من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحرية (4)
أ) باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (1632-1677):
خــلافاً لِما قامَ بهِ كلٌّ مِن القِدِّيس بُولُس الرَّسول والقِدِّيس أوغسطين، فإنَّ الفيلسوف الهولندي، باروخ سبينوزا، وهوَ مِن أصلٍ يَهوديٍّ سِفارديٍّ بُرتُغاليٍّ، خطَّ لِنَفْسِهِ، منهجاً فلسفيًّا يُـؤدِّي إِلى الحُلولِيَّةِ الفِكرِيَّةِ، يَحسمُ كلَّ جدلٍ حولَ تعاطي الإِنسان مع الحُرِّيَّة؛ ويقرِّرُ أنَّه لا مجالَ حقيقيَّ للحُرِّيَّةِ في هـذهِ الحياة؛ وذلك كما يرد في دراسة أندريه كريسون (كريســــون: اسبينوزا).
ينطــلقُ سبينوزا في بِناءِ فِكرَتِهِ هذهِ، وفاقاً لما تشير مكتوبات سبينوزا (Benedictus de Spinoza: 138 – 140) وما يستخلصه ميكايل ديللا روكا، أستاذ الفلسفة الحالي في جامعة يال الأميركيَّة، (Della Rccoa:1-30)، مِن اعتبارِ أنَّ الطَّبيعةَ الإِلهيَّةَ هي الأساسُ فِي الوجودِ، وأنَّ اللهَ هوَ عِلَّةُ كلِّ وجودِ الأَشياءِ. واستناداً إِلى هذا الجَوْهَرِ المَعرِفِيِّ، المُتَحَصِّلُ عندَ اسبينوزا، يُصبِحُ وجـودُ الكَوْنِ مُجَرَّدَ ضرورةً منطِقِيَّةً ناتجـةً عن وجودِ اللهِ، الذي هُوَ العِلَّةُ الأَساس. ومِن هُنا، يَـرى اسبينوزا أنَّ الضَّرورةَ هِيَ التي تَحكُمُ الوجودَ، بِما في ذلـكَ الوجودَ الإِنْسانِيِّ. ولِــذا، فَهُوَ لا يُوافِقُ على أنَّ الأَفعالَ الإِنسانِيَّةَ ناتجةٌ عن دوافِعَ سابقـةٍ تُهَيِّءُ لها؛ بَلْ يُؤمِنُ بأنَّ الأَفعالَ الإِنسانِيَّةَ مَحكومَةٌ بضـرورةِ وُجودِها؛ ولِذا، فَهِيَ ليست بالأفعالِ الحُرَّةِ عـلى الإِطلاقِ.
لكن، و لمَّا كانَ اللهُ هُوَ عِلَّةُ الوُجـودِ، وفاقًا لمقولةِ سبينوزا، ولمَّا كانَ العـقلُ رَكيزةً للإِنسانِ، ولمَّا كانَ الإِنسانُ لا يستطيعُ أنْ يَعْقِلَ أَمراً أَعظَمَ مِن اللَّامُتناهِي، (كريســون: 124-132)، فإنَّ أعلى وظائفِ العقلِ الإِنسانيِّ تكونُ في السَّعـــي إِلى مَعرِفَةِ هذا اللَّامُتناهي، أي الله. مِن هنا، وبرأي سبينوزا، كما يشرح الباحث الفلسفي المعاصر وارن هارفي Warren Harvey: (41-46) فإنَّ الإِنسانَ كلَّما عَقِلَ فكرةَ اللهِ ووجودَه، أي عِلَّةَ الكَوْنِ، كُلَّما ازدادَ حُبَّه له. إِنَّ حُبَّ اللهِ، بِهذا المفهومِ، هوَ تحقيقٌ للمعرِفَةِ؛ وبالتَّالي، فإنَّ كلَّ ما يقوِّي هذهِ المعرفةَ خَيْرٌ، في حِينِ إِنَّ كلَّ ما يُضعِفُها شَرٌ. وهكذا، فإذا ما كانت القُدراتُ العقليَّةُ للإِنسانِ متمكِّنةً مِن ممارسةِ معرفَةِ اللهِ، كانَ هــــذا الإِنسانُ أقربَ إِلى الخَيْرِ، الذي هُو اللهُ. ومِن جهةٍ أُخـــرى، فكلَّما كانت قُدراتُ الإِنسانِ العقليَّة عاجزةً عن ممارسَةِ معرِفَةِ اللهِ، كانَ هذا الإِنسانُ أقربَ إِلى الشَّرِ منهُ إِلى الخّيْرِ.
