من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحرية (3)

الحرية من خلال اتباع النهل من تعاليـم المسيحية(ب) القديس أورليوس أوغسطين

شـَغَلَت الإشكالِيَّةُ التي نَتَجَت عَن طَرحِ القِدِّيس بُولُس الرَّسول، حَيِّزاً كَبيرًا مِن كتاباتِ المُفَكِّرين المَسِيحيينَ في أُوروبا؛ ومِـن أَبْرِزِ الَّذين سَعوا، مِن بَيْنِهِم، إِلى الغَـْوصِ فِـيـهـا والعملِ على تَحوِيلِها إِلى قَضِـيَّةٍ فِكرِيَّةٍ أساسِ، هو القِدِّيس أُورلِيُوس أُوغَسْطِين، الَّذي يَعودُ إِلى أُصول آسيَوِيَّةٍ نُومِيدِيَّةٍ-لاتِينِيَّةٍ، إِذ وُلِدَ في طاغاسْت (حالِيًّا هِي «سُوق أَهرَاس»، فِي الجَزائِر. كانَ أوغَسْطِين، خَطيباً ولاهُوتِيُّا وفَيْلَسُـوفاً وأَحَدَ كِبارِ آباءِ الكَنِيسَةِ الكاثُولِيكِيَّةِ؛ وقد اشْتُهِرَ بِنَزْعَتِهِ القائِمَةِ عَلى التَّوفِيقِ بَيْنَ العَقلِ والإِيمانِ؛ وَهُوَ الذي قَالَ بِأنَّ الإِنْسانَ حاصِلٌ عَلى الإِرادَةِ وَهُـَـو المُنَفِّذُ لها. فيكون القدِّيسُ أُوغسطين، ووفاقاً لما يؤكِّده أستاذ الدِّراسات والأبحاث الفلسفيَّة المصريّ العربيّ، يُوسُف بُطرُس كَرَم (1886 – 1959)، (كرم: تاريخ) قد نَفى، بِذا، تَصويِرَ الصِّراعِ في سبيل الحُرِيَّةِ، مفهوماً وقيمَةً، عَلى أَنَّهُ صِراعٌ بَـْينَ الإِرَادَةِ والبُغضِ. ولعلَّ الأَجدى، وِفاقًا لِمَنْهَجِ أوغَسطِين، أنْ يَكونَ التَّصويرَ الأَسـاسَ تَصويِراً للصِّراعِ بَيْنَ عـامِـَلَيْنِ أو نامُوسَيْنِ، أَحَدَهُما للهِ والآخَر لِلخَطِيئةِ؛ أَو يكونَ بَيْنَ مَحَبَّةِ انْتِصارِ نـاموسِ اللهِ، وبُغضِ انْتِصارِ ناموسِ الخَطِيئةِ. أمَّا الإرادةُ الإِنْسانِيَّةُ فَتَبْقى، وِفاقاً لِهذاالمَنْهَجِ، مُجَرَّد أَداةٍ تَفْعَلُ غَلَبَةَ أَحَد قُطْبَي الصِّراع على الآخر.

ad

 

إِنَّ الإِرادةَ، مِن هـذا المَنْظورِ، وإنطلاقاً مِمَّا يصِلُ إِليهِ دارِسون مُتَعَمِّقون لِفِكرِ القِدِّيس أوغسطين، من أَبرزِهم، المفكِّرُ المَوْسُوعِيُّ العَرَبِيُّ المِصرِيُّ عبد الرَّحمن بَدَوي، (بدوي: فلسفة:22-23) والأوروربيَّين جيمس سميث James K. A. Smith: On the Road وفالديمار تورك (Waldemar Turek: Lent with Saint Augustine) وُجُودٌ حُرٌّ فِي الأَساسِ؛ وأمَّا ما يَحصلُ مِن أَفعالٍ سَيِّئَةٍ، يَقومُ بِها الإنسانُ، فأمرٌ ناتِجٌ عن استِخدامِ هذِهِ الإرادةِ لِـصالِحِ نامُوسِ الخَطِيئَةِ، ولَيْسَ، على الإطلاقِ، عن استخدامها لِصالِحِ نامُوسِ الله.

