الحرية من خلال اتباع التسامي والاسقاط (أ)
د. وجيه فانوس… اللواء
عُرِفَ عن رينيه ديكارت (1596-1650) René Descartes، أنَّهُ فيلسوفٌ وعالمُ رياضيَّاتٍ وباحثٌ كاثوليكيٌّ فَرَنْسِيُّ؛ استنبطَ علوماً ومعارِف للهندَسَةِ التَّحليليَّةِ؛ كما اشتُهِرَ بربطِهِ بينَ مجالاتِ الهندَسَةِ والجَبْرِ، بعدَ أنْ كانت مُنفصلَةً في ما بينَها، مِمَّا سمحَ بِحَلِّ مُشكِلاتٍ هندسِيَّةٍ عَن طريقِ استِخدامِ المُعادلاتِ الجَبْرِيَّةِ. وعُرِفَ عن ديكارت، كذلك، تَروِيجَهُ لِمَفهومٍ جديدٍ للمَّادةِ؛ سمحَ بِحسابِ الظَّواهِرِ الفِيزيائِيَّةِ، بِطريقِ التَّفسيرِ المِيكانِيكيِّ. وفضلاً عن كلِّ هذه الأمورِ، فقد اشتُهر ديكارت بِوَضْعِما عُرِفَ بـ«تأمُّلاتٍ في الفَلسَفَةِ الأولى» Meditationes de Prima Philosophia، وهو عملٌ قَصيرٌ نِسبِيّا، نُشِرَ سنة 1641، وفيهِ تَقدِيمٌ فلسفيٌّ أَساسٌ لِإِمكانيَّات العُلوم.
وُلِدَ ديكارت، يَوْمَ 31 آذار (مارس) من سنة 1596، في شمالِ غربِ فَرَنسا France، في بَلدَةِ لاهاي La Haye، ضمنَ مُقاطَعَةِ مانشي Manche. كانَ والِدُهُ مُحامِياً وقاضِياً؛ وَحَصَلَ أنْ تُوفِّيَت والِدَة ديكارت، في السَّنةِ التي تَلَت وِلادتها لَهُ، فكانَ لهُ أن يَنشأ بِرِعايّةٍ مُباشِرَةٍ مِن قِبَلِ جَدَّتِهِ. اُلْحِقَ ديكارت سنة 1606، إذ كان في حَوالِيِّ العاشِرَةِ مِن عُمْرِهِ، بـ«الكُلِّيَّةِ اليَسوعِيَّةِ» في لا فْلِيشْ Collège des Jésuites de La Flèche؛ والتَحَقَ، تالِياً، في سنة 1615 بـ«جامِعَةِ بواتييه» Université de Poitiers، وفيها حَصَّل، بعدَ ذلك بسنةٍ، على شهادةِ «البكالوريا» Baccalauréat ومِن ثَمَّ على إجازة في القانون والقانون المدني Licence Droit Canonique et Civil (Grayling: 1-13)
يَبْنِي ديكارت تَعامُلُهُ معَ الحُرِّيَّةِ على أَساسِ التَّمييزِ التَّام بينَ ما يُسَمِّيهِ نَفْساً ومَا يُسَمِّيهِ جِسماً. Descartes: Meditations (ديـكارت: التَّأملات: 235-236) فلئن كانَ التَّركيبُ الفيزيولوجيُّ للبَشَرِيِّ في الإِنسانِ، وما يَتْبَعَهُ مِن آلِيَّةِ عَمَلٍ تُحَقِّقُ وُجُودَهُ، جَوْهَـرَ الجِسْمِ؛ فإِنَّ الِفكْرَ، بِما يُفَصِّلُ فيهِ ديكارت مِنْ قُدُراتٍ عـلـى التَّعَقُّلِ والإِرادَةِ، هُوَ جَوْهَرُ النَّفسِ في الإِنسانِ. ويَرى ديكارت، فـــي هذا المجالِ، أنَّ المعرفةَ وظيفةُ العَقْلِ، فِي حِين أنَّ اِثْباتَ الأَفكارِ وَظيفةُ الإِرادةِ (Schiffer: 21-43) و(ديكارت، تأملات،الحاج، ص 165 – 168) و(ديكارت، التَّأملات، أمين، ص 185 – 189).