إنَّ الحُـبَّ العَقلِيَ، وِفاقاً لِما يَبني عليهِ سبينوزا مَقولَتَهُ هذهِ، هُوَ ممارسةُ الخَيْر. والخَيْرُ يَعنِي، فِيما يَعنيهِ، في هذا المجالِ، فَهم أســـبابِ الضَّرورةِ التي تَحكُمُ الكَوْنَ. وبِفَهْمِ أَسبابِ الضَّرورةِ، يتخـلَّصُ الإِنسانُ، بِرأي سبينوزا، مِن ضَياعِهِ في خِضَمِّ البَحثِ عَـــن الحُرِّيَّةِ؛ في حِين أنَّ عَدَمَ الفَهمِ شَرٌّ، لِأَنَّه يُبقِي الإِنسانَ في قُيودِ جَهْلِهِ لِأسبابِ الضَّرورةِ؛ ويَدفَعُهُ، تالِياً، إِلىالاستمرارِ في غياهِبِ تِيهِهِ في هذا الجَهلِ. لقد باتت الحُرِّيَّةُ، إِذن، ووفاقاً لِما يُقَدِّمُهُ سبينوزا، تَخَلُّصاً مِن ربقَةِ شركِ البَحثِ عنها؛ وباتَ تَحقِيقُها ممارسـةً لِفِعلِ مَحَبَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لَعِلَّةِ الكَوْنِ، تَتَجَلَّى في مَعرِفَةِ اللهِ.
ب) آرثر شــوبـنـهـور Arthur Schopenhauer (1788-1860):
يعرف الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور غالباً، بأنَّه فيلسوف الَّتشاؤم؛ وتنبعُ رؤيتهُ المتشائمةُ، وفاق ما يشرحه الباحث المعاصر جوليان يونغ، في دراسته المفصَّلة لنظرة شوبنهور إلى الحُريَّة (Young, Willing)، مِن وَصفِهِ للطَّبيعةِ الدَّاخليَّة للعالمِ على أنَّها سعيٌ أعمَى بِلا هدفٍ؛ وهو يرى إِنَّ حياةَ المرءِ تعكسُ إرادتَهُ، والإِرادةُ (الحياة) هِيَ دافعٌ مؤلمٌ بِلا هدفٍ وغَيرِ عقلانِيٍّ؛ أما الخلاصُ، في رأيهِ، فيكونُ، كما يشير في:
Schopenhauer:
عبرَ الهروبِ مِن المُعاناةِ بالتَّأمُّل الجماليِّ والتَّعاطفِ مع الآخرينَ والزُّهد.