 

يُمكِنُ لِلْمَرءِ أنْ يَفْهَمَ، تالياً، ومِن خِلالِ ما يُقّدِّمُهُ فِكْرُ القِدِّيسِ أُوغَسطِين، كَيفَ أنَّ للَّهِ عِلْمٌ بِما سَيَفْعَلُهُ الإِنسانُ بِإِرادَتِهِ. بَيْدَ أنَّ هذا العِلْمَ، مِن قِبَلِ اللهِ، لا يُحِيلُ الأَفعالَ مِن حُرَّةٍ إلى مَجْبُورٍ عَلَيْها. ويَبقى أَنَّ اللهَ، الــذي شَهِدَ لِتَحَوُّلِ الطَّبيعةِ الإنسانِيَّةِ مِن كَوْنِها طبيعةً خَيِّرَةًإِلى طَبيعَةٍ تَضُجُّ فيها عوامِلُ الشَّهوةِ والجَهلِ بَعدَ دُخولِ آدَمَ فِعلَ الخَطِيـئة؛ يُمْكِنُ، وبِفَضلٍ مِنْهُ، أنْ يَرُدَّ هذهِ الطَّبيعة َإِلى الخَيْرِ. وهـــــذا ما يُمَثِّلُ مبدأَ اللُّطفِ الألهيِّ، الذي طالما أكَّدَهُ أوغَسطِين والَّذيـن شايَعوه، عَبْرَ المراحِـلِ العديـدةِ التي مرَّت بِها الحضارةُ في الغَرب (بدوي: موسوعة:1:252).

 

باتَ حُصُولُ الإنسان على اللَّطف الإِلَهِيِّ شرطاً ضَرُورِيًّا لِنَجاحِ هذا الإنسان؛ بَيْدَ أنَّ ثمَّة مُشكلةٌ أَساسٌ تُواجِهُ فِعلَ الحُرِّيَّةِ في هذا المَجال؛ وهي مشكلةٌ تنبني على ما يؤكِّده الكتاب المقدَّس مفهومِ أنَّ اللهَ رحمةٌ وصلاحٌ، ومصدرُ كلِّ خَيرٍ؛ ومن هنا تولَّدت مقولةُ أنَّ الِإنسانَ روحانِيٌّ، ولا يمكن، تالِياً، فَصلُهُ عن الخير.اللُّطف، وكما يُفهمُ مِن رِسالةِ القِدِّيس بُولُس الرَّسول إلى أهلِ أفسس (العهد الجديد: أفسس:4:32)، هو الطَّريقةُ التي يرتبط بها الله دائماً بالنَّاس. يُصْبِحُ اللُّطفُ جانباً أساساً مِن طبيعةِ اللهِ، كما يُشَكِّل أساس كَوْنِ النَّاس طيبين. ومِن هُنا، ومِن ضمنِ مَبْدَئِيَّةِ الخَيْرِ، الذي لا يَرتَهِنُ إِلى أَيِّ سَعيٍّ إِلى أَجْرٍ أو مِنَّةٍ، فإنَّ الإنسانَ لا يَنالُ هذا اللُّطفَ بِناءً على عَمَلٍ يَقومُ بِهِ؛ وإِلاَّ مَا عُدَّ الأَمرُ لُطْفاً، بَـلْ صَارَ أَجْراً؛ إذْ الإنسانُ لا يَختارَ اللُّطفَ الإِلهيَّ، بَلْ إِنَّهُ يتلقَّاهُ. فاللُّطــفُ الإِلَهِيُّ فَضْلٌ، إِنَّهُ هِبَةٌ مَجانِيَّةٌ مِن لّدُنِ اللهِ؛ إِنَّه ثمرةُ اصطِفَاءٍ إِلَهِيٍّ، وليسَ ثَمَرَةَ أَعمالٍ إِنسانِيَّة.

