جريدة اللواء… د. وجيه فانوس
يؤكّد الواقعُ المَعيُوشُ، أنَّ السِّياسِيّين اللُّبنانيين هم أكثر من تغنَّى بالدِّيمُوقرَاطِيَّة ودعى إليها في لبنان، طوال ثمان وثمانين سنة؛ بَدأَت منذ أن جرى الإعلان عن دولة الاستقلال سنة ١٩٤٣، وما برحت ناشطة إلى هذه اللحظة من سنة ٢٠٢٢. ويبيِّن واقع الحال، في الوقت عينه، أنَّ الشَّعب اللبناني عانى من الغياب الفعلي للدِّيموقراطيَّة عن عَيْشِهِ السِّياسِيّ، طوال هذه السَّنوات الثَّماني والثَّمانين؛ وذلك بشهادة ما عاشه البلد، طوال عهود هذا الاستقلال، مِن اعتراضاتٍ صاخبةٍ وانتفاضاتٍ مضطربةٍ وثورات شعبيَّةٍ مُدَمِّرةٍ في المجالِ السِّياسِيّ؛ وكذلك في ما عاناهُ ناسُهُ، وعاينته أحواله العامَّة، جرَّاء نشوء حروب أهليَّة فوق أرضه، واستقواء بِخارجٍ دَوْلِيٍّ مِن قِبَلِ بعض ناسه.
الدّيِمُوقرَاطِيَّة في لبنان مُجَرَّد شعار سياسيٍّ، نَدُرَ أن تحوَّل فعلًا إلى واقع مَعِيشٍ. والدِّيمُوقرَاطِيَّة، في حقيقة السِّياسة في لبنان، خيمة عُهْرٍ؛ طالما لَجأ إليها كِبارٌ مِن قادة النِّظام السِّياسِيّ في البلد وأتباعهم، متكافلين ومتضامنين، لِتَسْوِيَةٍ يحفلون بها، تطالُ قضاياهم العالقة وتؤمِّنُ مصالحهم الخاصَّة وتُحَصِّل أرباح صفقاتهم الدَّاخليَّة منها والخارجيَّة وتُغَطِّي مساوىء قراراتهم وتُجَمِّلَ بُؤْسَ تشريعاتهم وتَسْتُرَ ما أَزْكَمَتْ روائِحُهُ الأُنوفَ من فحشِ ارتكاباتهم، وبغْيِ زَيْفِهِم في جميع ما يُظهِرونَهُ للشَّعبِ مِن خلافات تقوم بينهم وتناقضات يستفحل شرارها بين بعضٍ مِنْهم وبَعْضِهِم الآخر.
أَظْهَرَ ناسُ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بِزمام السُّلْطَةِ في لبنان، طوال هذه السَّنوات الثَّماني والثَّمانين، الممتدَّة منذ إعلانِ دولةِ الاستقلالِ وحتَّى اليوم، في خَيْمَةِ اجتِماعِهِم السِّياسِيّ القاهِرِ والمُتَعَسِّفِ والمُسْتَبِدِّ، فنونًا ضافيةً مِن التَّلاعب بالدِّيمُوقرَاطِيَّة؛ بِما لا يَجْرُؤ عليه، بَل ولا يَقْدِر لَهُ، حتَّى أَعتَى سَحَرَةِ خِيَمِ السِّيركِ في العالَم. لقد برعوا، إلى أقصى حَدِّ، في إيهام الغالبيَّة العظمى مِن ناس البلد بأنّهم لا يمارسون الشَّأن السِّياسِيّ إِلَّا في سبيلهم، ومِن ضِمنِ تفانيهِم وتضحياتِهِم في سبيل الخِدمة الوَطَنِيَّة. ولطالما بَيّنَ، ناسُ هذه الشَّبَكَةِ لأَبناءِ مَناطِقِهِم، في ما توجَّهوا بهِ إليهم مِن بيانات سياسِيَّة وأطلقوه في وجههم من خُطَبٍ منبريَّةٍ وشاركوا فيه أمام ناظريهم من مقابلاتٍ إعلاميَّةٍ، وأفرجوا عنه، خصِّيصًا لهم، من أخبار عن محادثاتهم الخاصَّة مع سفراء دُوَلٍ وقادة في إداراتِها للشُّؤون