تَمَكَّنَتِ، غالبيَّةٌ معتبرةٌ من ناس الشَّبَكَةِ الحاكِمَةِ والمُمْسِكَةِ بزمام السُّلطة في لبنانَ، من التَّجديد لأعضائها، عَبْرَ المجريات الانتخابيَّة التي حصلت مؤخَّرًا في البَلدِ؛ كما استطاعت توطيد الدَّعائم المفهوميَّة والعمليَّة لمبدأ توريث مقاليد هذه الشَّبَكَةِ وشؤونِها ومنافِعها ومكاسِبها كافَّة، إلى أبنائِها وأحفادِها وحتَّى إلى أبناء الأحفاد مِن نَسْلِها. فالمواطن العاديُّ، هو آخر مَن يُمكن السُّؤال عنه وعن مصالِحِهِ ومتطلَّباتِهِ وطموحاتِهِ، في هذا السِّياق؛ خاصَّة وأنَّ هذا المخلوقُ لا يتعدَّى في وجودِهِ السِّياسِيّ والوطنيِّ، ضمن معطيات الشَّبَكَةِ، أكثر مِن تَزْويقٍ خارجيٍّ لا بدَّ منه
يَبْدُو، مِنْ وُجهَةِ نُظَرٍ أُولى، وَلَوْ عجلى، في نتائج الانتخابات النِّيابِيَّة الحاليَّة للمجلس النِّيابيِّ اللُّبنانِيِّ، أنَّه من العسير الوصول إلى مقدرة لإتِّخاذ قرارات نِيابيَّة مصيريَّة، قد تتطلَّب بعضًا من إجماع نِيابِيٍّ، او تَوافُقٍ شبه شامِلٍ. ويبدو، هذا المجلس، من وجهة نظر ثانية، أنَّه قد يصعب فيه تأمين كتلة نِيابيَّة وازنة وفاعلة، تظلُّ على تماسكها في وَجْهِ الشَّبَكَةِ الحاكِمَةِ؛ خاصَّةً وأنَّ بين مجموعة النَّواب التَّغيريين مِنَ الشَّبابِ الجُدد، من قد لايَجمعُ بينهم، أكثر من رغبة ذاتيَّة انفعاليَّة في رفضٍ ما لِزَمَنٍ وبِيئَةٍ مُعينين، والثَّورة عليهم؛ ولكن لمَّا يتبلور بعد، ما لدى هؤلاء الشَّباب التَّغيرين الواعِدين، ليكون مشروعًا وطنِيًّا متوازنًا وقويًا ومعطاءً.
يُشِيرُ ما بَدأَ يَطفو على السَّطح، من فقاعات المناوراتِ السِّياسيَّةِ التَّمهيديَّة لانتخاب رئيسٍ للمجلس النَّيابِيِّ الجديد، ما يمكن أن يشكِّل بيئة عمليَّة خانقةً لأيِّ محاولةٍ جدِّيَّة لِزرع أيديولوجيَّة سياسيَّة وطنيَّةٍ، واعِدةٍ بِتَغييرٍ يقوم خارج القيدِ الطَّائفيِّ التَّقليديِّ، أو ينهض على أسس المحاسبة الشَّعبيَّة الوطنيَّة الفاعلة. إنَّ كلَّ ما يطغى من هذه الفقاعات، وما يمكن أن يستتر تحتها، لا يبشِّر بغير أنَّ الشأن العملي الممكن في المجال، لا يرتبط بغير المساومات النِّيابِيَّة التقليدية؛ والقائمة، منذ عقود، على مقاربة المصالح والمساعي بين الأخصام. إنَّ القلق المُتأتي ممَّا بدأ يطفو على سطح انتخابات المجلس النِّيابِيِّ، قد يقود إلى قلق أشدَّ فاعليَّة وأقوى تأثيرًا في موضوع تشكيل الحكومة العتيدة؛ وخاصَّة لجهة الفاعليَّة الواضحة لهذه الحكومة تحديدًا، في المجالات العديدة والمتنوِّعة والمتشابكة للانتخابات المقبلة، في الخريف المقبل، لمنصب رئاسة الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة.
