من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحرية (5)

جورج ويلهلم فريدريك هيغل، فيلسوفٌ ألمانِيٌّ، من مواليد سنة 1770 في شتوتغارت Stuttgart، فورتمبيرغ Württemberg في ألمانيا؛ ونُوُفِيّ سنة 1831 في برلين Berlin، في ألمانيا. يُعرَفُ هيغل، وفاقًا لما يورده الأستاذ المساعد للعلوم الفلسفية في جامعة فوردهام Fordham University، في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، ميشيل بار Michael Baur (Hegel:Key Concepts)، بأنَّه فيلسوفٌ طَوَّرَ مُخَطَّطاً جَدَلِياً شدَّد على تَقَدُّم التَّاريخ والأفكارِ، مِن الأطروحةِ إلى النَّقيض، ومِن ثَمَّ إلى التَّوليفِ. ويَكْمُنُ جوهرَ الِفْكْرِ الاجتِماعِيِّ، وكذلك السِّياسِيِّ، عند هيغل، في بنايةٍ ينهضُ قِوامُها المفهوميُّ والقيميٌّ على مفاهيمِ للحُرِّيَّةِ، والعَقلِ، والوَعيِّ الذَّاتي، والاعتراف.

 

يَنْتَمي هيغل إلى حقبةِ المِثالِيَّةِ الأَلمانيَّةِ، التي تعود إلى العُقودِ الزَّمنِيَّةِ التي تلت كانط Kant؛ وقد حاولَ هيغل، وهو الأكثرَ مَنهجِيَّةً مِن المِثالِيينَ ما بَعد كانط ، خِلال كتاباتِهِ المَنشورةِ، كما في مُحاضراتِهِ، أنْ يُطَوِّرَ فلسفةً شامِلَةً ومنهجِيَّةً، مِن نقطةِ بدايةٍ منطقيَّةٍ مَزْعُومَةِ. (Stanford)

يَنْطَلِقُ هيغل في تَفكِيرِهِ، استناداً إلى ما توصَّل إليه، إِمام عـبدُ الفتَّاح إِمام (1934-2019)، وهو الأكَّاديمي والمُتَرجِمُ المصريُّ المُتَخصِّص في الفَلسَفَةِ والعُلومِ الإنسانيَّةِ (إمام:125-132)، مِن الذَّاتِ الإنسانِيَّةِ؛ وَيَتَمَثَّلُ الجَوْهَرُ المعرفِيُّ عـنـدَهُ، في أنَّ أساسَ الأَشياءِ في هذا الكَوْنِ هُو الحياةُ، وأنَّ العقلَ، هُوَ الذي يَحكُمُ العالَم. يكونُ الإنسانُ، تالياً، مدعوَّاً، إِلى إِعمالِ عَقْلِهِ لِفَهْمِ الحياةِ. ويَرى هيغل، ههُنا، أنَّ الحياةَ تقومُ على قوانـيـنَ تُقَدِّمُـها المجتمعاتُ؛ وذلكَ بنُظُمِ الأُسرَةِ، ومِن خلالِ المجتمعِ المَدَنِيَّ، مُمَثَّلاً، في أَرقَى تَجَلِّياتِهِ، وهي الدَّولة (Hegel:Philosophy of Right:51-54) (هيغل: مبادئ فلسفة الحق: 222 -270,271- 279). مِن هُنا، يُمْكِنُ استِخلاص أَنَّ عـلى الإنسانِ أنْ يَسعَى، مِنْ خِلالِ قُدُراتِهِ العَقلِيَّةِ، إِلى اكتسابِ هذهِ النُّظُمِ، التي تُمَثِّلُ فِعلَ العَقْلِ فِي حُكْمِ العَالَم.

إِنَّ القانونَ، بِهذا المفهومِ، الذي يُقَدِّمُهُ هيغل، يُصبِحُ مجالَ إِعمالٍ لِلعَـقْلِ الإنسانِيِّ؛ وهوَ، بالتَّالي، ميدانُ الرُّوحِ ومجالُها. فَمِن خلالِ سَعيِ العقلِ الإنسانِيِّ، لِاكْتِسابِ نُظُمِ المجتمعِ المَدَنِيِّ، تَنمو ذاتُ الإنسانِ التي تَعنِي نَماءَهُ الرُّوحِيَّ. بَيْدَ أنَّ مُجَرَّدَ سَعيَ الإنسانِ لِاكْتِسابِ القَوانِينَ، لا يَعنِي، عِندَ هيغل، نِهايَةَ المَطافِ فِي تَحقِيقِ التَّعاطِي مَعَ الحُرِّيَّةِ؛ إِذ الإنسانُ، ههُنا، أمامَ مَسْلَكَيْنِ يُمارِسُ أَحَدَهُما؛ فَهُو إِمَّا أنْ يَخضعَ لِلقَوانينِ، أو أنْ يَعيشَ هذهِ القَوانين (Hegel: Philosophy of Right:169-182) (هيغل:مبادئ فلسفة الحق: 240- 244).

