من أبعاد عيد الصعود تنبع روحانية الصعود متكاملة ، مؤسسة على الرجاء ، لأنها تجعل المسيحي يحيا منذ الآن في حقيقة العالم الجديد الذي يملك المسيح فيه . إن على المسيحيين وهم في إنتظار تلك الساعة ، أن يظلّوا متحدّين بفضل الإيمان وأسرار الكنيسة ، بسيّدهم الممجّد . فعليهم أن يسعوا “إلى الأُمورِ الَّتي في العُلى حَيثُ المسيحُ قد جَلَسَ عن يَمينِ الله”، لأن “حَياتُهم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ ” (قولسي 3: 1- 3)، ومدينتهم كائنة في السماوات (فيلبي 3: 20). والبيت السماوي ينتظرهم (2 قورنتس 5: 31) هو المسيح الممجّد نفسه (فيلبي 3: 21)، “الإنسان السماوي” (1 قورنتس 15: 45- 49).
على أن المسيحي ليس لذلك أن يكون منسلخاً عن العالم ، بل له رسالة على أن يحيا فيه بطريقة جديدة ، تحرّك العالم نحو المجد الذي يدعوه الله إليه . في هذا العصر تزايد إضطهاد المسيحيين أكثر من أي عصر مضى . لكن العداء والخطيئة والخوف والرعب والمعاناة على الأرض ليس لها الكلمة الأخيرة . سيعود يسوع بالمجد والبهاء ويضفي سيطرة على ممالك هذا العالم .
الصعود ، عيد يسوع ، نعترف به مسيحاً ، نعترف به ربّاً إرتفع ليجتذب الجميع ويصل كلمته الى العالم كله . ومن هنا علينا أن نتابع كرازة الإنجيل كما أوصانا الرب : *”إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض ، فإذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم ، وعَمِّدوهم بِإسْمِ الآبِ والإبْنِ والرُّوحَ القُدُس ، وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به ، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم” (متى 28: 18-20).*
التلاميذ لم يعيشوا كل الأيام في حين الكنيسة تدوم إلى الأبد (أعمال 1: 4-9). وعلينا أن نعلن إنتظارنا لمجيئه الثاني . إنه سيأتي كما صعد ، لذلك إنتظار مجيء المسيح عقيدة “وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي آمين” ومع الليتورجيا السريانيّة نردد “يوم ولادته ، فرحت مريم ؛ يوم مماته ، تزلزلت الأرض . يوم قيامته ، تزعزعت ظلمات الجحيم ؛ يوم صعوده ، إغتبطت السموات . فليتبارك صعوده !”.
والقديس أبيفانيوس يقول : أن هذا اليوم هو مجد بقية الأعياد وشرفها لأنه يتضح أن الرب أكمل في هذا العيد عمل الراعي العظيم ( لوقا 15/ 4-7).
*في أي مزار يُحيي المؤمنون ذكرى صعود الرب ؟*
بُني مزار على قمة جبل الزيتون في القدس كي يُحيي صعود الرب يسوع إلى السماء . إذ يروي لوقا الإنجيلي أن السيد المسيح – بعد أربعين يوماً من قيامته “خَرَجَ بِهم إِلى القُرْبِ مِن بَيتَ عَنْيا ، ورَفَعَ يَدَيهِ فبارَكَهم . وبَينَما هو يُبارِكُهم إنفَصَلَ عَنهم ورُفِعَ إِلى السَّماءِ “( لوقا 24/ 50 -52 أعمال الرسل 1/ 1-12).
وفي عام ٣٧٨ شيّدت بومينا إمرأة تقية من عائلة الإمبراطور كنيسة بيزنطية عرفت بإسم “أمبومن” أي “على المرتفع”. وهي عبارة عن بناء مستدير الشكل بلا سقف ليدل الجميع على طريق السماء تتوسطه الصخرة المباركة حيث إرتفع المخلص تاركاً أثر قدميه الطاهرتين . وأرضيّتها مرصوفة بالفسيفساء .
في عام ٦١٤ دمّر كسرى ملك الفرس مزار الصعود . وبعد سنتين قام البطريرك مودستس بترميم الكنيسة . وإبان الفتح العربي عام ٦٣٨ حافظ المسلمون على الكنيسة . ولكن السلطان الفاطمي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز أمر بهدم الكنيسة عام ١٠٠٩.
وفي القرن الثاني عشر بنى الصليبيون كنيسة مثمنة الشكل فوق أنقاض الكنيسة المهدمة ويتوسطها بناء مستدير يحوي مذبحاً تحته صخرة تشير إلى موقع صعود الرب . ولكن في عام ١١٨٧ هدم صلاح الدين الأيوبي الكنيسة ولم يبق سوى المزار الصغير المثمن الشكل في وسط الساحة . وتحوّلت ممتلكات الكنيسة إلى وقف إسلامي عام ١١٩٨ . ويعلو المزار قبة أقامها المسلمون عام ١٢٠٠ ولم يُنصب على القبة صليب أو هلال بل عامود رخامي ليشير أن المزار هو مكان صلاة لجميع المؤمنين . اذ يؤيد القرآن الكريم رواية الصعود بقوله “إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (سورة آل عمران 55).
يذهب الآباء الفرنسيسكان والطوائف الأخرى : الروم الأرثوذكس والأرمن والأقباط والسريان كل سنة في عشية عيد الصعود إلى هذا المقام الشريف فيقضون الليل هناك تحت الخيام ، ثم يجتمع الشعب في صباح العيد لحضور المراسيم الدينية وتلاوة التسابيح وصلاة المزامير . ويجدر بنا أن نورد ما تأمّله يوماً القديس أوغسطينس “هنا عاش المسيح . هنا أثر قدميه الطاهرتين فلنؤدي له الإكرام حيث أراد أن يقف في المكان الأخير . ومنه صعد إلى السماء وأرسل تلاميذه إلى العالم”. ولنتذكر ما وعدنا به الرب : *”وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم”* (متى 28/ 20).