وَاقِعُ الأَمْرِ، إنَّ ثمَّة محصِّلات عمليَّة وواقعيَّة لجميع هذه الاستحقاقات، تتعلَّق بنوعيَّة أشخاصها وظروف عملها، لا يمكن تجاهلها أو التَّقليل من أسُسها على الإطلاق؛ إذ ترتبط عضويًّا، بما يحيط بها من أحداث إقليميَّة ومسارات دوليَّة كبرى، مع الأُسس المتقاطعة معها في الوجود اللُّبنانيِّ ومصالحه. لعلَّ من أبرز هذه الأمور ما يرتبط بموضوع الحقوق الوطنيَّة اللُّبنانيَّة في استخراج الغاز الطَّبيعيِّ والنَّفط ضمن الحدود البحريَّة اللُّبنانِيَّةِ، أو كان ذلك لجهة المجموعات السُّوريَّة المهاجرة والمقيمة حاليًّا في لبنان، أو كان، أخيرًا وليس آخرًا، في ما هو وثيق الصِّلات، مباشرة ومداورة، بالعلاقة بين الدَّولة اللُّبنانيَّة والموضوع الفلسطينيِّ بجوانبه كافَّة، أكانَ الأمر في الدَّاخل اللُّبنانيِّ أو كان ضمن تشعُّباته على أرض فلسطين المحتلَّة والمحرَّرة في آن.
لَطالَما كانَ مِن تَقاليدِ العيش اللُّبنانيِّ، ومنذ قيام نظام القائمقاميَّتين سنة 1843، أي منذ 178 سنة، وحتَّى المرحلة الرَّاهنة من هذا العصر، الإفساح الطَّوعيَّ أو القَصرِيَّ، لتدخلات دول أجنبيَّة فاعلة والانشغالات بوساطات لسفراء ومندوبين نافذين على السَّاحة اللُّبنانيَّة من أقصاها إلى أقصاها، وبِمختلف تنوُّعاتها وتباين ما يدينُ به ناسها من أيديولوجيَّات سياسيَّة؛ وذلك في محاولات لَمْ تَتَوانَ قَط، ولم تهدأ أبدًا، بل لم تشبع من اقتراح قرارت ومشاريع وآراء ذات صلة وتأثير مباشرين على السَّاحة اللُّبنانيَّة، بل وعلى المسار الوطنيِّ الرَّاهن والآتي، للشَّعب في هذا البلد. وتؤكِّد مراجعة لتاريخ لبنان المعاصر، ومنذ 178 سنة، أنَّه بعد أن تفاقم الوضع على السَّاحة اللُّبنانِيَّةِ واستحال الأِتِّفاق على أمير واحد لجبل لبنان، و بعد أن ظهرت التَّناقضات بين أعيان الدُّروز وبين الموارنة في الجبل، فإنَّ الدول الاوروبية فرضت في سنة 1843 حلاً نمساويًّا، اتَّخذ شكل نظام فدراليٍّ، يرتكزُ على التَّعدُّدِيَّةِ. وهكذا، كان على جبل لبنان أن يتوزَّع سياسيًّا وإدارِيًّا بين قائمقاميَّتين، واحدة للمسيحيين، والأخرى للدُّروز.
لَقَد حصل أن أَقَرَّت مَجمُوعَةٌ من الدُّول الأوروبيَّة، تألَّفت من بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنَّمسا وإيطاليا، في سنة 1861، قيام نظام المتصرفيَّة في لبنان، والذي ظلَّ ساري المفعول إلى سنة 1918؛ مع خسارة السَّلطنة العثمانيَّة للحرب العالميَّة الأولى، وتَمَكُّن الفرنسيين من فرض سلطة الانتداب على البلد. وكان أن بدأ النُّفوذ السِّياسيُّ والوطنيُّ المباشر والعميق، للانتداب الفرنسيِّ على لبنان، من سنة 1920 إلى سنة 1943. واتَّسم بناء الدَّولة اللبنانية، في العهود الاستقلاليَّة، بصورة عامَّة، بسيادة ضيِّقة الحدود للدَّولة، جرَّاء ما واجهته من محاولات للاقتتال الأهليِّ الدَّاخليِّ، مصحوبًا بنفوذ واضح، بأساليب دبلوماسيَّة أحيانًا، وبأخرى عسكريَّة مباشرة، في أحيان أخرى، تولَّته جهات أجنبيَّة. وما برحت أسماء عديد من السُّفراء تقف، في قاعة التَّاريخ، بصمةً فاعلةً في مجريات كثيرٍ من الأحداث والقرارت الأساسِ في لبنان؛ مبيِّنة مدى ترابط كثير من محطَّات ما هو داخليِّ في البلد، بما هو خارجيٌّ، رأيًا ومصلحةً؛ وكذلك فإنَّ وصول قوَّات الأسطول السَّادس الأميركيِّ، سنة ١٩٥٨، إلى شواطئ بيروت، أمر لا يمكن للتَّاريخ أن يُغفله على الإطلاق. وواقع الأمر، لن يمكن لأيِّ من يدرس التَّاريخ السِّياسيَّ المعاصر للبنان، سوى أن يقرَّ بأنَّ سفراء عديدين، وقناصل كُثُراً، ومندوبين أجانب مختلفين، ومعهم رهط من المستشارين والمستشرقين والتجَّار والمتنفذين، تعاوروا على التَّأثير الفاعل على كثير من مقدَّرات البلاد وقراراتها السِّياسيَّة وأحوالها الوطنيَّة.
تَأتِي الخُلاصَةُ أنَّ اللُّبنانيين، في هذه المرحلة الدَّقيقة والخطيرة من حاضرهم الصَّعب والشَّديد المَرار، يواجهونَ خيارين أساسين، قد لا يكون من وجودٍ واقعي لأيِّ ثالث لهم. أحد الخيارين، أن يبقَ اللُّبنانيُّون على وضعهم الأوَّل، الذي طالما حكى عنه التَّاريخُ، يدورون، معصوبي العينين، حول محور ساقية تجرُّ مياه الوطنِ إلى سواهم، فلا ينوبهم من مائها، لإرواء عطش دورانهم الأعمى، سوى نقاط زهيدة قد تأتيهم صدفة، أو تصل إليهم من باب تكارم من يدور بهم. والخيار الآخر، أن يقتنعوا بضرورة نزعهم للعصابة، التي تعمي عيونهم؛ ويتكتَّلوا في ما بينهم، رغم كلِّ ما يباعد بعضهم عن بعضهم الآخر، من خصومات وخلافات وتشنُّجات، لإزاحةِ هذه العصابة المُعمِيَةِ عن أبصارهم، ورؤية واقع مسيرهم وحقيقة طموحاتهم في مسارهم؛ إذ الوطن هو الأساس وليس ذلك الدَّوران الأعمى حول تلك السَّاقية.
إِنَّها خلاصةٌ برسمِ جميعِ اللُّبنانيين، وخاصَّةً هذهِ المجموعةُ من النَّواب الشَّباب التَّغييريين الجُدد، ممَّن قد لا يَجمعُ بينهم، حالِيًّا، أكثر من رغبة ذاتيَّة انفعاليَّة في رفضٍ ما، لِزَمَنٍ وبِيئَةٍ مُعينين والثَّورة عليهم، وهذا أمر طبيعِيٌّ؛ بيدَ أنَّ كثيرين من ناسِ الوَطَنِ، مَن بَقوا على قُربٍ مِنه، ومَن هاجَر، ولو مؤقَّتًّا، إلى بلادٍ أخرى، ينتظرون جميعهم، بلهفةٍ ورجاءٍ وإيمانٍ، أن يتبلور ما لدى النُّوَّاب التَّغييريين، القُدامى منهم والجُدُد الواعِدون، ليكون مشروعًا وطنِيًّا متوازنًا وقويًا ومعطاءً. وليَبْقَ ماثِلًا في البالِ الوَطَنِيِّ لِجَميعِ اللٌّبنانيينَ، نُوَّابًا ومُواطنين، حضور أطيافِ السُّفراءِ الأجانب، ومن وراءهم من قناصل، ووفود المستشارين وناسِ الأعمال، وحتَّى بعض المُستشرقين، الَّذين كان لهم أن يساهموا بكلِّ شَبِقٍ مصلَحِيٍّ، وإباحَةٍ سياسيَّة، بتوجيه عديدٍ أساسٍ من القراراتِ في لبنان، بِدءًا من سنة 1843، ولربَّما قبل ذلك، لما ارتأوا هم فيهِ نَفْعًا لِبِلادِهِم وخِدمَةً عَظيمَةَ الشَّأنِ لقياداتِها السِّياسِيَّةِ محَلِيُّا ودَوْلِيًّا.
هَوُذا واقِعُ حالٍ مُلِحٍّ؛ يَضُجُّ بِعُنْفٍ وَلَهْفَةٍ وإِسْتِغَاثَةٍ، أَنْ قَد آنَ لِلُّبنانيينَ جميعهم أن يؤمنوا بضرورةِ أن يصنعوا مواقِفَهُم الوطنيَّةَ بِأنفُسِهِم، وأن يَخُطُّوا قراراتهم السِّياسيَّة بِالحِبْرِ الوَطَنِيِّ لِعقولهِم الواعِية، وأن يسيروا واثِقينَ، بخطواتهم الذَّاتيَّة الثَّابتةِ، باتِّجاه دُرُوبِ الحرِّيَّةِ والكَرامَةِ والعِزَّةِ، تَحتَ قَناطِرِ استِقلالِهِم، وَرِفْقَةَ رَفْرَفاتِ بَيارِقِ خَلاصِهِم من استغلالِ شَبَكَةٍ حاكِمَةٍ ما، وبَعيدًا عن بَغْيِ جماعةٍ مُمْسِكَةٍ بِزمامِ السُّلطَةِ، أبًا عند جدٍّ، وَهَيْمَنَةِ الدُوَلٍ الأَجنبيَّةٍ والدَّخِيلَةِ.
(رئيس ندوة العمل الوطني)/ د. وجيه فانوس
جريدة اللواء