ad

 

إِنَّ الخـطيـئـةَ، بِناءً على هذا الفَهمِ لِلفِكْرِ المَسيحيِّ، كَما قَدَّمَهُ بُولُس الـرَّســـول والقِدِّيس أوغَسطِين، هي العُبُودِيَّةُ؛ بَينما الخلاصُ مِنَ الخَطيئةِ هـَو الحُرِّيَّةُ. وبِذا يكونُ للإِنسانِ أنْ يَسعى إِلى حُرِّيَّتِهِ عَبْرَ طَريقيـنِ أساسَيينِ. يَتَجَلَّى الطَّريقُ الأوَّل منهما في ممارسةِ الإنسانَ للمعرفةِ التي يقدِّمها له الدِّين؛ فتكونُ سبيلاً إِلى خَلاصِهِ مِن ناموسِ الجَسَدِ. والحُرِّيَّةُ، بِذا، لَيْسَت سِوى ممارسةٍ لمعرفةٍ وَضْعِيَّةٍ؛ فَهي حُرِّيَّةٌ سَلبِـَّيةٌ. أمّا الطَّريق الثَّاني، فيتَجَلَّى في حصولِ الإِنسان على هِبَةِ اللُّطـفِ الإِلَهِيِّ؛ وهوَ، بِهذا اللُّطف، يُحَقِّقُ حُرِّيَّتَهُ، إِذ يتخلَّص مِن الخطيئــةِ. والحُرِّيَّةُ، بِذا، ليست ممارسةً لاختيارٍ ذاتِيٍّ، بِقدرِ ما هِيَ خُضُـوعٌ لاختيارٍ وَضْعِيٍّ فَوْقِيٍّ. وفي كلٍّ مِن هذينِ الحالَيْنِ، فإنَّ الإِنسانَ يُصبحُ حُرًّا بأمورٍ؛ لكنَّه لا يُصبحُ حُرًّا لِأُمُورٍ! تَبْقى الحُرِّيَّةُ، إِذن، حُـِّريَّةً نِسْبِيَّةً؛ ويَبقى مَن يَعيشُها خاضعاً لِما يُوضَعُ لَهُ مِن مَعارفَ/قَوانينَ؛ وتَبقى الذَّاتُ أَسيرةَ ما تتبنَّاهُ أو يكون اختِيارُها لهُ مِن قِيَمٍ وَضْعِيَّةٍ. ويَبقى السُّؤالُ/ البَحثُ يَتَرَدَّدُ صَداهُ فِي خَفايا النَّفسِ وأَسرارِها، عَن حُرِّيَّةٍ مُطلَقَةٍ، حُرِّيَّةٍ إيجابيَّةٍ مُسْتَمِرَّةِ النَّماءِ.

 

——————

 

{ مكتبة الدراسة:

 

• الكتاب المقدَّس، العهد الجديد.

 

• بـدوي، عــبد الرحمـــن، «موسوعة الفلسفة»، الطَّبعة الأولى، «المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسـات والنَّشر»، بيروت، سنة 1984.

 

• كرم، يوسف، تاريخُ الفلسفةِ اليونانِيَّةِ – مذاهب أساتذة الإنسانيَّة، تحقيق محمَّد ثابت، البندقِيَّة للنَّشر والتَّوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2018؛ والكتاب، بحدِّ ذاته، مُتعدِّد الطَّبعاتِ وواسِع الانتِشار منذ سنة ١٩٣٦.

 

• Smith, James K. A, On the Road with Saint Augustine: A Real-World Spirituality for Restless Hearts, Brazos Press, Michigan, U.S.A. 2019

 

 

• Turek, Waldemar, Lent with Saint Augustine, Liturgical Press, Collegeville – Minnesota, U.S.A. 2012

 

 

 

(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الرَّابعة: «سبينوزا و شــوبـنـهـور»)

 

 

 

——————

 

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي / الدكتور وجيه فانوس / جريدة اللواء