صار من اللازم على لبنان واللبنانيين والعالم أجمع أن يدركوا…

بات على القيِّمين على شؤون لبنان أن يفهموا، بكل وضوح ومباشرة ومن دون أيِّ لفٍّ أو دوران، أنَّ البلد لم يعد بخير على الإطلاق؛ وأصبح لا بدَّ لهم من لهم أن يعترفوا، قولا وعملا، أنَّ البلد وصل، زمن قَوامَتِهِم عليه، إلى سوء لم يعرفه طوال تاريخه المعاصر على الإطلاق. وآن للبنانيين أن يدركوا، تاليا، أنَّ هؤلاء القَيِّمِينَ على البلد ليسوا شخصا فردا؛ بل لهم تراتب معيَّن يعتصمون به. ثمَّة منهم من يأتي أولا، وآخرَ يأتي ثانيا، وسواهما يعتبر ثالثا؛ ثم تلحق بهؤلاء طائفة معتَبَرة من ناس يمثِّلون، وآخرون ينفِّذون، وقبلهم جميعا، وبعدهم بكلِّ تأكيد، مجموعات قد لا تبرز بوضوح وجلاء مثل سابقيها، غير أنَّها فاعلة، بعقول أصحابها وأفكارهم، وهم أصحاب قوَّة ونشاط ومقدرة عظمى على التَّخطيط والتَّنفيذ، ومقدرة فاعلة بما لهؤلاء من علاقات داخليَّة وخارجيَّة، وما لكلِّ واحدة من هذه العلاقات من تأثير فاعل ونافذ، بل وفاجر في مسارات البلد ومصيره الذي وصل إليه.

 

يفترض باللُّبنانيين جميعا، على كلِّ ما بينهم من تنوُّع إيمانيِّ دينيٍّ وعقائديٍّ سياسيٍّ، وما يعرفونه عن ذواتهم من خلافات سياسيَّة ضروس، تتحكَّم بكثير طاغ من سلوكيَّاتهم وأهوائهم؛ أن يدركوا أنَّ هذا اللُّبنان الذي يعيشون هذه الأيام، قد دخل قولا وفعلا في غيبوبة شديدة العمق ورهيبة الاتِّساع؛ وهي غيبوبة ترشِّحه، ومعه أهله، بكلِّ جدارة، إلى خروج عن كلِّ ما سبق أن شهدوه في أزمان مضت، من رقيٍّ وحضارة وعزٍّ وريادة وجمال وبحبوحة.

يحتَّم على من لا يعرف، أبدا، عبر ممارساته السِّياسيَّة، كيف يعيش خارج إختياله المتهوِّر والأرعن بطموحه، واِدِّعائه بحقٍّ يراه لنفسه بهذا الطُّموح، أن يرعوي عن إفتخاره بقدرات استغلاليَّة يمتلكها للتَّلاعب بالآخرين في سبيل طموحه، ويتجنَّب غطرسة يتكَّبر بها، وقد تَعتَعًهُ ، في وجه كلِّ من يلقاه، سُكْره في ما يخاله من نجاح مرجِفٍ وكذوب لطموحه. لقد آن لصاحب هذا الطُّموح الجامح والباغي، المُتَيَّمَ بعظمة شخصه، إلى درجة العمى، أن يدرك أنَّ صاحب الطُّموح إذا ما فقد بصيرته، وانكفأ على ظلاميَّات أهوائه وظلماتها، يصير طموحه طمعا قاتلا لناسه، وماحقا لعيشهم؛ غير أنَّه لا يمكن لهذا الطُّموح إلا أن يكون، كذلك، ماحقا لوجود صاحبه، وراميا به في مهاوي الجشع، وهي المهاوي التي لم ترحم دِيدَانُها الفتَّاكة من نَهَمِ شرورها وبؤس مصيرها المزري، أحدا على مدار الزَّمن وتعاقب أحداثِ التَّاريخ وتوالي صروفها.

كان للُّبنانيين أن صبروا كثيرا على هؤلاء القيِّمين على شؤونهم وأحوال بلدهم؛ تارَّة باسم مراعاة توازن وطنيٍّ ما، ومرَّة باسم احترام طائفة دينيَّة أو أحد مذاهب ناسها، ومرَّات بداعي مراعاة توجُّه لمجموعة أو منطقة أو حتَّى عائلة، وأحيانا تداركا لما قد يُخشى وقوعه من غضب لدولة معيَّنة، أو سخط لقوَّة عظمى مهيمنة. ومع هذا، فما كان من صبرهم هذا، بجميع ذرائعه، سوى أن أوصل بلدهم إلى ما هو عليه اليوم؛ من بؤس اجتماعيٍّ وإملاق اقتصاديٍّ وضعف سياسيٍّ وهوان دوليّ.

