تَتَكاثَرُ الآراء والتَّنظيرات، المُتداول بها راهنًا، حول حضور الطَّائفة السُّنِّيَّة في لبنان؛ استكشافًا لواقع هذا الحضور، من جهةٍ، وتحديدًا لمهامه وتعيينًا للمرتجى منه، من جهةٍ أخرى. و«السُّنَّةُ» في لبنان، هم المواطنون المسلمون المُتَّبِعونَ ما يُعرفُ إسلاميًّا بـمنهج «أهل السُّنَّة والجماعة»، والذين تُقَدِّرُ بعض الإحصاءاتِ، التي نشرت مؤخَّرًا، عديدهم من 30 إلى 35 % من سكّان لبنان. وينتشر «السُّنَّةُ» في أغلب المناطق في البلد؛ ومن أبرزها العاصمة «بيروت» ومحافظة «عكّار»، وكذلك في عاصمة الشَّمال «طرابلس» وعاصمة الجنوب «صيدا وفي عديدٍ من مُدُنِ محافظة «البقاع» وقراها، وعديدٍ آخرٍ من بلدات «إقليم الخرّوب» وقراه في محافظة «جبل لبنان». ويحتفظ «السُّنَّة» في لبنان، وضمن المبادئ الطَّائفيَّة للقراءة السّياسيّة الرَّاهنة لما بات يعرف بـ»الميثاقيَّة الوطنيَّة»، بمنصب «رئيس الوزراء»، وعديدٍ من المناصب الإداريَّة في الدَّولة.
إِنَّ مِن الثَّابت والأكيد والمعترف به، أنَّ ناس «السُّنَّة» هم مِن الأُسس التي نهض عليها، منذ القرنين السَّابع والثَّامن الميلاديِّن، ما بات يُعرَفُ، منذُ القرن العشرين بـ«الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة». تُشير الدِّراسات التَّاريخيَّة، في هذا المجال، وعلى سبيل المِثال وليس الحصر، أنَّ «أهلَ السُّنَّة والجماعة»، هم مَن عملوا، منذ مطلع مرحلة تولِّي «مُعاوِيَةُ بِن أَبي سُفيان» (602-680 م.) «ولايةَ الشَّام»، زمن الخليفة «عُثمان بِن عَفَّان»، في العصر الإسلاميِّ الأوَّل (644 -656 للميلاد)، على إعادة بناء «بيروت» وحُسنِ تجهيزها للسَّكن الجماعيِّ. لقد كانت «بيروت»، عهدذاك، مجرَّد ميناءٍ محليِّ في منطقةٍ ساحليَّةٍ طالما كانت تُظْهِرُ خرابًا عمرانيًّا مزمنًا، جرَّاء ما نالها، سابقا، من كوارث طبيعيَّةٍ أبرزها الزَّلازل. ومِن هنا، يكون مبدأ الارتباط العضويِّ بين «السُّنَّة» في لبنان، وسائر ناس الدِّين الإسلاميِّ، على امتداد الأزمان والأماكن. وكان أن توافدت جموعٌ كبيرةٌ مِن أهل السُّنَّة إلى المنطقة، كذلك، تزامنًا مع بِدء سقوطِ الحُكم الإسلاميِّ في الأندلس سنة 718 م. وما تلاها.