يتَّفقُ شوبنهورمـع ما يُوردهُ سبينوزا، وفاقَ ما يستخلصه المفكر الموسوعي العربي المصري، عبد الرحمن بدوي، (بدوي: شوبنهور: 70 – 73، 82 – 83) في أَنَّ العالَم محكومٌ بسلسلةٍ متَّصِلَةٍ مِن الضَّـــروراتِ؛ التي تُحَدِّدَ وُجودهُ وتقودُ هذا الوُجود. وتُمَثِّلُ هذه الضَّروراتُ، في نظرِ شوبنهور، مبدأَ العِلَّةِ الكافِيَةِ للحَياةِ، التي تَتَجلَّى في ارتباطِ الامتِثالاتِ النَّاتجـةِ عن بعضِ هذهِ الضَّروراتِ بِبَعضِها الآخَر. فالإِنسانُ، والحالُ كـذلكَ، أَسيرٌ مُمتازٌ لامتِثالاتِهِ للضَّروراتِ في الوجودِ. وإرادةُ الإِنسانِ، مِن هذا المَنظورِ، لَيْسَت إِلَّا اندِفاعاً أَعمَى، لا غَايَةَ أو هَـَدَفَ لهُ سِوى إِرادَةِ الحياةِ. وبِذا، فإنَّ شوبنهور يَختَلِفُ عن سبينوزا، الذي يَـرى في فاعِلِيَّةِ العَقلِ نافِذَةَ خلاصٍ يُمْكِنُ للإِنسانِ الولوجَ مِن خِلالِها إِلى حُرِّيَّتِهِ.
إِنًّ شوبنهور، إِذ يَضَعُ العقلَ ضمنَ مجالاتِ إِرادةِ الحـياةِ عــندَ الإِنسانِ، يقفلُ أَيَّ أمَلٍ بِكَسرِ دائِرَةِ قَيْدِ خُضوعِ الإِنسانِ للامْـِتـثالاتِ النَّاتِجَةِ عَن الضَّروراتِ. ولَمَّا لَمْ يَكُن للإِنسانِ أَيَّ خــيارٍ في إِرادَتِهِ لِلحياةِ، عِنْدَ شوبنهور، (بدوي: شوبنهور: 231- 232) فإنَّ الوجودَ في جَوْهَرَهِ شَرٌّ. وإِذا ما كانَ الوجودُ لا يتحقَّقُ إِلاَّ بالإِرادةِ المَحكُومَةِ بالضَّروراتِ، فإنَّ الإرادةَ تُصبحُ، تالياً، مَصدَرَ الخَطِيئةِ. وعلى هذا، فالسَّعادةُ الدُّنْيَوِيَّةُ، بِنَظَرِ شوبنهور، وَهْمٌ لا بُدَّ مِن الاعترافِ بِهِ؛ وهو يعتقد أّنَّه «لا يمكن للإنسان أن يكون على طبيعته إلا إذا كان بمفرده؛ أمَّا إذا كان لا يحب العزلة، فإنَّه لن يحبَّ الحُرِّيَّةَ؛ إِذْ لَنْ يَكونَ حُرّاً حَقًّا، إِلَّا عِندما يَكونُ بِمُفْرَدِهِ» (A man can be himself only so long as he is alone; and if he does not love solitude, he will not love freedom; for it is only when he is alone that he is really free) .(Schopenhauer: The Essays).
إِنَّ معرفةَ حقيقـةِ الوجودِ، بِنَظَرِ شوبنهور، تَعنِي معرفةَ ضــرورةَ عـــدمِ التَّعلُّقِ بالحياةِ؛ وعلى هذا، فإِنَّهُ يُقرُّ بِعجزِ الإِنسانِ عنِ الخُــروجِ عنْ نِطاقِ امتِثالاتِهِ للضَّروراتِ التي تَتَحَكَّمُ بِوُجُودِهِ. وشوبنهور يلغي، بِـذا، أَيَّ فاعِلِيَّةٍ إيجابِيَّةٍ للإِرادةِ الإِنسانيَّةِ للحياةِ؛ مُسْقِطًا مِن حِسابِهِ أَيَّ اعتِبارٍ للإِنسانِ على أَنَّهُ وُجُودٌ حُرٌّ. ومِن خِلالِ هذا التَّبَنِّي لِعَجْزِ الإِنسانِ أَمامَ ضَروراتِ الوُجُودِ، فإِنَّ شوبنهور يَدعو الإِنسانَ إِلى الاعترافِ بِضآلةِ قِيمَةِ هذهِ الحياة، التي يَعيشها عَبْرَ إِرادَتِهِ لِعَيْشِهِ لَها؛ والَّتي لا خيارَ ولا يد لهُ فِيها على الإطلاقِ.
