(رئيس ندوة العمل الوطني)… وجيه فانوس / جريدة اللواء
يُعتَبَرُ بُولُس الرَّسول، المَوْلودُ في طَرطوس، أحد قادة الجيلِ المسيحيِّ الأُوَل (Encyclopædia Britannica: Saint Paul the Apostle)؛ وفي رسالتِهِ إلى أهلِ رُومْيَـة، التي يَحفَظُها الإِنجيلُ، تصويرٌ واضحٌ ومعبِّرٌ عنِ المُعاناةِ المَسِيحِيَّةِ لِتَبَنِّي الحُرِّيَّةَ المُنْبَثِقَةَ مِن مَصدَرٍ وَضْعِـيٍّ؛ والتي صَوَّرها كَثيرٌ مِن المُفَكِّريـنَ الأُوروبِيينَ عَبْرَ العصــورِ. يُفَـرِّق القدِّيس بُولُس، ههُنا، بَيْنَ نامُـوسَيْنِ(1) أَساسَيْنِ يَتَحكَّمانِ في تصرُّفـاتِه: ناموسُ اللهِ ونامـوسُ الخَطِيئَةِ. أمَّا ناموسُ اللهِ، فَهُوَ ما يَتَجَلَّى في الذِّهـنِ؛ وإِذ َيُشيرُ بُولُس إِلى فِعلِ هذا التَّجلِّي بِناموسِ الذِّهنِ، فالذِّهـنُ عِندَهُ، هُوَ الإنسانُ الباطِنُ. أمّا نامـــوسُ الخَطِيئَةِ، ووِفاقاً لبُولُس الرًّسولِ، فإنَّه يَتَجلَّى في الجَسَدِ؛ وَهُوَ، قِياساً على ما سَبَقَ، الإنْسانُ الظَّاهِرُ. إنَّ الجسـدَ، فـــي هـذهِ الحالُ، مَقرٌّ للخَطيئَةِ، أيْ للفَسادِ؛ وهُوَ، تالِياً، وُجُودُ مَوْتٍ يَنْبَغِي التَّخلُّصَ منهُ. لِذا، فَثَمَّةَ صِراعٌ بينَ إِنسانِ الباطِـنِ (الذِّهنِ) وإِنسانِ الظَّاهِرِ (الجَسَدَ). ولا بدَّ، إِذن، مِن إِنهاءٍ للصِّراع، يَكونُ مِن خِلالِ ما تُعَرِّفُ عنهُ المَسيحِيَّةُ بالخلاصِ. أمَّا هذا الخلاصُ، فمُتَحَقِّقٌ مَسيحيًّا بِالمَعرِفَةِ، التي تأتي مِن خارجِ الإنسانِ. فالإنسانُ، بِحُكـمِ تَكوينِهِ، وتَحديداً بِحُكْمِ الصِّراعِ المُستَمِرِّ في هذا التَّكوينِ بَيْنَ ظاهِرِهِ وباطِنِهِ، عاجِزٌ عَن تَحصيلِ هذهِ المَعرِفَةِ بِنَفْسِهِ؛ ولِذا، فإنَّهُ يَسعى إِلى مَعرِفَةٍ وَضْعِيَّةٍ يُقدِّمُها لَهُ اللهُ بِيَسوعَ المَسيح.
يصوِّر بُولُس الرَّسول هذا الصِّراع التَّوتُّـريُّ مِـن خلال تَميِّيزه بين اثنين مِن أبرز عوامِلِهِ: الإرادة والفِعــل. يقول بُولُس، أنَّه لا يَفْعَل، في الواقعِ، ما يُريد فِعلُه، و لكـن ما يبغض هو فعله (رومية: 15-25)، وبذا، يُمكن فَهم سعي بُولُس الى الخَلاص، على هذا المُستوى، على أنَّه صراعٌ بينَ الإرادةِ والبُغض. تتجـــلّى الارادةُ، ههُنا، بتحقيقِ ناموسِ اللهِ؛ بينما يَتَجلَّى البُغضُ بِتَحقـيقِ ناموسِ الخَطيئة. فالإرادةُ هـي مفـتـاحُ الخلاصُ؛ إنَّها طريق التَّحرُّرِ مِن التَّوتُّر؛ بينما يُشَكِّلُ البُغضُ المدخـلَ إلى الاستمرارِ في التَّوتُّرِ، وهو هاويةُ الوقوعِ في ربقة عبوديَّته (Benedict XVI:Saint Paul) و(Brittle:Saint Paul).
ثمَّةَ إشكاليَّةٌ أساس يطرحُها هذا التَّصَـُّـور الذي يقدِّمُهُ بُولُس الرَّسول؛ فإذا ما كانَ الإنسانُ، وِفاقاً لِمـا يذكُرُه بُولُس، غيرَ قادرٍ على فِعل إرادتِـِه، فـكـيـفَ يكون، بالتَّالي، مسؤولاً عن أفعالِهِ التي تُصْبِحُ، عمليًّا، مُجرَّدَ نتيجـة حتـميَّة لِسَيْطَرَةِ عامِل البُغْضِ؟ واقِعُ الأمرِ، إنَّ المعرفةَ التي يُحـصِّلُهــا الإنسانُ مِن إدراكِهِ لِذاتِهِ، لا تُشَكِّل، بناءً على هذا الفَهمِ، الخلاصَ الحقِيقِيًّ. إنِّهـا مُجَرَّدُ اكتشافٍ لِكَوْنِ هذا الإنسان واسطةً أو أداةً لِتنفيذِ عامِلِ البُغْـضِ؛ وعلى هذا تَبْرُزُ ضرورةُ البحثِ عن مصدرٍ آخرَ لِلْمَعرِفَةِ؛ عَنْ مصدرٍ مِن خارِجِ الذَّاتِ الإنسانيَّة.
