من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحرية (6)
رئيس المركز الثقافي الاسلامي… د. وجيه فانوس
اللواء
كارل هاينريش مــاركــس
Karl Heinrich Marx (1838-1818)
وُلِدَ كارل هاينريش ماركس سنةَ 1818 في أَلمانيا Germany؛ وفِيها دَرَسَ القانونَ، في مَدينَتي بون Bonn وبرلين Berlin، كما تَعرَّفَ على أفكارِ هيغل Hegel وفيورباخ Feuerbach. وحَصَلَ في سنةِ 1841، على شهادةِ الدُّكتوراه في الفَلسَفَةِ، مِن جامِعَةِ جِينا University of Jena؛ كما أنَّهُ، بَعدَ مُدَّةٍ قصيرَةٍ مِن عَمَلِهِ مُحَرِّراً لَدى إِحدى الصُّحُفِ اللِّيبراليَّةِ في مَدينةِ كُولونيا Cologne، انْتَقَلَ، سنة 1843، إلى باريس Paris، التي كانَت تُعتبرُ، وَقتئذٍ، مَعقلاً للفِكرِ الرَّاديكالي؛ وأَصبَحَ، ماركس، في هذهِ المَرحَلَةِ، شُيوعِياً ثَوْرِياً، وأَنْشأَ صَداقَةً فِكرِيَّةً معَ إنجلز Engels. لَكِن بعدَ طردِ ماركس مِن فرنسا، فإنَّه أَمضى سَنَتَينِ في بروكسِل Brussels، حيثُ تَكَثَّفت شَراكَتَهُ معَ إنجلز، وعَمِلا في تألِيفِ كُتَيِّبِ «البَيانِ الشُّيوعيِّ» The Communist Manifesto، الذي نُشِرَ سنة 1848؛ وأكَّدا فيهِ أنَّ التَّاريخَ البَشريَّ كلُّهُ كانَ قائماً على النِّضالاتِ الطَّبَقِيَّةِ. وانتقلَ، ماركس، تالياً، في سنةِ 1849، إلى لندن London، حيثُ قضي ما تَبَقَّى مِن حياتِهِ؛ وهناكَ أَنْتَجَ مَجمُوعَةَ أعمالِهِ الشَّهيرةِ، «رأس المال» Das Kapital؛ وغالباً ما يَجري التَّعامُلُ معَ كارل ماركس، باعتبارِهِ مُفَكِّراً وناشِطاً ثَوْرِياً، وَلَيْسَ فَيْلَسُوفاً (Wheen: Karl Marx).
ad
إِذا ما كانَ هيغل قد اعتمَدَ العقلَ أساساً للمعـرفـةِ، التي تَقــودُ الإنســانَ إلى حُرِّيَّتِهِ؛ فإنَّ ماركس، اعتَبَرَ العملَ الخَلاَّقَ، وَلَيْسَ العَقلَ، الأَساسَ في هذا المَجالِ؛ وهوَ يعتقدُ أنَّ المعرفةَ كانت وجوداً نِسبياً تاريخياً وثقافياً، ويكونُ من ضمنها مفاهيمُ الحُرِّيَّةِ وقِيَمِها؛ كما يَرى أنَّ النَّاس، في كلِّ مجتمعٍ، يَرَوْنَ أنَّ مَعرِفَتهم وتَصوَّراتهم للعالمِ والقِيَمِ ومعاييرِ السُّلوكِ، تُمَثِّلُ ثَقافتَهُم على أنَّها الأَفضلَ بِالمَعنى المُطلقِ. ويذهبُ ماركس، في هذا، إلى أنَّ هؤلاءِ القومِ فَشلوا في رُؤيةِ كيفَ تَشَكَّلت ثقافتُهُم، في الواقعِ، مِن خلالِ ظُروفِهِم التَّاريِخيَّةِ. لَقد تَشكَّلتِ الثَّقافة بِشَكلٍ حاسمٍ، وِفاقَ ما يَرى ماركس، حَسَبَ نَوْعِ الاقتصادِ وَنَوْعِ العلاقاتِ السَّائِدَةِ بِوسائِلِ الإنتاجِ. إنَّ الأفكارَ الرَّائدةَ في المجتمع، بما فيها ما له علاقةٌ بالحُرِّيَّةِ وموضوعاتِها، هي تالِيًّا تلكَ التي تَجِدُها المجموعةُ صاحبةُ السُّلطَةِ ملائمةً ومقبولةً، بِحَسَبِ مصالِحها الاقتصاديَّةِ الأَساس. ولِذا، فإنَّ الجماعاتِ المهيمنةِ، أصحابِ وسائلِ الإنتاجِ، ليسوا مجرَّدَ حُكَّام الدَّولة؛ بل هم، كذلك، حُكَّامَ الأفكارِ والمعارِفِ المُعتَمَدَةَ والتي يفرضونَ قبولها على الآخرين (KŁOSKOWSKA: 5-16)، وبناء عليهِ، فإنَّ ماركس، وفاق ما يخلص إليه فلاديمير لينين (1870-1924)، يرى أنَّ الإنسانَ لا يزال جاهلاً للطَّبيعةِ الحقيقيَّةِ لِوُجودِهِ؛ ولِذا فَهُوَ باحثٌ دائمٌ عن هذهِ الطَّبيعـةِ؛ لكــِن، ولأنَّ الإِنسانَ وُجُودٌ باحِثٌ، فلا بُدَّ له مِن تحديدٍ لِأدواتِ بَحثِهِ؛ ولِذا، فإنَّ ماركس يَعتقدُ بِأنَّ الأداةَ الحقيقيَّةَ والعملِيَّةَ لِتَحقِيقِ بَحثِ الإنسانِ عن طَبيعَةِ وُجودِهِ، يجبُ أنْ تَتَشَكَّلَ مِن وُجُودٍ مادِيٍّ مَحسُــوسٍ، بَعيداً عن كلِّ ما هُوَ غَيْبِيٍّ أو مُجَرَّد (لينين: 19).
لمّا كـان العـمـــلُ، وِفاقاً لِماركس، هُوَ المُفتاحُ لِفَهْمِ الإِنسانِ للطَّبيعَةِ الحقيقيَّةِ لِوُجُـودِهِ؛ فلا بُدَّ، والحالُ كذلكَ، مِن أَنْ يُمارِسَ الإنسانُ عَمَلاً ذا طَبِيعَةٍ نَوْعِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، تُمَكِّنُهُ مِن تَحقِيقِ الغايَةِ التي يَنْشُد. ويُمكِنُ النَّظَـُر إِلى هذا العملِ الإنْسانِيَّ، مِن هذا المُنْطَلَقِ، على أنَّهُ إِمّا ذو طَبيـعَةِ وُجُودٍ تَتَشَكَّلُ في دائِرَةٍ هِيَ وُجُودٌ مُقْفَلٌ لا يَقودُ سِوى إِلى التَّكرارِ، وهـو بذا، عملٌ تَقلِيدِيٌّ؛ أو إِنَّهُ ذو طبيعَةِ وُجُودٍ تَتَحَقَّقُ في حَرَكَةٍ مُتنامِيَةٍ، تَقودُ إِلى التَّجديدِ؛ وهوَ بِذا، عملٌ خَلاَّقٌ دَيْدَنَهُ الابْداعُ. مِن هُنا، فإنَّ على هذا الإنسانِ، وكما يُشير ماركس، أنْ يُـمارِسَ العـمـلَ الخَلاَّقَ، كَيْما يَتَمَكَّنَ مِن تَطويرِ بَحثِهِ عنِ الطَّبيعَةِ الحَقيقِيَّةِ لِوُجُودِهِ وتَنْمِيَتِهِ (تنمية بحثه لينين: 17 – 18 -30). وهكذا، فَكُلَّما تَخَلَّصّ الإِنسانُ مِن ربقَةِ العملِ ذِي الطَّبيعَةِ التَّقلِيدِيَّةِ، ودَخَلَ في رِحابِ العَمَلِ الابْداعيِّ، كلَّما مارسَ سَعياً إِيجابِيًّا لِفَهمِ الطَّبيعةِ الحَقِـيقِـيَّةِ لِوُجُودِهِ (Magdoff)، وتَمَكَّنَ، تالِياً، مِنْ أَنْ يَعيشَ في حُرِّيَّةِ هذا الوُجود.