الخارجيَّة، لا يجب أن يعتبره الشَّعب إلَّا من باب تفانيهم الدِّيموقراطيِّ في خدمته ولا يحب أن يُفهم منه سوى أنَّه تعزيز لحضور هذا الشَّعب وتمتين للحريَّة الدِّيمُوقرَاطِيَّة التي يرفل بها. ولكم أصرَّ ناس هذه الشَّبَكَةِ الحاكِمَةِ على إيرادِ الحجَّةِ تِلْوَ أختِها والتَّحليل صُنْوَ التَّفسيرِ وما يتبعه مِن ضرورةِ التَّجويزِ وذَرائع التَّسويغ، بأنَّ ما يشهد له تاريخ كلِّ واحد منهم، من اختلافٍ لهُ مع زملائه السِّياسِيّين، وما قد يستجدُّ بينه وبينهِم مِن قتال حربيٍّ يصل إلى درجة التَّضحية بأرواح بعض المؤيِّدين لهُ من أبناء الشَّعب، والتَّابعين لحضوره من المأجورين والمستضعفين المحتاجين منهم، لا يمكن أن يكون إلا تعزيزًا منه لفاعليَّة الصِّراع الدِّيموقراطيِّ الوطنيِّ، في دعم المصلحة الوَطَنِيَّة للشَّعب ضمن حقه التَّمايز الدِّيموقراطيِّ، بل تعزيزًا أصيلًا منهم لهذا الحقّ.
اعتمد ناسُ الشَّبَكَةِ المُمْسِكَةِ بزمام الحكم وشؤون البلد في لبنان، الوَطَنِيَّةَ لونًا لخيمة اجتماعهم؛ فكان منهم، باسم الوَطَنِيَّة وبداعي الدِّيمُوقرَاطِيَّة، أعضاء في النّدوة البرلمانيَّة ووزراء في الحكومات؛ وكان منهم، كذلك، من تحالف مع قوى خارجية، صديقة أو عدوة، باسم الوَطَنِيَّة وممارسة منه لحريَّة الخيار الدِّيموقراطيّ. كان منهم، أيضًا وأيضُا، من عَقَدَ الصَّفقات المشبوهة، الكبرى منها والصغرى، ممَّا افتُضِحَ أمرها وممَّا ما برح أمرها مستورًا، باسم الدّيِمُوقرَاطِيَّة الوَطَنِيَّة؛ ووصل الحال مع بعضهم إلى أنَّ ثروة البلد النَّقديَّة من بنكنوت محلي ودولي وحتَّى من سبائك المعادن الثَّمينة، أصبحت في غياهب ألف قعرٍ مجهولِ المكانِ ومخفي الأوضاع ومغيَّب المسؤوليَّة، باسم الحقِّ الدِّيموقراطيِّ الوَطَنِيِّ.
قد يكون من المفيد الإشارة، ههنا، إلى أنَّ بعض النَّاس الحاليين في هذه الشَّبَكَةِ، ما كان لهم أن يُحَصِّلوا ما حَصَّلوه مِن مراكز لهم فيها، بداية الأمر، مِن دون قياداتهم لاعتراضاتٍ أهليَّةٍ، صاخبةٍ ودمويَّةٍ، عليها. وكان منهم، خلالَ ما اعتبروه دِيموقراطيَّةَ الرَّأي والحقِّ في الاعتراض، استثمار هذه الاعتراضات في سنوات اقتتال أهليٍّ، أنهك الوطن برمَّته، طوال عقدين متواصلين من الزَّمن تدميرًا وقتلًا. ويبدو أنَّ مفاهيم الشَّبَكَةِ وقِيَمِها ومناهج عملها وأساليب السَّعي فيها، قد راقت لبعض هؤلاء الَّذين دخلوا رِحاب السُّلْطَةِ والحُكمِ في لبنان، مِن باب هذه الاعتراضات؛ أنَّهم ما وجدوا أنفسهم، باسم ما ينادون به من وطنيَّةٍ وخيرٍ للشَّعب، إلَّا في ذُرى قيادتهم لهذه الشَبَكَةِ الحاكِمَةِ والمُمْسِكَةِ بِزِمامِ الأمورِ في لبنان.
