عاصمة لبنان في عهد بلدي صارت فيه بيروت «عروس بخشخاشه مصموده بالتابوت»

تَتَوَزَّعُ المَهامُ فِي «بَلَدِيَّةِ بَيْرُوت» بَيْنَ «مَجْلِسٍ بَلَدِيٍّ» مُنْتَخَبٍ مِن قِبَلِ البَيارِتَةِ مُباشرةً، يَمْلُكُ حَقَّ التَّخطيط ووضعِ المشاريع وطلب تَنْفيذِها؛ ومِن «مُحافِظٍ»، مُعَيَّنٍ مِن قِبَلِ الدَّولةِ، يَحظى بِصلاحِيَّةِ التَّنفيذِ لِمُقرَّراتِ هذا «المَجْلِسِ البَلَدِيِّ»، لكن مِن دونِ أنْ يكونَ هذا التَّنفيذ مُرتبِطاً بِمُدَّةٍ زمنيَّة مُعَيَّنَة! لَيْسَ هذا التَّباينُ في الصَّلاحيَّات، ضمن عمل «المجلس البلديِّ» لمدينة بيروت، و«محافظ» المدينة، بجديدٍ على الإطلاق؛ بل معروفٌ ومعمولٌ به، منذ سبعينَ سنةٍ مِن اليوم، عَبْرَ توالي «المجالس» و«المحافظين» في هذه المدينة. واقع الحال، نّصَّ المرسومُ الاشتراعيُّ رقم (5)، الصَّادر بتاريح 31 تشرين الأوَّل سنة 1952، وبموجب المادَّة 129 منه، على أن «يتولَّى أعمال السُّلطة التَّنفيذيَّة في بيروت المحافظ»؛ وكان التَّصديق على هذا المرسومِ الاشتراعيِّ بتوقيع كلٍّ مِن رئيس الجمهوريَّة، حينذاك، كميل شمعون، ورئيس الوزراء خالد شهاب، الذي كان كذلك وزيراً للدَّاخليَّة والعدليَّة والأنباء والدِّفاع، ومعه سائر الوزراء؛ وهم موسى مبارك وزير الأشغال العامَّة والبرق والبريد، وسليم حيدر وزير التَّربية الوطنيَّة والصَّحة والاسعاف العامِّ والشُّؤون الاجتماعيَّة، وجورج حكيم وزير الماليَّة والاقتصاد الوطنيِّ والزِّراعة.

لَطالَما أَثارَ هَذا التَّوَزُّعُ لِلْمَهامِ، بين «المجلس البلديِّ» و«المحافظ»، مِن إشكاليَّاتٍ وتضاربٍ في طبيعة الوجود، بين الجانب المُنْتَخَبِ والآخر المُعَيَّنِ؛ وكشفَ عن تناقضٍ في الرُّؤى والمصالح بينهما. تكاثرت مشاهد الاختلاف والتَّعارض، طوال عقود من الزَّمن، من قِبَلِ الجانب المُنْتَخَبِ، على تعدُّد مجالسه وتنوُّع أعضائه ورؤسائه، مع الجانب المُعَيَّن، على تعدُّد أشخاصه واختلاف انتماءاتهم وولاءاتهم. لعلَّ بعضَ نماذج من التَّاريخ القريب للمجالس البلديَّة في بيروت، زمن «المجلس البلديِّ» للمدينة، إبَّان رئاسة المحامي شفيق السَّردوك والمهندس محمَّد غزيري والمهندس عبد المنعم العريس والدكتور المهندس بلال حَمَد، تشهدُ على جوانب عديدة من هذا الأمر وما تركه من سلبيَّات على فاعليَّة العمل البلدي. لكن، ورغم كلِّ هذا التَّباين في الصَّلاحيَّات بين «المجلس» و«المحافظ»، فإنَّ هذه المجالس البلديَّة ظلَّت، بقوَّة حضورها وعزم رؤسائها، قادرة على تعزيز المدينة، تنظيميًّا وإداريًّا وخدماتِيًّا وجماليًّا. يضاف إلى هذا، أن هذه المجالس، نجحت في صَوْنِ الوجودِ الوطنيَّ الواحد والمتكاتف وتعزيزه، بما تجاوز حدود الخدمات البلديَّة، إلى ما صار يُعتبر من المعالِمِ الإيجابيَّة في وجود عاصمة لبنان، والذي صارت بيروت، ببعضٍ منه، أنموذجاً كانت تطمحُ كثير من العواصم العربيَّة والإقليميَّة، زمنذاك، أن تصل إلى مستواه.