إنَّ هذه الأفواجَ العديدة من المسلمين المرابطين، من أهلِ «السُّنَّة» التي وصلت، منذُ العصرين الإسلاميين الأوَّل والثَّاني، إلى ما يعرف اليوم بالسَّاحل اللبنانيِّ؛ ما كان وصولها هذا إلَّا لممارسة «المرابطة»، واجبًا دينيًّا يؤمنون به، ضُدَّ أيِّ غزوٍ قد يجتاح هذه السَّواحل، مِن وراء البحار، ويعرِّض الدَّاخل إلى أخطارٍ عسكريَّةٍ وسياسيَّةٍ؛ وذلك انطلاقا من إمتثالهم لما يرد في مصنَّفات الحديث النَّبويِّ المعتبرة، من قولٍ لرسول الله محمد، (ص)، جاء فيه «كُلُّ مَيْتٍ يُختَمُ عَلى عَمَلِهِ، إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ القَبْرِ». فَناسُ «السُّنَّةِ» في لبنان، ليسوا، في مبدأ وجودهم الإيمانيِّ الدِّينيِ، وعلى امتدادِ أزمنةِ وجودهم على هذه الأرضِ طيلة القرونِ الماضيَّة وفي هذه الأيَّام المعاصرة، سِوى جماعةِ عبادةٍ كبرى ارتبطت بها حياتهم، وتثبَّتت بها قِيَمُ وجودهم. ولعلَّ في ما يؤكِّد هذا الفَهم لطبيعةِ وجودهم الإيمانيِّ العِبادِيِّ في لبنان، أنَّهم لم يقوموا بممارساتهم الطَّائفِيَّةِ «السُّنِّيَّة»، على الإطلاق، بمنطقِ الطَّائفة الأقوى، بقدرِ ما كانوا، وباستمرار، الطَّائفة السَّاعية لبناء وطنٍ أقوى. ومِن هذا القبيلِ أنَّ «السُّنَّة»، عند انتهاء السَّنوات الخمس عشرة المؤلمة إنسانيًّا والمفجعة وطنيًّا، لما عُرِفَ بـ»الاقتتال الأهليِّ» في لبنان (1975-1990)، لم يتحوَّلوا إلى قوَّةٍ عسكريَّةٍ أو «ميليشياويَّةٍ دائمة؛ وكذلك الحال في أحداث ١٧ تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2019، وما تبعها، إذ تُبيَّن الوقائع أنَّ «السُّنَّة»، وفاق ما أظهرته وسائل الإعلام المحلِيَّةِ والدَّوْلِيَّة وبيَّنته الدِّراسات الميدانيَّةِ لكثير من المحللِّين الصحفيين والاجتماعيين، هُم مِن أَشدِّ الطَّوائف في البلد بُعدًا عن استغلالِ القوَّة التَّسَلُّطِيَّةِ للسَّيطرةِ على الأوضاعِ العامَّة؛ وما المنطق في هذا سوى أنَّ هذه الطَّائفة ما انفكَّت ملتزمة بطبيعة وجودها الدِّينيِّ والإيمانيِّ؛ بما يظلُّ دافعًا دائمًا لناسِها وللأَن ليكونوا وطنيين في رؤيتهم، ولا يكونوا طائفيين محصورين بوجودهم الطَّائفيِّ.
حصلَ، يوم أُعلِنَت «دولةُ لبنان الكبير»، في 1 أيلول (سبتمبر) 1920، أن ضُمَّت إليها، مناطق من سوريا الطَّبيعيَّة، وذلك بموجب القرار رقم 229 الذي صدر في 3 آب ( أغسطس) 1920، عن المندوب السَّاميِّ الفرنسيِّ، في حينه على لبنان، هنري غورو Henri Gouraud، والقاضي بفصل أقضية أربعة عن سوريا، وهي «بعلبك» و«البقاع» و«حاصبيّا» و»راشيّا»، والتي كانت جميعها ذات غالبيَّة سكانيَّة من أهل «السُّنَّة»، وضمّها إلى جانب «جبل لبنان»، حيث غالبية السُّكان من المسيحيين والدُّروز؛ وذلك ضمن تمهيده للإعلان عن قيام «دولة لبنان الكبير»، بموجب القرار رقم 318 الذي أصدره في 31 آب (أغسطس) 1920. وحصل توافقٌ دوليٌّ ومحليٌّ، في حينه، على اعتماد «العيش المشترك» بين اللُّبنانيين، ميثاقًا أساسًا يقوم عليه نظام الدَّولة اللُّبنانيَّة. تجسَّد هذا الاعتماد، بالإعلان العامّ للزَّعيمين اللُّبنانيين بشاره خليل الخوري، المسيحيِّ المارونيِّ، ورياض الصُّلح، المسلم السُّنِّي، للنُّهوض المشترك بقيادةٍ وطنيَّةٍ للبلد، مِن قِبَلِهما؛ تراعي هذه المفاهيم للميثاقيَّة الوطنيَّة للتَّعايش المشترك.
