نزار قباني في الذكرى السنوية الـ24 لوفاته والـ99 لولادته شاهدُ حق قد يكون غير مرغوب فيه

ولد نزار قباني في 21 من شهر آذار سنة 1923م في دمشق، وتوفّي في 30 من شهر نيسان سنة 1998م في لندن.

الشَّاعرُ الحَقُّ نَبْضُ حياةٍ؛ ولِذا لا يَموت هذا الشَّاعرُ، فِعْلاً، إذا ما مات جسده؛ بل سيبقى وُجُودُهُ نابضاً بالحياةِ إلى أنْ يموتَ في شِعْرِهِ هذا النَّبض. و«نِزار قَبَّاني»، شاعرٌ ذو نبضٍ حياتيٍّ مُمْعِنٍ في قوَّته، عنيفٍ في تَدَفُّقِهِ، إلى درجةِ أنَّهُ ما برحَ يَكتنزُ، في نبضهِ هذا، طاقةً على مَنْحِ حياةٍ إلى كثيرٍ مِن مَواتِ العيشِ؛ وإلى درجةِ إعطاءِ أَلَقٍ إلى كثيرٍ مِن أُمورِ الوجودِ؛ إذا ما أَحْسَنَ مُتَلَقِّي النَّصَّ استدراج ذاتِهِ الى عيشٍ ما لهذه الأمور، وذلك من خلال ما يحكيه الشَّاعرُ عن عيشه هو لها، أو عَبْرَ منهج تفاعله هو معها!

واقعُ الأمرِ، وبشهادةِ عقودٍ مديدةٍ من الزَّمنِ وملايين النَّاس، وبتوثيقِ مكاتِبِ المبيعات في دُورِ النَّشرِ ومكاتبِ التَّوزيعِ، فضلاً عن تقديراتِ برامج محطَّات الإذاعة والتلفزيون، فإنَّه لا يمكن لـ«نِزار قَبَّاني» الشَّاعر، أنْ يموت؛ إذ ما بَرِحَ شِعرهُ ينبضُ بألفِ دفقٍ حياتيٍّ، وما انفكَّ هذا الشِّعرُ ينبعثُ بألف بريقٍ شعشعانيٍّ؛ بل ما فتئ يُحرَّكُ النَّاس، ويساهمُ في تكوينِ كثيرٍ مِن مشاعرهم وتشكُّلِ عديدٍ من انفعالاتِهم ورسمِ توجُّهاتِهم في بعضِ مساراتِ وجودهم.

ما زالت فَتياتٌ وسيِّداتٌ عربيَّاتُ كثيراتٌ، يَحْلَمْنَ بهذا الفارِسِ الحبيبِ الرَّاقي، يُقْبِلُ على الواحدةِ مِنْهُنَّ؛ بأناقتِهِ المُشرِقةِ وهدوئِهِ الفاتِنِ وحنانِهِ الدَّافِئ وِوَلَهِهِ الفتَّان، لِيدعوها، خلافاً لِما اعتادته مِن ثقافتِها مِنْ قيودٍ لزمانٍ أو شروطٍ لمكان أو طقوسٍ لبيئة أو ارتباطٍ بأيِّ اتِّفاق، أن تكونَ حُرَّةً طليقةً؛ فكلُّ ما تفرضهُ هذه الثَّقافة لن يكون، إذا ما هي أقدمت على حُبِّهِ:

أحبِّيني.. بلا عُقَدِ

وضيعي في خطوط يَدي

أحبِّيني.. لأسبوعٍ.. لأيَّامٍ.. لِساعاتٍ..

فلستُ أنا الذي يَهْتَمُّ بالأبدِ..