مَا مِن أَحَدٍ فِي لُبنانَ إلَّا وَيَذْكُرُ ما سجَّلته صحافةَ ستِّينات القرن العشرين وسبعيناتِهِ، المحليَّة منها والإقليميَّة كما تلك الدَّوليَّة، مِن إعجابٍ بتنظيم سير المركبات الآلية في شوارع بيروت المزدحمة وأسواقها وساحاتِها، وتجاوب المواطنين مع مهابة التَّنظيم العامِّ الذي كانت تقود ريادته «بلديَّة بيروت»، في تلك الحقبة. كان لهذه المهابة التَّنظيميَّة للوجود البلديِّ، أن ترك إيجابيَّات مهابتة عبر تناغمها مع تنتظيمات الوزارات والإدارت في العاصمة اللبنانيَّة؛ وعلى سبيل المثال، فإن اللبنانيين، والبيارتة خاصَّة، ما أنفكُّوا إلى اليوم، يذكرون بفخرٍ واعتزازٍ وفرحٍ، شُرطِيَّ السَّير الأشهر في بيروت، عبد الرَّحمن برُّو، «أبو وَجِيه»، الذي كان قادراً، بِكفاءَةِ حضوره الشَّخصيِّ وَحدَهُ ومهابةِ وظيفته وأجواء التَّنظيم البلديِّ العام السَّائدة آنذاك، أن يُنَظِّمَ مرور الآليَّات عند التَّقاطعات الخمسِ الشَّديدة الإزدحام لـ«ساحة بشارة الخوري»، في منطقة «رأس النَّبع» من بيروت؛ في حين أنَّ ما مِن أحدٍ في بيروت اليوم، إلَّا ويعاني رُعونة كثير من سائقي المركبات الآليَّة وَهَوَجِ غالبيَّتهم وعَتَهِ من تبقَّى منهم، وهم يطلقون العنان لمركباتهم الآليَّة؛ بما يُسْقِطُ أيَّ منطقٍ لوجود إدارةٍ للسَّير أو لكيفيَّات تعاطي المواطنِ مع أيِّ قانون في هذا المجال؛ وبما يؤكِّد، تالياً، السُّقوط َالجَحِيميَّ المُتَألِّق، والبائسِ غيرِ المَسبوقِ، لأيِّ احترامٍ للنِّظام، مع الزَّوال المُريعِ لأيِّ مَهابة للقائمين عليه، وبما يؤكِّدُ، بكلِّ وضوحٍ، هزالةَ ما وصلت إليه مهابة التَّنظيم البلديِّ للعاصمة.

مَا بَرِحَت شَوارِعُ بَيْرُوتَ تَسْتَقْبِلُ، مع كلِّ ساعة تمرُّ على أيَّامها، مزيداً من الحُفَرِ التي تقتحم، بوقاحتها الخرقاء والسَّفيهة، ما تَبَقَّى من الإِسْفَلْتِ القديم، الذي ما زال ما تبقَّى من فضلاته يُغَطِّي ما يَسَعُ مِن جَنَبَاتِ شوارعها. كما أنَّ الكهرباء تَغِيبُ، بكلِّ صفاقة مُبْتَذَلَةِ، عن عدد مَديدِ الانتِشارِ مِن الإشاراتِ الضَّوئيَّة، التي كانت أنوارها الخضراء والصَّفراء والحمراء، تُنَظِّمُ مرورَ المركبات الآلِيَّةِ في هذه الشّوارع، وفي ما ينبثق عنها من ساحات. وكأنَّ هذه الإشارات الضَّوئيَّة صارت اليوم أرملةً ثَكلى ترتدي السّواد، حُزناً منها على غياب رجلها؛ في حين أنَّ قسماً آخر من هذه الإشارات تشوَّه زُجاجه، إن لم يكن قد جرى اقتلاعٌ أَهْوَجٌ له عن الأعمدة التي سبق أن وُضِعَ على رؤوسها. ومن جهة أخرى، فقد بات كثير من شوارع المدينة الكبرى وأنفاق السَّير الحديثة فيها، تتكبَّد عذابات جحيم عَتْمَةٍ دَامِسَةِ الظُّلْمَةِ تُحيق بها، وتجعل المرور بها أكثر من مغامرةِ رُعْبٍ ومخاطرَ لَوْثَاتِ جنونٍ لا أمكانيَّة لتقدير نتائجها حتَّى من قِبَلِ الحيوانات الشَّاردة. ولَئِن كان لأبناء بيروت وأهاليها وزوَّارها أن يتباهوا، حتَّى منذ عهد قريب، بجمال ما في شوارعها الرَّئيسة وكورنيشاتها تحديداً، من وسطيّات شكَّل منظرها لوحات أخَّاذة من جمال تنسيق النَّباتات وتناغم ألوان الأزهار في أحواضها؛ فإذا بها اليوم، وبحزن مُسْتَذَلّ، مطرحاً كئيباً لبقايا قمامة ورقيَّة وأخرى عضويَّة وملجأً، منبسط الجنبات غنيِّ الفُتات، لقوارض ترتعُ فيه بكلِّ دلالٍ وعِزٍّ ونَضار.