يَتَمَثَّلُ خُضوعُ الإنسانِ للقوانينِ في سَيطرةِ القانونِ، بِالمرحلةِ التي وصلَ إِليها، على الإنسانِ الخاضِعِ لَه. ومِن ثَـمَّ يتحوَّلُ هذا الإنسانُ إِلى مُمَارِسٍ لِعُبُودِيَّتِهِ للقانونِ؛ ويفقدُ، تالياً، جوهرَ حُرِّيَّتِهِ. أَمَّا عَيْشُ الإنسانِ للقوانين، فَيْعنِي قدرةَ هذا الإنسان على تطويرِ القانونِ بِما يُوافِقُ نُمُوَّهُ الذَّاتيّ. ويَتَمَثَّلُ هذا الأمرُ في مُمارسةِ الإنســـانِ لِحُرِّيَّتِهِ عَبْرَ الإرادةِ. بَيْدَ أنَّ الإرادةَ، في هذا المَجالِ تَكونُ، أيضاً، أمامَ مَسْلَكَيْنِ؛ فَهِيَ إِمَّا أنْ تَكونَ إِرادةً غَيْرَ سَوِيَّةٍ، أو أنْ تَكونَ إِرادةً حُرَّةً (بدوي:موسوعة: 2:593).

 

تَظْهَرُ الإرادةُ غير السَّوِيَّةُ مِن خلالِ ممارسةِ الحُرِّيَّةِ فِعلَ تحقيقٍ لِلأَهواءِ؛ وهنا يُحَقِّقُ الإنسانُ حُرِّيَّةً ما لِوُجُودِهِ، لَكِنَّها تكونُ حُرِّيَّةً جُزئِيَّةً؛ إِذ انَّها حُرِّيَّةٌ تُعاشُ لِذاتِها فقط. أَمَّا الإرادةُ الحُرَّةُ، فَتَتَحَقَّقُ مِن خلالِ فِعلِ الإنسانِ الذي يَضَعُ لِنَفْسِهِ مُحتَوىً، يَضمَنُ لَهُ بَقاءَهُ فِي هُوِيَّةٍ مَع ذاتِهِ ومَع المَجمُوعِ في آنٍ. إِنَّهُ الإنسانُ الذي يعَيشُ القانونَ، وُجُودَ تَنظِيمٍ نابِعٍ مِـن ذاتِهِ الباحِثَةِ عن التَّلاقِي والتَّجانُسِ مَعَ الوُجُودِ الكُلِّيِّ.

إِنَّ ما يُصَوِّره هيغل، مِن ممارسةٍ للإرادةِ الحُرَّةِ في عَيْشِ القانونِ، يؤَمِّنُ لِهذا الإنسانَ حُرِّيَّةً تُعاشُ لِذَاتِها الدَّائِمَةِ الانفِتاحِ، وَلَيْسَ حُرِّيَّةً تُعاشُ فِي ذاتِها التي أَنْهَت تَشَكُّلَـهـا وانْغَلَقَت على وُجُودِها. مِن هُنا، فإِنَّ هذهِ الإرادة الحُرَّة هـِـي التي تُحَقِّقُ حُرِّيَّةً تقودُ إِلى نُمُوِّ الفِكرِ الإِنسانِيِّ وتَطَوُّرِهِ؛ هــذا الفِكرُ الذي يُؤَدِّي، والحالُ كذلكَ، إِلى تحقيقِ الوُجُودِ المُباشِـِر للذَّاتِ الإنسانيَّةِ، أو لِما يُمكِنُ أنْ يُعرفَ بِالحُرِّيَّةِ العَيْنِيَّةِ.

(وإلى اللقاء مع الحلقة السَّادسة

«كارل ماركس»)

 

—————

مكتبة الدِّراسة:

• إمام. عـبد الفتَّاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، منشورات دار المعارف بمصر، القاهرة، 1969.

• هيغل، مبادئ فلسفة الحق، ترجمــــة تيسير شيخ الأرض، مطابع كلية القيادة والأركان، دمشــق، لا.ت

• Stanford Encyclopedia of Philosophy: George Wilhelm Friedrich Hegel, First published Thu Feb 13, 1997; substantive revision Thu Jan 9, 2020.

• Hegel. G. W. F, Key Concepts, edited by Baur. Michael, (ed.) Routledge, 2014.

• Hegel. George Wilhelm Friedrich Philosophy of Right, Translated by S.W Dyde (tra.), Batoche Books Kitchener, Ontario,Canada, 2001.

 

Marx: A Life, Published by Fourth Estate, Notting Hill, U.K., 1999.

 

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي /  د. وجيه فانوس…

جريدة اللواء