لقد صار واجبا على اللُّبنانيين، وعلى الواعين من ناسهم، الحريصين على مصير بلدهم تحديدا، أن يدركوا ضرورة استخلاصهم المسؤول لواقع أنَّ الوطن أضحى، الآن، بهمَّة هؤلاء القَيِّمينَ عليه، كمن يرقد، معتلًّا حتَّى أقصى ما في السَّقَم، محتضرا ومهانا وخائر القوى وخامل الذِّكر، في غرفة عناية فائقة؛ وهي غرفة لا تضمُّ جناباتًها سوى إمكانيَّات غَثَّةٍ، وساقطةٍ عن أي مفهوم فعليِّ للوطنيَّة ومفاهيم المواطنة، ممَّا اعتاده مستغلُّوا الوطن من بهلوانيَّاتهم الفاجرة بالدِّيموقراطيَّة، ومهازلهم الخسيسة البارعة في التَّلاعب بِقِيَمِها، وحججهم الدَّنيئة المبتذلة والمكرورة للتَّلطِّي بجرائم سرقاتهم وأهوال نهبهم وفظاعة جشعهم خلفها.

 

آن لهؤلاء اللُّبنانيين اليوم، وفي هذه المرحلة الدَّقية والعاصفة، وربَّما الوبيلة، أن يقفوا جميعا، رافضين كلَّ هذا الهراء؛ فطالما زُهِقَت كرامات لهم بسببه، وكثيرا ما تحطَّمت آمال كبرى لهم، بداعي احترامه؛ وها هي نُخَبٌ من ذويهم وأبنائهم، تهجر الوطن إلى الأبد، بكلِّ ما لديها من طاقات للبناء وقدرات على العطاء، نتيجة ما آل إليه الحال جرَّاء ما ارتكبه هؤلاء القّيِّمون على شؤون البلد، وما انفكُّوا يمارسونه بحقِّه.

يؤكِّد الباحثون الأكَّاديميُّون في علوم السِّياسة، ويوافقهم في هذا المراقبون المحلِّلون لأوضاع الشُّعوب والدُّوَل، أنَّ تفاقم المشاكل السِّياسيَّة والماليَّة وتكاثر المشاحنات بين الأحزاب وارتفاع حدَّة المضاعفات السَّلبيَّة للاستقطاب السِّياسيِّ المحليِّ الرَّخيصِ، مع اشتداد حدَّة الانقسام الاجتماعيِّ وسطوة التَّوتُّر الطَّائفيِّ والمذهبيِّ، وامتداد فجوة الثَّروة بين أفراد الشَّعب ومجموعاته، من الأمور التي تضعف الدِّيموقراطيَّة، وتباعد بينها وحقيقة جوهر فاعليَّتها الوطنيَّة في حياة الدُّوَل والأنظمة. ومن البدهيِّ، أنَّ هذا الحال برمَّته، لا يعني، أبدا، التَّخلِّي عن الدِّيموقراطيَّة مبدأ ومِنهاجا؛ غير أنَّه يعني ضرورة العمل على تصويب مسار التَّعامل الوطنيِّ معها. واقع الحال، ليس اللُّبنانيُّون اليوم في وضع يجب أن تعلوا فوقه أيُّ مصلحة أخرى لهم، غير المصلحة الوطنيَّة الجامعة للشَّعب؛ والقائمة على الرُّؤية العمليَّة المانعة عن الوطن ما يعانيه من مآس لا أوَّل لها ولا آخر. وليس لهذه المصلحة الوطنيَّة العليا، إلَّا أن تفرض وجودها الفعليِّ؛ بالوعي الوطنيِّ الصَّحيح والسَّليم، والرَّأي الموضوعيِّ المفيد، والتَّوجُّه إلى الذَّات والآخر، بعيدا عن أيِّ استسهال أو استصغار أو ديماغوجيَّة أو ابتزاز. ليست الدِّيموقراطيَّة، بمبدئيَّتِها، سوى لخدمة المصلحة الوطنيَّة العليا؛ فإذا ما كان من تحويل لهذه الدِّيموقراطيَّة عن جوهر مبدئيَّتها، لتصبح في خدمة مجموعة من القَيِّمِينَ على أحوال البلد وشؤونه، فإنَّ المصلحة الوطنيَّة العليا هي الفيصل والفاعل في حقيقة التَّعامل معها.

