ، صَدفةً جوفاءَ في وادٍ أو صدىً يَتلاشى في المدى!
«أمّا إذا خُضتِ غِمارَها فستُساعدُكِ على اكتسابِ مَعنى جديدٍ، وبُعدٍ أعمقَ، وأفق أَشمَلْ!
«الأمرُ لكِ، أتُريدينَ أن تُحذَفي من صَفحاتِها أو أن تُبقي فيها؟
إذن، افتحي عَيْنَيْكِ، وعقلَكِ، وقلبَكِ، واعتمِدي ناموسَها، أطلِقي قدميكِ، وباشِري مسيرتكِ عَلى دربِ الجِهاد»!
بتوقّفِ مُحدِّثي عن الكِلام:
لم يَصْمُت، فصدى عباراتِه الضّاجَّةِ فيَّ، راحَت تُرافِقُ نبضاتِ قَلبي المتسارعةِ، فيها أنفاسي تتقَّطع.
وقطعتُ حبلَ الصَّمتِ فتوّجهتُ إليهِ بهذا السُؤال:
«حَدِّثني عن السّعادَة»!
أجاب: السَّعادةُ نسبِيَّةٌ تنمو وتتضاءَلُ وَفقَ مُستوى الوَعي، لدى كلِّ شَخص.
«ولأنّ كُلَّ ما هو على الأرض يخضَعُ لقانونِ النسبيّةِ» فلا وجودَ للسَّعادةِ المطلقةِ في هذا العالمِ»
السّعادةُ تتحقّقُ للمُجاهِد المثابرِ الّذي يَعي مَعَ كُلِّ خُطوَةٍ، أَنَّ البشريَّةَ حلقاتٌ مُترابِطَةٌ في سلسلةِ الوجودِ الإنساني!
وَأنَّ السِرَّ يَكْمُنُ في التَجَدُّدِ، إنَّهُ أشبَهُ بنارٍ مشتَعِلة، هَذه النّارُ تَخبوُ إِن لم تتغذَّ بِوَقودِ المحبَّةِ الّتي تُبقيها مُتَأَجِّجَة عَلى الدَّوامِ»؟!
مرّهً أُخرى، اخترقتُ جُدرانَ الصّمتِ لأسألَ العارِفَ: ما الحقيقةُ؟
بنبرَةٍ مِلْؤُها الثّقَةُ والهُدوءُ، أَجابَني: «الحقيقةُ ليسَ بإمكانِنا الإِحاطَةُ بها، المستطاع هو التوجُّهُ نحوَها»!
«وكيفَ لنا إدراكُ كُنهِها»؟
أجابَ: الحقيقَةُ، لا تَحتاجُ إلى مَن يُؤَكِّدُها أو يَنْفيها. الإنسانُ هو من يَحتاجُ إلى الثّقةِ بوجودِها: إنّها قابعهٌ فيهِ، ساطِعَةٌ كالشّمسِ، وما عليهِ سِوى أن يَستشعِرَها»!
– بحماسةٍٍ قلتُ: «أشِرْ عَليّ أَيُّها الجَليلُ، كيفَ السَبيل؟ ومن أينَ أبدأُ»؟
– «مهلاً مهلاً، قبلَ أن تأخذي قراركِ، أَوَّدُ إطلاعَكِ عَلى أمرٍ في غايَةِ الأهميّةِ: هَذه الدربُ ليست يَسيرة بل عسيرةٌ تستوجبُ الكدَّ والمثابرةُ. ناموسُها يَقضي عدمَ التساهُلِ مع الكسالى واللاّمبالين، ولا تحتضِنُ المتشائِمينَ الضُعفاء».
عدتُ الحُّ في السُؤال: «من أينَ أبدأَ»؟:
أجابني بهدوئِهِ المعهودِ: «هل أنتِ عَلى استعدادٍ للتقيُّدِ بمبادئِ الدَّرْبِ»؟
باندفاع بالغ رديتُ: «كلُّ الاستعداد. أتكونُ هذه الدربُ أكثرَ إيلامًا مِمّا يُلازِمُني منذ حَداثَتي؟ على الأقلّ سيكونُ ألَمًا مُثمِرًا لا فارغًا، موحِشًا، كالّذي أُعاني منهُ»!
هنا انتصبَ العارِفُ النّاسِكُ واقِفًا؛ ليَرُدَّ بِنَبْرَةٍ قاطِعَةٍ: « لا لا تقولي إنّ الألَمَ فارِغٌ! إنّما جَهْلُكِ لِمَغزاهُ جَعَلهُ في نَظَركِ فارِغًا»!
« مشيئةُ اللهِ الحَكيمةُ يَسْتَحيلُ أن يصدُرَ عَنها ما هُوَ عَدَمُ المعنى والغايَة… ثُمّ ألا ترينَ أنّ الأَلَمَ هُوَ ما قادِك إلَيَّ»؟
…تِلْكُمُ الجُرُعاتُ كانَت مِن القُوَّةِ بِحَيْثُ وضَعَتْني في مُواجَهةٍ مع نَفْسي، أحسستُ بِدوّامَةٍ تُلُفّني…
كُنتُ أَتَحَرَّقُ من ظَمَأٍ شَديدٍ، بِتَجُرُّعي الماءَ استشرفتُ كأنّ أنهاراً باردَةً تَجْري لتَجرُفَ مَعَها الماضي، كاشِفَةً عن الحاضِر بوضوحٍ جَلِيٍ. ولَمّا أَجَلتُ النَظرَ حَوْلي رأيتُ النّاسِك في صلاةٍ مُتَأَمِّلاً بانسحاقٍ قلتُ: أسألُكَ النُصحَ»؟
أجابَني بِفرَحٍ وقد استشرفَ تَحَوُّلي:
نصيحتي الأولى: أن تَمُدِّي يدَ العَوْن للآخرين، تَحْتكّينَ بهِم، فَعَبْرَ مُساعَدَتكِ لَهُمْ تُسرعينَ التَّسلُّقَ سلالِمَ التَّرقِّي.
أصداء الماضي
وكانَ سكونٌ مَهيبٌ وها قد بزغَ النّورُ مُرسلاً خيوطَهُ الّتي هي أشبَهُ برُموزٍ تطلُّ مِن خلالِ أزمانِ اللاّوَعي!
مملؤةً بفرحٍ لم أعهدُه من قبل.
ودّعت النّاسِكَ العارِفَ، وعُدتُ أدراجي إلى مسكني، ناهِضًا بي العزمُ للسّيرِ قُدُمًا في دربِ الحَقِّ، درب الجِهاد، تغمُرني الغبطَةُ فيما عقلي طافِحٌ بالأسئلةِ في الجديدِ الَّذي سَوْفَ يأتي!
يقينًا سوف يأتي… لا يمكن تصوّره غير آتٍ.
أيكونُ الرّبيعُ صَحراءَ خاليَةً من الأزهار؟
هل يَصدِعُ اللَّيْلُ الشّمسَ فلا تعودُ تُشرِقُ؟
من لا يَنظرُ الآتي الجَديد غارقاً في سُباتٍ لا توقظه بِدءَ الحياةِ الحقّ:
أَيُّها الآتي المُنْتَظَرُ، نسألُكَ مِن أَجلِ لِبنان مَدَدًا…
أهِّل أبناءَه للسيْرِ في دربِكَ القويمِ وتسلُّقَ المَراقي مجذوبينَ بِحَنانِكَ نَحْوَ أعالي الغَمامِ نحوَكَ.