يُقَـرِّرُ شوبنهور أنَّ الإِنسانَ، عِندما يُدركَ أو يَعرفَ ضآلةَ قيمةَ الحياةِ، فإِنَّه يَتَخَلَّى عن سَعيِهِ اللَّامُجدِي لِتَحقيقِ الحُرِّيَّةِ مِن خِلالِها. (بدوي: شوبنهو:231-232)؛ فالإِنسانُ لَنْ يَكونَ حُرُّا حَقًّا إِلًّا عندما يَفقدُ إِرادةَ الحياةِ التي تَشُدُّهُ إِلى ضَروراتِها العَمياءِ. ويَذْكُرُ شوبنهور أنَّ الإِنسانَ لا يَستطـيـعُ، عــــلى سبيلِ المِثالِ، أنْ يُقَدِّرَ الخيراتَ العُظمى الثَّلاث التي يَحظَى بِهـــا في الحياةِ، وهِيَ الصَّحةُ والشَّبابُ والحُرِّيَّةُ، طالَما هُوَ مالكٌ لَها؛ وكَي يُدركَ قِيمتها الحقيقيَّةَ، فلا بُدَّ لهُ مِن فَقْدِها (بدوي: موسوعة:2: 36)؛ وعلى هذا، فإنَّ البَحثَ عَنِ الحُرِّيَّةِ، كما السَّعيَ إِلى التَّعاطي مَعها، عَـبْرَ الوُجُودِ، ومِن خِلالِ إِرادةِ الحياةِ، ما هُما، فِعلًا سِوى عُبودِيَّةٍ في نَظَرِ شوبنهور. لا بُدَّ، إِذن، مِن الاعترافِ، وفاقَ منطِقِ شوبنهور هذا، بِعَدَمِ القُدرةِ على تَحقـيقِ الحُرِّيَّةِ، عَبْرَ إِرادةِ الحياةِ، مدخلًا لِعَيشِ حُرِّيَّةٍ مِن نَوْعٍ آخرٍ، إِنَّها الحُرِّيَّةُ بامتِيازٍ.
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة الخامسة «جورج ويلهلم فريدريك هـيغــــل»)
——————
مكتبة الدِّراسة:
• بـدوي. عــبد الرحمـــن:
– «موسوعة الفلسفة»، الطَّبعة الأولى، «المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسـات والنَّشر»، بيروت، سنة 1984.
– «سلسلة خلاصة الفكر الأوروبي- شوبنهور»، الطَّبعة الثَّالثة، منشورات دار النَّهضة العربيَّة، القاهرة، 1965.
• كريسـون. أندريه، اسبينوزا، ترجمة تيسير شيخ الأرض، منشـــــورات دار الأنــوار بيروت ومكتبة العباسيَّة بدمشق،1966.
• Arthur Schopenhauer, The Essays of Arthur Schopenhauer – Counsels and maxims (illustrated) T. Bailey Sauders (tr.), Full Moon Publications, South Carolina, U.S.A., 2014.
• Benedictus de Spinoza, Theological-political Treatise, Samuel Shiley (tr.), Seymour Feldman (int) Hackett Publishing Company, Indianapolis-Cambride, U.S.A., 2001
• Della Rocca, Michael, Spinoza, Routledge, London and New York, 2008
• Schopenhauer. Arthur,: Prize Essay on the Freedom of the Will, Konstantin Kolenda (trans.), Dover Philosophical Classics, Mineola, New York, U.S.A., 2005.
• Young. Julian .P., Willing and Unwilling: A Study in the Philosophy of Arthur Schopenhauer, MartinusNijhoff Publishers, Leiden, Netherlands, 1987.
• Zev Harvey, Warren,Spinoza and Maimonides on True Religion, A Companion to Spinoza, edited by Yitzhak Y. Melamed (ed.), Wiley Blackwell, U.K, 2021.
—————
* رئيس المركز الثقافي الإسلامي
د. وجيه فانوس
جريدة اللواء