بيَّنت نتائج الانتخابات النِّيابِيّة الأخيرة، رغم ما شاب إقرارها القضائي والإعلان عنها من قبل وزير الداخلية، من تأخير، ورغم ما أحاط بهذا التأخير من غيوم ملبَّدة من التأويلات؛ أن عددًا من الفائزين فيها يعلنون مواقف واضحة في مجابهة ناس هذه الشَّبَكَة إيَّاها، المُمْسِكَة اليوم بزمام السُّلْطَة وشؤون الحكم في لبنان.
يؤكِّدُ واقعُ الحالِ أنَّ هؤلاء الفائزين لا يتَّبعون مذهبًا دينيًا واحدًا، ولا ينتمون إلى طائفة دينيَّة بعينها، ولا هم من أبناء منطقة جغرافية واحدة. ومع هذا، فليس في أمرهم، حتى الآن، ما يختلف عن أمر الذين سبقوهم، وكان لهم أن تولوا زمام السُّلْطَة والحكم طيلة العقود الماضية. الجديد، ههنا، أن هؤلاء الفائزين وصلوا اليوم إلى الندوة البرلمانية بفعل انتخابات نيابية، وليس بفاعلية بندقية حملوها أو مدفع استخدموه. خلافًا لهذا جميعه، فإن بعضًا من هؤلاء الفائزين عانى ما عاناه جسديًا ونفسيًا، من أهوال القمع وتعسُّفاته، التي واجهه بها ناس الشَّبَكَة المُمْسِكَة، راهنًا، بزمام السُّلْطَة وشؤون الحكم في لبنان. الجديد الديموقراطي في كل هذا الأمر، أن هؤلاء الفائزين ما حققوا فوزهم إلا بناء على قانون انتخابي اقره ناس الشَّبَكَة الحاكمة، بعينهم، في الدولة اللبنانية، وأخضعوا ذواتهم للعملية الانتخابية، التي جرت آنفًا بإدارة سلطة الدولة مباشرة
الوضع، إذاً، في أوج ديموقراطي رائع؛ ولعله مثالي بالنسبة إلى الشَّعب اللبناني. ولذا، لا يجب ولا يمكن ولا يسمح التَّجاوز عن متابعة المفهوم الدِّيمقراطيِّ للشأن السِّياسِيّ. فأبرز ما في الدِّيمُوقرَاطِيَّة، أنها حكم الأغلبية بين متساوين؛ ومن هنا يبدأ حق الوجود الوطني في لبنان بفاعلية سياسية ديموقراطيَّة بيِّنة وجلية وواضحة ولا لبس فيها. إن من أصول الدِّيمُوقرَاطِيَّة أن تنهض جراء صراع سياسي حواري وطني بين موالاة ومعارضة؛ ولطالما أحبط هذا الصراع السِّياسِيّ الحواري الوطني في ما مضى، ولكم صار الأمر إلى حظره، وربما تحريمه، وتاليًا تجريمه، بصيغ تدعي الوفاق الوطني بادعاء الحفاظ على الوحدة الوَطَنِيَّة وصون الجمهور الدِّيموقراطيِّ لها. وواقع الحال، فإن اللبنانيين لم يفروا من كل هذا سوى ما آلت إليه أمورهم الراهنة من خسائر لا تحصى وويلات لا تُعَدُّ وفجائع طالت الوطن وناسه كافة.
لقد أصبح من الحق الوطني الدِّيموقراطيِّ، والحالُ ما عليه من مُحَصَّلَةٍ جَلِيَّةٍ للانتخابات النِّيابِيّة الأخيرة، والتي جرت بقانون أقره ناس الشَّبَكَة الحاكمة والمُمْسِكَة بزمام السُّلْطَة في البلد وأداروا وقائعها وأشرفت الدولة على إقرارها وقامت الجهات المعنية بإعلان نتائجها، أن يكون للممارسة الدّيِمُوقرَاطِيَّة تأسيس فعلي في لبنان، وأن يقر ناس هذه الشَّبَكَة، بأنَّ للبنانيين أن يمارسوا فاعلية حقيقية وأساسية وتأسيسية للخلاص من وجودهم التعس والمسحوق والمنهوب والمهدور الذي وصلوا إليه.
(رئيس ندوة العمل الوطني)