رئيس ندوة العمل الوطني / د. وجيه فانوس _ اللواء
منذ أن حصل في 15 أيار (ماي) سنة 1948، أي قبل 74 سنة من اليوم، ما بات يعرف بـ«نكبة فلسطين»، وإلى يوم 5 حزيران (جوان) 2022، حين وصول سفينة ENERGEAN POWERإلى حقل «كاريش» المتنازع عليه بين الدولة اللبنانية ودولة الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، وأجيال تلو أجيال من اللبنانيين لا ينفكون يسمعون في وسائل الإعلام ويقرأون في الصحف ويتنامى إليهم في الندوات والاجتماعات والشوارع وحتى في ملاعب المدارس ونداءات كثيرة من المظاهرات الشعبية، أن هذا «الكيان الصهيوني»، عدو للبنان، بل إنه كيان يتربص بهذا البلد الأذى والشرور؛ وذلك لأن هذا الكيان الصهيوني هو نقيض حضاري وإنساني لشعب لبنان ودولته.
ومنذ أن انطلقت في 16 أيلول (سبتمبر) 1982، أي منذ 40 سنة من اليوم، «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، فإنها أعلنت وجودها فعل مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان؛ وذلك بعد أن قام هذا الكيان الصهيوني بغزو البلد في ذلك الحين. وكذلك هو الحال سنة 1985، أي منذ 37 سنة من اليوم، حين أعلنت قيادة «حزب الله»، «المقاومة الإسلامية» في لبنان؛ محددة أهدافها بطرد «الأمريكيين والفرنسيين وحلفائهم الصهاينة من البلد»؛ وما من أحد في العالم، وليس في لبنان فقط، إلا وهو مدرك لمدى الوعي في لبنان تجاه خطر الكيان الصهيوني على لبنان، وما يسعى إليه هذا الكيان في هذا المجال.
ومنذ أن بدأت الدولة اللبنانية الشروع، في سنة 2002، أي منذ 20 سنة من اليوم، في مستوجبات ترسيمها للحدود البحرية، بين لبنان ودولة هذا الكيان الصهيوني؛ إذ كلّفت مركز «ساوثمسون لعلوم المحيطات» National Oceanography Centre Southampton، بالتعاون مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني United Kingdom Hydrographic Office، بإعداد دراسة لترسيم حدود المياه الإقليمية اللبنانية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، بغية إجراء عملية مسح جيولوجي للتنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط فيها؛ واللبنانيون يعرفون، أو على الأقل يسمعون، أن ثمَّة ادعاءات صارخة لدولة الكيان الصهيوني، الجاثم على الأرض الفلسطينية، في حقوق تراها لها في الحقل البحري للغاز الطبيعي والنفط، المعروف بكاريش، والذي طالما اشتهر النزاع حوله بين اللبنانيين كافة باسم «الخط ٢٩».
تذكر الأخبار الصحفية، الدولية منها كما المحلية، المتناقلة مؤخرا بين اللبنانيين كافة، أن بناء سفينة التنقيب ENERGEAN POWER، والتي من نوع FPSO، وهي السفينة المعدة خصيصاً، ومنذ بداية مسار بنائها، سنة 2018، أي منذ 4 سنوات من اليوم، لخدمة دولة الكيان الصهيوني في استخراج الغاز الطبيعي والنفط من حقل «كاريش»، المتنازع عليه بين لبنان ودولة الكيان الصهيوني؛ قد انتهى العمل على بنائها وتجهيزها للعمل الفعلي، منذ اسبوعين؛ وأنها اتجهت فور هذا الانتهاء الى دولة الكيان الصهيوني للمباشرة بعملهاعند حقل «كاريش» المتنازع عليه.
بكلام آخر، فإن اللبنانيين قاطبة، أياً كانت رؤاهم السياسية وأياً كانت آراؤهم حول طبيعة العلاقة بين لبنان وهذا الكيان الغاصب، فإنهم جميعهم، ومنذ أربعين سنة من اليوم، يشهدون لمحطات أساس من الممارسات العملية لمحاربة محاولات غزو الكيان الصهيوني للبنان؛ وكذلك منذ 37 سنة، من اليوم، وهم يستدلون، بصورة ملموسة على حجم مقارعة «المقاومة الإسلامية» لأطماع هذا الكيان تجاه لبنان؛ ومنذ 20 سنة، من اليوم، وهم يعاينون مباشرة، المساعي الرسمية للدولة اللبنانية في مجال ترسيم الحدود البحرية مع هذا الكيان الصهيوني؛ وفوق هذا كله، فإنهم يعرفون، منذ 4 سنوات من اليوم، عبر وسائل الإعلام المحلية منها كما الدولية، أن ثمة سفينة يتم بناؤها وتجهيزها لاستخراج الغاز الطبيعي من حقل «كاريش»، لصالح هذا الكيان الصهيوني تحديدا؛ كما أنه ما من أحد من اللبنانيين، إلا وعرف، قبل ثلاثة أسابيع من اليوم على الأقل، أن سفينة قطر انطلقت من سنغافورة لقطر سفينة Energean، ليكون وصولها وبدء عملها في حقل «كاريش»، لصالح الكيان الصهيوني، هذه السفينة ستصل إلى حقل «كاريش» يوم 5 حزيران (يونيه) 2022؛ أي منذ يومين من اليوم. ويضاف إلى هذا جميعه، أن اللبنانيين، بأطيافهم السياسية والطائفية والمناطقية والعمرية كافة، على علم واضح وبينة جلية وإدراك مستقر، قديم ووسيط ومحدث، مدعوم بنص قانوني رسمي، نشر في الصفحات 1001-1003، من عدد «الجريدة الرسمية» اللبنانية، الصادر بتاريخ بتاريخ 29/06/1955، أي منذ 67 سنة، ما يؤكد طبيعة الموقف العدائي للكيان الصهيوني من لبنان؛ ويشدد، تاليا، على الجرمية القانونية لأي تعامل لبناني معه.