يَسعى ماركس، مِن خلالِ هذا الفَهمِ للتَّعاطي معَ الحُرِّيَّةِ عَبْرَ العملِ، إِلى تشكيلِ حياةِ الإنسانِ على الأرضِ، تشكيلاً إِنسانِيًّا خالِصاً. (Bengtsson) هـكذا، لا يعودُ التَّعاملُ معَ الموضوعاتِ الإنسانِيَّةِ تعامُلاً مُجَرَّداً، باعتِبارِها مُثُلاً عُليا بَعيدةَ المَنالِ، أو إِنَّ تحقيقها لَن يَتُمَّ في هذهِ الحياةِ التي يَعيشُها الإِنسانُ على الأرض (لينين:13-14، 17) ومِن هُــنا تأتِي دعوةُ ماركس إِلى رَفضِ الغَيْبِيَّاتِ، وإِلى تَحَرُّرِ الإنسانِ مِن مُغَايَـَرَةِ الدِّين لَه. فالإنسانُ لا يُحَقِّقَ وُجُودَهُ، في رَأيِ ماركس، إلاَّ بِالعملِ، وبِالعَمَلِ الخَلاَّقِ تَحديداً. فالحُرِّيَّةُ، مِن هذا المُنطلقِ، هِي فِي ممارسةِ العملِ الإنسانيِّ المُبْدعِ، في حِين إِنَّ العُبودِيَّةَ هِيَ في الرُّكودِ فِي السِّلْسِلَةِ المُغلَقَةِ النَّاتِجَةِ عن الأَعمالِ التَّقليديَّة.
يَتَألَّقُ الإنسانُ في الحُرِّيَّةِ، وِفاقاً لِهَذِهِ المبادِيءِ التي يَطرَحُها ماركس، طـالما هذا الإنسانُ مستمِرٌّ في غائيَّةِ مُعايَشَتِهِ لِحَدِّ سَيْفِ الواقعِ المادِيِّ؛ وطالـما هُوَ قادرٌ عَلى مُمارَسَةِ الابداعِ الحياتِيِّ انْطِلاقاً مِن واقِعِهِ المَادِيِّ، وطالما أنَّ هذا الإنسانَ قابِلٌ لِمُعايَشَتِهِ حَدَّ هذا السَّيف؛ فإنَّهُ مُسْتَمِرٌ في تَطويرِ ذاتِهِ وإِنماءِ بَحثِهِ عن مَعرِفَةِ الطَّبيعَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِوُجُودِهِ. وبِذا، يَعلَمُ الإنسانُ أنَّ وُجُودَهُ قد لا يَكونَ سِوى فِعلَيّ إِغْـناءٍ وتَطويرٍ لا مُتناهِيَيْنِ لهذا البَحثِ؛ ويَكونُ عِلمُهُ هذا هُوَ فِعلُ تَعاطِيهِ الحُرِّ مَع الحياةِ. أمَّا الحُرِّيَّةُ، الحُرِّيَّةُ المُطلَقَةُ، فَقَد تَظَلُّ مُجَرَّدَ وَعدٍ مُحَرِّكٍ لِكُلِّ ما في الإنسانِ مِن طاقاتٍ.
(وإلى اللِّقاء مع الحلقة السَّابعة «مارتن هايدغر وجان بول ســارتــر»)
********
مكتبة الدِّراسة:
• لينين. فلاديمير، ماركس – أنجلز – الماركسية، منشورات دار التقدم، موسكو، 1970.
• Bengtsson. Staffan, Out of the frame: disability and the body in the writings of Karl Marx, Scandinavian Journal of Disability Research, Stockholm, Sweden, 02 Dec 2017.
• Magdoff. Harry, The Meaning of Work: A Marxist Perspective, MONTHLY REVIEW- AN INDEPENDENT SOCIALIST MAGAZINE, Volume 58, Issue 05 (October) 2006.
• Wheen. Francis, Karl Marx: A Life, Published by Fourth Estate, Notting Hill, London, U.K., 1999.
********