وما الحبُّ الذي يدعو شعرُ «نزار قبَّاني» إليه، سوى عصفُ الطَّبيعَةِ وغزارةُ العطاءِ وتفجُّر الأحاسيسِ، بكلِّ ما يمكن أن تشعُّ به من حريَّة وقوَّةٍ وخروجٍ عن كلِّ مألوفٍ أو معتادٍ أو حتَّى مقبول:

أنا تشرينُ.. شهرُ الرِّيحِ،

والأمطارِ.. والبَرَدِ..

ad

أنا تشرينُ فانْسَحِقي

كصاعقةٍ على جَسَدي..

وفي ما تُصَوِّرُهُ شاعِرِيَّةُ النَّصِّ، من تربُعٍ سعيد للأنثى على مجدِ عرش هذا الانطلاقِ الفَذِّ، لوجودها الأنثويِّ؛ فإنَّ هذا المجدَ لن يكونَ، إلاَّ إذا ما صار غَيْثاً يرفدُ وجودَ الشَّاعِرِ، ليذوبَ فيهِ جسداً وصوتاً وإحساساً، بل وعِبادةً.

ذُوبي في فَمي.. كالشَّمْعِ

وانْعَجِني بِأجزائي

تَعَرِّي .. واشْطُري شَفَتي

إلى نِصْفَينِ .. يا مُوسى بِسيناءِ

وليس ليدور في خلد واحدة مِن هؤلاء الفتياتِ والسيِّداتِ، تالِياً وأبداً، أنَّ هذا الفارس قد بلغ الخامسةَ والسَّبعينَ من عُمْرِهِ، قبلَ أن وُرِيَ جسده الثّرى؛ بل ليسَ ليجول في خاطر إحداهُنَّ، على الإطلاق، أنَّ هذا الفارسَ عينه، الذي تسحرها كلماتُه وحروفُها وإيقاعاتُها ومعانِيها، هُوَ الَّذي كانَ يهُدَهْدِ، بهذه الكلمات وما فيها، ُأحلامَ والدتِها، قبل ثلاثينَ، أو ربَّما جدَّتِها، قبلّ خمسين سنةٍ، أو حتَّى جدَّة والدتها، قبل سبعين سنة.

لقد تجاوزَ الشَّاعرُ في«نِزار قَبَّاني» الزَّمن؛ بل تغلَّب، بجدارة نادرةٍ، على هذا العدوَّ البارز للحياة. ولذا، فإنَّ «نزاراً»، الشَّاعر، ما بَرِحَ، وسيبقى طويلاً، بل طويلاً جداً، الفارسَ الخاصَّ والمُمَيَّزَ لكثيراتٍ جِدَّاً مِن صبايا هذه الحياة العربيَّة؛ وربَّما لصبايا أخرياتٍ، إذا ما عَرِفْنَ كيفَ يَسْمَعْنَ آهةَ الحُبَّ ورَنَّةَ إيقاعاتِ الغَزَلِ بِلسانِ رَجُلٍ راقٍ يُشَخْصِنُهُ شِعرُ«نِزار قَبَّاني».

الشَّاعر «نِزار قَبَّاني» لم يَطعن في السِّنِّ، ولم يَهرم، وما برحت كلماته وصوره، تُدَغْدِغُ القومَ، من محيط إلى خليج؛ وتجوبُ البحار والأزمنة حرَّةٌ طليقة. تدخل أحاسيسه القصور، وترى أنها في دارها؛ وتتغلغل مشاعرهُ في الأزقَّة، تنسلُّ خيالاته الى البيوت الصغيرة المتواضعة، وترى أنَّها في صميم حميمَّيتها وفي أساس تفاعلها مع العيش. ما فتِئَتْ كلُّ عاشقةٍ عاتبة، تَجِدُهُ إلى جانبها؛ يُكَفْكِفُ دموعها، يبشِّرها بأنَّ الحُبَّ سُلطانٌ، يقبِّلُ جَبينَها وخدَّها ويدَها؛ ورغم أنّها تعلمُ أنَّهُ أهملها وغادرها، ولعلَّه كان مع أخرى؛ غير أنَّها سرعانَ ما تنسى وتغفر وتزداد شوقاً وعشقاً وَوَلهاً، إذ تغنّي كلماته أنَّ هذا السُّلطان للحبِّ، هو سلطانه عليها، وليس على الإطلاق، سلطاناً لها عليه:

 

أيظن أنِّي لعبة بيديه؟

أنا لا أفكِّر في الرُّجوع إليه

اليوم عاد كأنَّ شيئا لم يكن

وبراءة الأطفال في عينيه

ما عدت أذكر.. والحرائق في دمي

كيف التجأت أنا إلى زنديه

خبَّأت رأسي عنده.. وكأنَّني

طفل أعادوه إلى أبويه

كم قلت إنِّي غير عائدة له

ورجعت.. ما أحلى الرُّجوع إليه..

وتصمت صاحبتنا قليلاً، تتملى مِن وجهِهِ، تُشبعُ النَّفسَ من بريق عينيه؛ وتُغمضُ جفنيها، تبتسمُ قليلاً، ثمَّ تصدحُ، بكلِّ ما تتُحِسُّ في وَلَهِها هذا، عبر كلماتهِ، أنَّه حريَّتها وحقيقة كيانها:

ما أحلا الرُّجوع إليه

ما أحلا الرُّجوع إليه

غالِبِيَّتُهُنَّ، وربَّما جَميعُهُنَّ، ما فَتِئْنَ يفرحنَ بهذا الشَّاعرِ، يُمْسِكُ بأيديهنَّ، يقودهنَّ إلى ساحة الرَّقص؛ يطيرُ بهنَّ في سماءِ بهاءِ أحلامٍ، يصنُعها لَهُنَّ مِن هوى أنفسهنَّ؛ يُحلِّقُ يحٌلِّقُ بِهُنَّ، إلى أبعد مِن بعيدٍ، يَهمسُ يَقول، يُنشد:

كلماتٍ

كلماتٍ

كلماتٍ ليستْ كالكلمات

ولكنها كلماتٌ، بلْ مجرَّد كلماتٍ؛ حتَّى ولو لم تكن كغيرها مما اعتدن عليه من الكلمات؛ غير أنَّها كلماتٌ؛ وما أُحيلى الحبَّ بالكلمةِ وحدَها عند الرَّجلِ، وخاصَّة في دنيا العربِ هذه.

هكذا يلتقي العربً، رجالاً ونساءً، مع الشَّاعرِ «نزار قبَّاني»، مِن أيِّ عصرٍ كانوا، وفي أي مكان نزلوا. وهكذا ما برح «نزار قبَّاني»، هذا «الرَّائع» بامتيازٍ، يتمكَّن من اختراقِ كلِّ الحجج، وكلِّ التَّمويهات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة، طيلة عقودٍ من الزَّمن ومساحاتِ هائلةٍ مِن سنين الأَعمار وبحار الأحاسيس وفضاءات الآمال ونيران الأشواق؛ ليستقرَّ في أكثر حميميَّات جُوَّانِيَّات الأنثى العربيَّةِ خصوصيَّةً وصِدقاً وبراءةً.

أحبَّ كثيرون أن يسمُّوا نزار قبَّاني «شاعرَ المرأةِ»؛ ولعلَّهُ، واقعاً، وفي أصدق تجليَّاتِه وأروعِها وأعمقِها وأكثرِها غِنىً بفنيَّةِ الشِّعرِ، شاعرُ الرجَّلِ العربيِّ بامتيازٍ وتفوُّقٍ وذكاءٍ فنَّيٍّ ورُقيٍّ في التَّعبيرِ والعَرضِ والإقناع. ومع كلِّ هذا، وواقعِيَّة ما فيه، فهل «نزار»، شاعرُ الغزلِ والحبِّ وحسب؟ وهل حدود «نزار» أن يكون رائعاً في تصويره للرَّجل، من خلال المرأة، وتقديمه للمرأة برؤية الرَّجل؛ ولكن في أجمل ما يمكن أنْ تُصَدِّقُهُ المرأةُ، وأكثر ما يمكن أنْ يُحِبُّه الرَّجل حقاً؟