المفاجأة الطاغية، حتى اللحظة، أن وصول هذه السفينة، وبدء استعدادها للعمل على استخراج الغاز الطبيعي من حقل «كاريش» المتنازع عليه، والذي لما يحسم أمره لا بين الدولة اللبنانية وحكومة الكيان الصهيوني من جهة، ولا أمام الهيئات الدولية، وعلى رأسها «الأمم المتحدة» من جهة أخرى، ولا بناء على مساعي وساطة الإدارة الأميركية، كذلك، شكَّل حالاً لبنانية من الوجوم والصمت والقلق، تخللتها بعض بيانات الاستنكار ونداءات الشجب والاحتجاج، التي صدرت عن هيئات وشخصيات؛ وجلُّها ما يمكن وصفه بالإطراق الرسمي، والتبصُّر السياسي والتؤدة العامة في التصرف، مع ملامح مقلقة من ظهور لإِطْمِئْنان ما بين بعض القوم وتراخٍ بين بعضهم الآخر، يرافق كل هذا ذهول مطبق وعجب مقيم وغرابة تبحث عن تسويغ لوجودها.
ترى، واللبنانيون على هذه الدراية المستمرة، طوال أربعين سنة من تاريخهم الحي على الأقل، ومع بروز فاعل لمحطات حاسمة في عيشهم اليومي، تؤكد لهم هذه الدراية وتعمقها؛ فإنَّ دولتهم، بجميع أجهزتها وإمكانياتها، وإلى جانبها، كذلك، قواهم الشعبية، المدركة بعمق ووعي وعناية، لنوايا هذا الكيان الصهيوني تجاه لبنان وخيراته، لم يتمكن أحد منهم حتى الآن، ولو من تسديد قول حاسم يفسر كيفية السماح لهذه الباخرة بالرسو، حيث هي الآن في الحقل المتنازع عليه، ولا أن يبين ما يمكنه لردع هذا الكيان الصهيوني من إتمام أطماعه تجاه ثروة الغاز الطبيعي المتنازع عليها؟
ترى، ألا يتذكر هؤلاء جميعهم، أن المقطع الثاني من النشيد الوطني اللبناني، والذي نظمه رشيد نخلة سنة 1927، واللبنانيون ينشدونه جهارا في كل مناسبة وطنية ورسمية لهم منذ 95 سنة من اليوم، يقول بالفم الملآن، ويصدح به بأعلى صوت: «شيخنا والفتى عند صـوت الوطن/أسد غاب متى ساورتنا الفتن»؟ ها هي الفتن تساور لبنان، فأين الشيوخ والفتيان، وأين من لهم زهاء قرن من الزمن، ينشدون ويعلمون الجيل تلو الجيل من اللبنانيين، أن «كلنا للوطن للعلا للعلم»؛ وما مصير ما هو قائم منذ 40 سنة، من التذكير والتحفيز والوعي، من سوء نوايا هذا الكيان الصهيوني؟!!
يعرف المطبخ التراثي الشعبي اللبناني طبخة، اسمها «مخلوطة»، يستعين بها اللبناني على طعام يومه، إذا لم يتيسر له تقديم طبخة ذات شأن أو مهابة؛ فيلجأ إلى ما يتيسر له من بعض شذرات ما يجده في مخزنه، جامعا العدس مع البصل والحمص والفاصوليا والأرز والزيت، بما يكوّن له أكلة تسد الرمق، ولا تستهلك، في الوقت عينه، قواه المالية. ترى، هل الدولة اللبنانية وشعبها، اليوم في شهر حزيران (جوان) من سنة 2022، وهو الشهر الذي شهد، منذ 55 سنة، هزيمة عربية مدوية سنة 1967، أمام غزو للكيان الصهيوني، طاول عديدا من البلدان العربية، كان للعرب أن يطلقوا عليها مجرد «نكسة»؛ فهل يا ترى سيكون اللبنانيون اليوم، أمام تحضير ما لطبخة «مخلوطة»، وكما يقولون بالعربية المحكية في لبنانية «مِن قريبو»؛ وذلك لمجرد سد مؤقت لنقص تراه عابرا؟