إذا ما كانت وظيفةُ العقلِ تحقيقَ التَّوصُّلِ الى المعرفةِ، فإنَّ المعرفةَ لا تكونُ، في الأَساسِ، إِلاّ في عَيانِ الأفكارِ الواضِحَـِة والمُتَمَيِّزَةِ. ويُشِيرُ ديكارت، ههُنا، إِلى أنَّ الفكرةَ، أَيَّةَ فِكْرَةٍ، لا تكونُ مُتَمَيِّزَةٍ إِلاّ إِذا كانت مُعطاةً بِكامِلِها ومُيَسَّرَةً للإدراكِ؛ وهيَ لا يُمكِـنُ لها أنْ تكونَ كذلكَ إِلاّ إِذا كانت مَخْلُوقَةً (ديكارت، تأملات، الحاج، ص 151–152) و(ديكارت، التَّأملات،أمين، ص 115 – 117) فالأفكارُ، ووِفاقاً لِما يذهـبُ إِلَيْهِ ديكارت، لا تَنْوَجِدُ مِن ذَواتِها، بَلْ مِنْ مَوْجُودٍ أَعلى هُوَ مَصدَرُها. وعلى هذا، فإِنَّ ديكارت يَرى إلى أنَّ الأفكارَ تَنْقَسِمُ، بِحُكْمِ هذا الفَهْمِ لِوُجُودِها، إِلى مَيْدانَيْنِ. إِنَّها تَتَجلَّى، أوَّلاً، بِحُكْمِ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ مِن مَوْضُوعاتٍ مَعرِفِيَّةٍ؛ ثُمَّ تَتَجَلَّى، ثانياً، بِحُكْمِ المَوْجُودِ الأَعلى الذي هُوَ الأَساسُ فِي وُجُودِها. لِذا، فإِنَّ ديكارت يَعتَبِرُ الميدانَ الأوَّل لِوُجُودِ الأَفكارِ ميدانَ المَعلُومِ والمَفهومِ، وهُو ما يُمْكِنُ تَسْمِيَتهُ بِميدانِ المَوْضُوعِ؛ ويَعتَبِرُ الميدانَ الثَّاني للأَفكارِ ميدانَ المَوْجُودِ الأَعلى، الذي هُوَ الأساسُ فِيما هُوَ مَعلُومٌ ومَفْهُومٌ.
ad
يميّزُ ديكارت، في مجـالِ المعـرفةِ، بين العقلِ والإِرادةِ؛ إِذْ يرىَ أنَّ معرفةَ الأَفكارِ، عَمَلٌ مِنْ أعمالِ وظائِفِ العقلِ، في حِين أنَّ إِثباتَ هذهِ المعرفةِ، مِنْ وظيفـةِ الإرادةِ. فالعقلُ، عندهُ، يُعايِنُ الفِكْرَةَ، بينما تقومُ الإِرادةُ بتقريرِ حَقِيقَتِها. ومِن هُنا يَذْهَبُ ديكارت إِلى أنَّ العِلْمَ هُوَ ما يَنْتُجُ عَن مُعايَنَةِ الفِكرَةِ بِمَعرِفَتِها عَقْلِيًّا، ومِن ثَمَّ تقرير حقيقتِها فِعلًا إِرادِيًّا إِنسانِيًّا. فالعِلْمُ، عندهُ، فِي نِهايَةِ المَطافِ، فِعلُ إِقْرارِ الإِرادةِ المَبْنِيَّةِ على المعرفةِ، بالأَفكارِ الضَّروريَّةِ والسَّرمَدِيَّةِ التــــي جاءَتْ إِلى العقلِ عنْ طَريقِ المَوْجُودِ الأَعلَى – الله (ديكارت، تأملات، الحاج، ص148-156) و(ديكارت، التَّأملات، أمين، ص112-119) كـأنَّ ديكارت يَدعو، بِذا، إِلى سَعيِ العقلِ الإِنسانِيِّ إِلى التَّسامِي، عَـبْرَ إِرادَتِهِ، إِلى مُستوى المعرفةِ الصَّادِرَةِ عنِ اللهِ، بإقرارِ هذا العقلِ الإنسانِيِّ بها.