تَتَكاتَفُ هَذِهِ الصُّوَرُ مِنْ بَيْرُوتَ، في ما بينها، مشيرةً إلى مسؤوليَّةٍ أساسٍ وكبرى وحيويَّةٍ؛ تَقَعُ على عاتقِ بلديَّةِ بيروت، في وجودِها واستمرارِها وخِزْيِ نتائِجِها. واقع الحال، ثمَّةً بؤس إنساني مُزرٍ، ومأساة اجتماعيَّة مبكية، وفاجعة وطنيَّة كبرى، تتفجَّر جميعها اليوم في أجواء عاصمة لبنان، بيروت. الأدهى، ههُنا، أنَّ كثيراً من ناس بيروت والمراقبين لما يجري والمحللِّين لأوضاع ما يحصل، يرون أنَّ مسؤوليَّة وطنيَّة وسياسيَّة وإداريَّة هائلة تقع، في هذا المجال، على عاتق بلديَّة بيروت بمسؤوليها المنتخبين والمعيَّنين على حدِّ سواء. ينكشفُ مفتاحٌ أساسٌ لفهم هذه المسؤوليَّة الوطنيَّة والسِّياسِيَّة وحتَّى الإدارِيَّة، عبر ما بات متزايداً اليوم من استقالات متلاحقة لأعضاء من المجلس البلديِّ؛ وبشكل أخصَّ من أعضائه أبناء الطَّوائف المسيحيَّة. كأنَّ في هذا ما يمكن أن يُبْنى عليه من تقرير عن اعتراض أو شجب أو رفض لما آلت إليه أحوال العمل البلديِّ راهناً؛ وفي هذا، كذلك، ما يمكن أن يُعيد إلى التَّفكير، في مجالات البحث والنِّقاش، موضوعاً خطيراً وشائكاً؛ يقترح توزيع العمل البلديِّ في العاصمة بين أكثر من مجلس بلديِّ، وهذا ربَّما يكون من الموضوعات غير المستساغة، وحتَّى المرفوضة عملِيًّا، في مجالات تنفيذ المصلحة البلديَّة الوطنِيَّة للعاصمة، في هذه المرحلة الشَّديدة الحساسيَّة والدِّقَّة من المسارين الوطنيِّ والسِّياسيِّ العامَّين لبيروت، كما للوطن برمَّته. ولا يمكن لأيِّ مراقب مُنْصِفٍ، أن يُنْكِر انَّ في استمرارِ هذا الحالِ، ما سيدفع بالبيارتة قاطبة، ومعهم اللُّبنانيين كافَّةً، إلى إعادة ما أنشده «شاعر الشَّعب» الأستاذ عمر الزِّعني، قبل تسعين سنة من اليوم، زمن الانتداب الفرنسيِّ على لبنان، من قَوْلِهِ مخاطباً بيروت «يَا عَرُوس بْخِشْخاشِهْ/ يَا مَصمُودِي بِالتَّابُوتْ/ يَا ضِيعانِكْ يَا بَيْرُوتْ»؛ عِلماً أنَّ التَّاريخ يؤكِّد أنَّ بيروت، لم تصل عهدذاك، إلى ما هي فيه اليوم؟!

تَسْتَوْجِبُ المَرحَلَةُ الرَّاهِنَةُ، سَعياً دؤوباً وأقوى ثِقَةٍ، يقوم به المخلصون الوطنيُّون والأوفياء للتَّاريخ النَّاصع لإزدهارِ عاصِمَةِ لبنان، إلى الحِفاظِ الوطنيِّ والفعليِّ الملموسِ على وِحدةِ العَمَلِ البَلَدِيِّ، بِإِحقاقٍ للشَّخصيَّةِ الوطنِيَّةِ العَمَلانِيَّةِ للمَجلِسِ البَلَدِيِّ لعاصمةِ لبنانَ ولِلإدارةِ التَّنفيذيَّةِ لِمُقرَّراتِهِ. ويَستدعِي هذا، في ما يَستَدعِيهِ، مُراجَعَةً مَوْضُوعِيَّةً مَسْؤُولَةً لِكُلِّ ما سَبَقَ مِن تَلْزِيمَاتٍ لِمشارِيع لّمْ تّتَّضِح طّبيعَةُ الجَدْوى العامَّةِ منها، وتَنْفيذٍ لِتَعَهُّداتٍ لَمْ تَكُن، وِفاقاً للإنطباعِ الوَطَنِيِّ والشَّعبِيِّ العامِّ عنها، لا في مَوْقِعِها المُناسب، وَلَا ضمْنَ الفائِدَةِ الشَّامِلَةِ التي كانَت تُرتَجَى مِنْ القِيامِ بِها.

د. وجيه فانوس /رئيس المركز الثقافي الإسلامي… اللواء