إنَّ الإنسانَ، مِن خلالِ ما يعرضُهُ بُولُس الرَّسول، لا يزالُ يعترفُ، عمليًّا و بإصـرارٍ، بِجَهْلِهِ وقُصُورِهِ عَن تحقيقِ المعرفةِ المُخَلِّصَةِ التي تَسْلكُ بِهِ الطَّريقَ إلى الحُرِّيَّةِ! هَكذا يَأتِي اللُّجوءُ إِلى المَصدَرِ الوَضْعِيِّ لِلمَعرِفَةِ، مُمَثَّلاً بالتَّعليم الدِّينيِّ وثقافاتِهِ، بَشيرَ خلاصٍ لِبُولُس. فالمَسيحُ، بِما يُقَدِّمُهُ مِـن رســالةٍ إلهِيَّةٍ، هُوَ الخلاصُ، وهو الدَّربُ إلى الحُرِّيّةِ. لا بدَّ، إذن، مِـن إدراكٍ للمسيحِ الذي هُوَ المَعرِفَة.
يَدخُلُ إِنسانُ بُولُس الرَّسول دُنيا إدراكِ هذهِ المَعرفــة لِيَلْتَزِمَ بِها؛ ولِيَقِف، تالِياً، عِندَ حدودِ هذا الإدراكِ، مُرتبطاً بِهِ، وغــير قادرٍ على تَخَطِّيهِ؛ لأنَّه، بِنَظَرِهِ، الغايةَ النِّهائِيَّةَ. وكأنَّ الإنسانَ، ههُنا، قد تَخَلَّى عَن ذاتِهِ لِيَدْخُلَ مَلَكوتَ اللَّه مِن خلالِ الخارِجِ. فالإنسانُ، والحالُ كـذلـكَ، لا يزالُ مُجَرَّدَ أداةٍ، إِمَّا لِعامِلٍ ذاتِيٍّ، وهوَ البُغضُ الذي يرفضُهُ إذ يَقُودُهُ إِلى الخَطيئةِ فَالمَوْتِ؛ وإِمَّا لِعامِلٍ خارجيٍّ، هُوَ المَسيحُ، الذي يقودُهُ إِلى الخلاصِ فالحَياةِ. والإنسانُ، بِذا وذاكَ، لا يزالُ غيرَ قادرٍ على التَّعامُلِ مَع حُرِّيَّتِهِ مِن داخِلِهِ. إِنَّه سَيَبْقى مُعرِّضاً سلوكَه لِتأثِيرِ المفاهيمِ الوَضْعِيَّةِ التي يَتَبَنَّاها، والتي قـد تقــودُهُ إلى التَّساؤلِ وإلى التَّشكِيكِ، وربَّما إلى الرَّفضِ؛ وبهذا ينتفي قِسْمٌ كبيرٌ مِن وُجودِهِ، الذي أَصبحَ وُجُودَ تَسامٍ مَع مَفاهيمَ عُلوِيَّةٍ غَيْرِيَّة.
[1]- يستخدم لفظ «ناموس» فـي تعريب «الكتاب المقدَّس»، بمفهوم النِّظام أو القانون أو المبدأ. ولقد تفشَّى هذا الاستخدام في بعض مجالات اللُّغَة العربيَّة المعاصرة. أمّا النَّاموس، في معاجم اللُّغَة، فهو من النَّمس؛ وفي معناه دلالة على الفساد. والنَّاموس، لغة، هـو ما ينمس به الرَّجل مِن الاحتيال؛ وهو كذلك، المَكر والخِداع، كما أنَّه بيت الرَّاهب، وهو أيضًا الشّرك، لأنَّه يُوارى تحت الأرض. وجاء أيضاً أنَّ النَّاموس هو صاحب سرُّ الخير، بينما الجاسوس صاحب سِـُّر الشَّرِّ؛ ويُطلق النَّاموس أحيانا على الملاك جبريل. [ينظر، على سبيل المثال، لسان العرب، مادة (ن م س)].*********************
مكتبة الدراسة:
• الكتاب المقدَّس، العهد الجديد.
• بدوي، عبد الرَّحمن. فلسفة العصور الوسطى، مكتبة النَّهضة المصريَّة، 1962، القاهرة.
• كرم، يوسف. تاريخُ الفلسفةِ اليونانِيَّةِ – مذاهب أساتذة الإنسانيَّة، تحقيق محمَّد ثابت، البندقِيَّة للنَّشر والتَّوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2018؛ والكتاب، بحدِّ ذاته، مُتعدِّد الطَّبعاتِ وواسِع الانتِشار منذ سنة ١٩٣٦.
• The Encyclopaedia Britannica: A Dictionary Of Arts, Sciences, Literature And General Information (Volume Xx), Alpha Editions, Dec 15, 2020.
• Brittle, Irving L. Saint Paul: The Right Man at the Right Time, WestBow Press, Bloomington, California, U.S.A., 2014
• Pope Benedict XVI, Saint Paul, Ignatius Press, San Francisco, California, U.S.A., 2017
******
(والى اللقاء مع الحلقة الثالثة «النهل من تعاليم المسيحية(ب)»