والمذهل المُعجِبُ، ولربما أنَّه المؤسِفُ حقَّاً، والحالُ كذلك، أنَّ «نِزار قَبَّاني»، في الوجود العربي المعاصِر، شاعرُ الكلمةِ القادرة على النَّفاذِ إلى عُمْقِ فهمه هو لموضوعِها، وإلى أعماقٍ كثيرةٍ لدى متلقِّيها؛ إذ كما لهُ في الغزل، له، أيضاً في السِّياسة والاجتماع والوطنيَّة. وكما له في الشِّعر فقد كان له في النَّثر؛ وفي كلِّ ما له، كانت كلمته، عند كثيرٍ من متلقِّيهِ، واضحةً فاعلةً؛ وبعيدةً، عن تهويماتِ عُمقٍ فارغٍ؛ ونائيةً، عن ابتذالاتِ تَعقيداتٍ سَطحيَّة. لم يصدر «نزار قبَّاني»، عن عمقِ مفاهيمَ مُعْلَنَةٍ أو مُضْمَرةٍ، غريبة كلَّ الغرابة عن حقيقة ناسه؛ ولم تنبثق أفكاره عن فِكرٍ عقيمٍ مُترجّمٍ ومنقولٍ ببهرجةٍ لفظيَّةٍ وشربكاتٍ مضمونيَّةٍ، تكاد لا تؤدِّي إلاَّ الى عُقمٍ، وإلاَّ الى أمعانٍ في غربة الذَّات عن حقيقتها وحضارتِها وعُمقِ وجودِها وصُدقِ تطلُّعاتِها.

كلمات «نِزار قَبَّاني» كلمات حقيقيَّة؛ وقد تكون حقيقتها، عند جماعات عديدة معاصرة، من باب الحقيقة المرفوضة، والشاهدُ القميء؛ غير أنَّه شاهد على ما هو حاصل وموجود وحقيقي.

إذا ما كانت الكلمة فِعْلَ كشفٍ؛ فلعلَّ أروعَ مفهومٍ في اللُّغة العربيَّة للكلمة أنها مِن جذر (ك ل م)، و«كلم» تعني «جَرَحَ»؛ وفي «الجَرْحِ» كَشْفٌ لِما في الدَّاخل؛ فالكلمة كَشْفٌ. وإذا ما كان اللهُ، وكما جاء في النَّصِّ القرآنيِّ، قد كلَّم موسى تكليماً؛ فإنَّ الله قد كَشفَ لموسى، في تلك المرحلةِ، ما كشفَ لَهُ؛ وعلى هذا، فإنَّ جاء في «الكتاب المقدَّس» أنَّ «الكلمة» كانت في البَدءِ، فالكشفُ أو المعرفةُ هما اللَّذان كانا في البَدءِ؛ وعلى هذا. فإنَّ كان «السيِّد المسيحُ» كلمةُ الله، فإنَّ «السِّيد المسيح» مجالٌ كَشْفَ اللهُ من خلاله عمَّا كشفه.

و«نِزار قَبَّاني» في شاعريته كان شاعر الكلمة؛ وكلمته كانت فعل كشف، والكشفُ معرفةٌ، وحقيقةُ المعرفةِ أنْ تكون قَوْلاً وممارسةً، أن تكون فعلاً، و«نِزار قَبَّاني»، لأنَّه شاعرُ الكَشْفِ، استطاع تقديم المعرفة والفِعل عَبْرَها وبِها، وما برح قادراً على هذا بِشِعْره، حتَّى ولو كان قد وُرِيَ الثَّرى وأُسْكن جَسَده الرَّمس.

 

رئيس المركز الثقافي الإسلامي… د. وجيه فانوس 

جريدة اللواء