واقعُ الحال، إنَّ الدُّستور المُعتمد في لبنان، منذ 23 أيّار (ماي) 1926، بمختلف ما استوعبت نصوصه من تعديلات، وحتَّى 30 أيلول (سبتمبر) 1989، أي طوال خمسٍ وستِّين سنةٍ، لم يقم على منطقٍ طائفيٍّ في ظاهره، بقدر ما نهض على مفاهيم المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين؛ لكن استنادًا إلى مراعاة لما يسمّى بين اللُّبنانيين بـ«الميثاقيَّة الوطنيَّة»، وهي الميثاقيَّة التي جرى فهمها، عُرفًا وليس نصًّا على الإطلاق، خلا ما يَرِدُ في نصِّ «اتِّفاق الطَّائف»، الذي جرى توقيعه من قبل قياداتٍ لبنانيَّةٍ يوم 30 أيلول (سبتمبر) 1989، وصار إقراره بقانونٍ في لبنان في 22 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1989، على أنَّها تقاسمٌ لبعض المناصب والوظائف على أسسٍ طائفيَّةٍ، بل ومذهبيَّةٍ بَحت.
جرت السِّياسة في لبنان على أن يكون لكلّ طائفةٍ أو مذهبٍ دينيٍّ زعامةٌ مُشَخْصَنَةٌ، تتولَّى تحصيل حقوق ناس هذا المذهب أو تلك الطّائفة، وذلك عبر مشاركتها في مجالات القوى الفاعلة، التي يقوم عليها النِّظام السِّياسيُّ المعمول به في البلد. ولَئِن شاع في التُّراثِ الشَّعبيِّ المَقُولِ، بين اللُّبنانيين، أنَّ «كَّلَّ عَنْزَةٍ مْعَلَّقَةْ بِكَرعُوبِها»، و»الكَرعُوبُ» في بعض العربيَّة المحكيَّة في لبنان هو «العُرقُوبُ» بِالعربيَّةِ الفُصحى، وهو عَظْمٌ يكون في نِهاية الأَرجُلِ الخلفيَّة للشَّاةِ، تُعَلَّقُ به بعد ذبحهاـ لِيَسْهُلَ سلخها؛ ويشير هذا القولُ إلى الدلالة على أهميَّة المرجعيَّة وعمق فاعليَّتها في العيش في هذا البلد. وواقع الحال، فإنَّ الحياة السِّياسيَّة العامَّة في لبنان، ما برحت تقدِّم أفضل تطبيقٍ عمليٍّ لهذا القول، باعتمادها الزَّعيم الطَّائفيِّ أو المذهبِّي مرجعيَّةً أساسًا فاعلةً يَصعُبُ، إِنْ لم يكن يستحيل، في العقلِ الشَّعبيِّ، الاستغناء عنها.
تَكْمُنُ البَذرة الدُّستوريَّة للطَّائفيَّة في لبنان، في المادَّة 24 من دستور سنة 1926؛ وهي المادَّة التي تنصُّ بدايةً، على أن «يتألف مجلس النّوّاب من نوّابٍ منتخبين يكون عددهم وكيفيَّة انتخابهم وفاقًا لقوانين الانتخاب المرعيَّة الإجراء»؛ وهنا، وَضَعَ المُشَرِّعُ جملةً بدت في ظاهرها وكأنَّها مؤقَّتةً، مراعاةً منه لِظرفٍ آنيِّ معيَّنٍ، ليس أكثر. تَنُصُّ هذه المادَّة على أنّه «إلى أن يضع مجلس النُّوَّاب قانون انتخاب خارج القيد الطّائفيَّ، توزَّع المقاعد النِّيابيَّة وفقًا للقواعد الآتية بالتَّساوي بين المسيحيين والمسلمين», مِن هنا، كان الانطلاق الدُّستوريُّ في النّظر إلى اللُّبنانيين، جميعِ اللُّبنانيين، على أنَّهم مجموعةٌ من الطَّوائف الدِّينيَّة المتعدِّدة، والمتوزِّعة أساسًا بين الدِّيانتين المسيحيَّة والإسلاميَّة. ويمكن