يتحقَّقُ فعلُ الحرِّيَّةِ عندَ ديكارت، إِذن، مِن خلالِ عــلاقةِ الإِرادةِ بالأَفكارِ التي تَسعى إِلى الإِقـرارِ بِها. فالأَفكارُ، باعتِبارِها ضَرُورِيَّةً، هي أَفكارٌ ثابِتَةٌ؛ بَيْنَما الإِرادةُ المُقَرَّرَةُ، بِاعتِبارِها ناتِجاً إِنْسانِيًّا مُتَعَلِّقاً بِظُرُوفِهِ المَعرِفِيَّةِ، فَأَمْرٌ مُتَغَيِّرٌ. ولِذا، فإِنَّ القُدرةَ على فِعلِ أَمْرٍ أَو عَدَمِهِ، تَبْقى مَصدراً أَساساً لِمُمَارَسَةِ الحُرِّيَّةِ. إنَّ الإِنسانَ يَشعرُ، تالِياً، حيالَ الأَفــكارِ التي يُقَدِّمُها لَهُ العَقْلُ، أَنَّهُ لا وُجُودَ لِقُوَّةٍ خارجِيَّةٍ تُرغِمُهُ عـلى إِرادةِ هذهِ الأَفكارِ، أيْ على فِعلِها أو على عَدَمِ هذا الفِعلِ.
صحيحٌ أَنَّ الإرادةَ، وكيفما دارَ الأَمرُ، تظلُّ خاضِعَةً لِدَواعٍ أو أَسبابٍ هِي التي تُوَجِّهُها، وهِيَ السِّرُّ الخاصًّ بكلِّ إِنسانٍ؛ لكن هذا لا يَعني أبداً أنَّ الإِرادةَ يجبُ أنْ تسـيرَ بِموجَبِ الهَوى المُطْلَقِ.لا بُدَّ للإِرادةِ مِن أنْ تُجاهِدَ للوصولِ إِلـى ما هُوَ ضَرورِيٌّ وسَـرمَدِيٌّ مِن الأَفكارِ. ومِن هُنا، فإِنَّ حُسْنَ التَّـقـريـرِ وسلامَةِ الحُكْمِ اللَّذينِ يُمارِسهُما الإِنسانُ في إِرادتِهِ للأَفـــكارِ التي يَتَعرَّفُ عليها بِالعقلِ، هُما الفَيْصَلُ. ولِذا، يَنبغِـي عـلى الإِنسانِ، بِنَظَرِ ديكارت، الانتباهَ كَيْما تَكونُ أفعالُهُ، أَي إِرادتهُ لِما يعرِفُهُ مِن أفكارٍ، حَسَنَةٍ وسَليمَةٍ (ديكارت، تأملات، الحاج، ص200-203) و(ديكارت، التَّأملات، أمين، ص219-221).
إِنَّ الخطأَ الذي يرتكبُهُ الإِنسانُ في إِرادتِهِ لِما هُو غير حَسَنٍ أو سَليمٍ، لا يَصدُرُ عن اللهِ؛ بلْ عَن حُرِّيَّةِ إِرادةِ هذا الإِنسانِ. فالحُرِّيَّةُ، مِن هذا المَنظورِ، هي فعـلُ الإِرادةِ الذي يقودُ إِلى ما هو حَسَنٌ وسَليمٌ. إِنَّها في حُسْنِ التَّقـديرِ؛ بَلْ هِيَ معرفةٌ عقليَّةٌ تَتَجلَّى مِن خلالِ فِعلِ إِرادَةٍ خالٍ مِنَ الوُقُوعِ فــي الخَطأ. أَمَّا مقياسُ الخطأ والصَّوابِ، فَيَبْقى فِعلَ اجتِهادٍ إِنْسانِيٍّ دَيْدَنَهُ المعرفةُ العقلِيَّةُ للوصولِ إِلى مستوى الوُجُودِ الأَعـلى؛ هـــذا الوُجُودُ الذي تصدرُ الأَفكارُ عنهُ. فالحُرِّيَّةُ، عـندَ ديكارت، فِعلُ مُجاهَدَةٍ عقليَّةٍ يَسعى إِلى تَسامِي الوُجُودِ العَقلِيِّ الإِنسانِيِّ بالأَفكارِ الصَّادِرَةِ عنِ الله مِن خلالِ الإِرادةِ.