لا صوت يجب أن يعلوا، في لبنان، فوق صوت المصلحة الوطنيَّة العليا؛ وهي المصلحة التي يجني اللُّبنانيُّون منها كلَّ فائدة؛ على كلِّ ما بينهم من تباين سياسيٍّ وتنوُّع دينيٍّ ومذهبي وتعدُّد مناطقيٍّ وانفساح في الرُّؤى الخارجيَّة لعلاقاتهم مع الآخر. إنَّها الرُّؤية الموضوعيَّة إلى المصلحة الوطنيَّة؛ وهي الرُّؤية التي تعتمد من مبادئ العلم وأسس المعرفة والمنهج الدِّيموقراطيِّ، ما بإمكانه أن يحقِّق للِّبنانيين، إذا ما التفُّوا حوله وحده، جوهر مصلحتهم الوطنيَّة العليا وسائر المجالات المشتركة في ما بينهم. إنَّ في هذا التَّلاقي الوطنيِّ، إذا ما حصل، وإذا ما ترفَّع اللُّبنانيُّون عبره عن أيِّ مجاملة شكليَّة، باسم الدِّيموقراطيَّة أو بداعي مراعاة خطوط حمراء يفرضها هذا وذاك عليهم، أو مراعاة انفعاليَّة وجدانيَّة منهم، لهذا الإلتزام أو ذاك الطُّموح الشَّخصيِّ؛ فإنَّه تلاق قادر على أن يؤمِّن لهم، بالتَّفافهم الوطنيِّ لا السِّياسيِّ حوله، خلاصا من مآسيهم الماليَّة الطَّاحنة والمبيدة لوجودهم، مع التَّلافي الموضوعيِّ للامتداد المتوحِّش والمتنامي لفجوة الثَّروة بين أفراد الشَّعب ومجموعاته. وهو تلاق وطنيٍّ، قادر كذلك على مساعدتهم للنَّجاة من شرور ما بينهم من ضيق الأفق السِّياسيِّ؛ إذ يضعهم في رحابة منبسطة لتعاملهم مع ما لا بدَّ لهم من مواجهته من مشاحنات بين الأحزاب، كما يقودهم، تاليًّا، إلى رصانة لهم في معايشة المضاعفات السَّلبيَّة للاستقطاب السِّياسيِّ المحليِّ والضَّيِّق للأفق في بيئاتهم؛ كما يَهْدِيهم، من ثمَّ، إلى معالجة ناجعة لاشتداد حدَّة الانقسام الاجتماعيَّ في حياتهم؛ فلا يجدون ذواتهم إلَّا في رحاب التَّفهُّم التَّثاقفيِّ الحضاريِّ للفاعليَّة الإيجابيَّة لتنوُّعاتهم الطَّائفيَّة والمذهبِيَّة.

 

على للُّبنانيين أن يفطنوا ومن ثمَّ يستوعبوا، بل عليهم أن يؤمنوا إيمانا راسخا، أنَّ لا عاصم لهم سوى توحُّدهم الوطنيِّ الفعليِّ، وليس السِّياسيِّ، في ما بينهم؛ وآن لهم، كذلك، أن ينتهوا إلى أنَّ خلاصهُم الفعليِّ والعمليِّ، ممَّا يعانونه بمرارة ونكد وعذاب وضياع، لن يكون عن طريق أيِّ واحدة، صديقة أو قريبة أو حتَّى عدوة أو ربما محايدةِ، من دول العالم وقواه؛ فالخلاص منه، ونظرا إلى واقع الحال الوطنيِّ في لبنان، لا يكون إلا خلاصا وطنيًّا، وعن طريق اللُّبنانيين الوطنيين المدركين لجوهر الحقيقة الوطنيَّة والمستشرفين للمدى الإيجابيِّ والبنَّاء لفاعليَّتها.

آن للُّبنانيين، وللعالم معهم، أن ينتهوا جميعا إلى أنَّ عزَّة لبنان ونجاته من مهالكه الراعنة، وتحقيقه للحياة الواعدة بالخير لشعبه، لا يمكن أن تكون، جميعها، سوى بالتَّمسُّك الأكيد والقاطع والدَّائم بالوحدة الوطنيَّة عبر وعي مفاهيم المصلحة الوطنيَّة العليا لهم؛ ولو اقتضى الأمر، تصويبا منهم لبعض المسارات المنحرفة، القائمة على أهواء شخصيَّة ومصالح آنيَّة وطموحات ذاتيَّة سقيمة، تشهدها الدِّيموقراطيَّة في البلد، وجوهر الدِّيموقراطيَّة منها براء. فهل يا ترى يتمسَّك اللُّبنانيُّون فعلًا بِعِزَّتهم ونجاتهم مما يعانون منه من مهالك عديدة ومتنوِّعة، والسعي إلى خير واعد يملأ حياتهم، مطلبًا أساسا لوجودهم وتأمين الآتي من أيَّامهم؛ أم ترى أنَّ الانقسم وصل بهم إلى محطَّة من التَّشظِّي الوطنيِّ، لن تقومَ بعدها لهم، ولوطنهم، فيها قائمة؟!!

 

—————

د. وجيه فانوس

(رئيس ندوة العمل الوطني)

اللواء