الملاحظة، هَهُنا، أنّ «الدُّستور اللّبنانيَّ»، وبمختلف ما دخل عليه من تعديلاتٍ، منذ وضعه سنة 1926 وحتّى اليوم، لا يذكر سوى أُمَّةٍ واحدةٍ في لبنان، هي «الأُمَّةُ اللًّبنانيَّة»؛ وهذا ما يَرِدُ في نصِّ القَسَمِ الرِّئاسِيِّ، الوارد في المادة 50 من الدُّستور، والذي على كلِّ رئيسٍ للجمهوريَّة اللُّبنانيَّة أنْ يتلوه علانِيَةً فورَ انتخابه أمام المجلس النِّيابيِّ، وهو النَّصًّ الذي يرد فيه ما حرفيَّته «احترم دستور الأمّة اللُّبنانيَّة وقوانينها». وَلَئِن كان ثمَّة من قد يرتأي، جَدَلًا، أنَّ تعبير «الأمَّة»، ههُنا، ليسَ سوى ترجمةٍ مغلوطةٍ عن الفرنسيَّةِ، اللُّغة التي وُضِعَ بها الدُّستور الفرنسيُّ الذي اقتُبِسَت بعض مواد الدُّستور اللُّبنانيِّ وبنوده ونصوصه منه، لـ«الشَّعبِ»؛ فيكونُ القَوْلُ، في هذه الحال، إنَّ عبارة «الشَّعب اللَّبنانيِّ»، بالفرنسيَّة هي Peuple Libanais، في حين أنَّ Nation Libanaise الفرنسيَّة، لا تفيد، وبكلّ جلاءٍ ووضوحٍ ومرجعيَّةٍ قاموسيَّةٍ، سوى تعبير «الأمَّة اللُّبنانيَّة».
ينتمي «السُّنَّة» في لبنان، إلى عُمْقٍ أمميٍّ انطلق مع دعوةِ الرَّسول محمَّد (ص) النَّاس إلى الإسلام، قبل خمس عشرة قرنا، من رحاب «مكَّة»؛ وتأسَّست مداميك فاعليّته، بُعَيْدَ ذلك، في «المدينة المنوَّرة»، حيث أقام النَّبيُّ لاحقاً، ومن حيث انطلقت أفواجُ المسلمين منها إلى سائر بقاع الأرض، ومن هذه البقاع ما يعرف اليوم بـ«الجمهوريَّة اللُّبنانيَّة»؛ وهذا هو العُمق الوجوديُّ والحضاريُّ لـ«السُّنَّة»، أينما كانوا وفي أيِّ زمن عاشوا، ولا يخرج «السًّنَّةُ» في لبنان، تاليًا، عن هذا الأمر البتَّة
إنَّ «السُّنَّة» في لبنان، وبِنَظَرِ الميثاقيَّة الوطنيَّة للعيش المُشْتَرَكِ، التي يعتمدها النِّظام السِّياسيُّ الحاليُّ للبلد، هم طائفةٌ؛ وقد يكونوا من أكبر الطَّوائف عددًا وانتشارًا في لبنان، غير أنَّهم يبقون طائفةً. بناءً على هذا، فإنَّ للـ«السُّنَّة» في النِّظام السِّياسيِّ الحاليِّ للجمهوريَّة اللُّبنانيَّة، حقوقٌ سياسيَّةٌ يرتبطون بها، ولربَّما لا يمكنهم تجاوزها إلى حقوقٍ سياسيَّةٍ سواها، مَثَلَهُم في هذا مَثَلُ أيِّ طائفةٍ أخرى، حتَّى ولو كانت من أقلِّ الطَّوائفِ عديدًا أو أدناهم في مطارح الانتشار في البلد. ومن هنا، لن يمكن لـ»السُّنَّة» في لبنان، سوى أن يتمسَّكوا بهذا المفهوم لوجودهم، طالما أنَّ هذا المفهوم الطَّائفيَّ للعيش المشترك هو المعمول به في البلد؛ ولا بدَّ لهم، تاليًا، من العمل الدَّؤوب والمنظَّم والمسؤول لتعزيز وجودهِم هذا، والسَّعيِّ المستمرِّ، من ثمَّ، لتدعيم هذا الوجود بإنفاذ رؤيتهم الوطنيَّة الجامعة والشَّاملة والبنَّاءة فيه.
* (رئيس المركز الثَّقافيِّ الإسلاميِّ)..اللواء