د. وجيه فانوس… البناء
يُشيرُ تَوالي الأمور المالِيَّة الرَّاهنة في لبنان، إلى تنامٍ مضطرد في ازدياد الطَّلب العامِّ على استخدام الدُّولار الأميركيِّ، بشكل أساسٍ، لتسديد المتطلَّبات الماليَّة، المتوجِّبة على النَّاس، تجاه المؤسَّسات السِّياحيَّة، من مطاعم ومقاهٍ وفنادق ومنتجعات، وكذلك الأمر تجاه بعض المؤسَّسات التَّعليميَّة والتَّربويَّة، من مدارس ومعاهد وجامعات، ناهيكَ بكثير من شؤون الطَّبابة والاستشفاء، من مستشفيات وعديد من مجالات تأمين بعض الأدويَّة لدى الصَّيدليَّات والأدوات الطبِّيَّة لدى المؤسَّسات المتخصِّصة بتأمينها، فضلاً عن شراء الأشياء الباهظة الثَّمن، مثل السَّيارات والمجوهرات، وسوى ذلك.
يُصطَلَحُ، في مجالات الشَّأن الماليِّ العامِّ، على تسمية الاستعانة العلنيَّةٍ، على نطاق محلِيٍّ واسعٍ في دولةٍ ما، بالدُّولار الأميركيِّ، أو بأيِّة عملة أجنبيَّة، إلى جانب العملة المحليَّة، أو بعد الاستغناء عن هذه العملة المحلِيَّة في بعض المرَّات، بـ“الدَّوْلَرَة” Dollarization. بناءً على هذا، يمكن القولَ إنَّ لبنان بدأ ينزلق بصورة واضحة، لا لبس فيها، في مسارات “الدَّوْلَرَة”؛ وقد لا يكون مِن مجالٍ عملِيٍّ للعودةِ عنها.
واقِعُ الحال، ثمَّة ثلاثة أنواع مبدئيَّة يعرفها العالم، حتَّى الآن، من “الدَّوْلَرَة”؛ وهي الرَّسميَّة، وشبه الرَّسميَّة، وغير الرَّسميَّة. تكون الدَّولَرَة رسميَّة، بناءً على إعلانٍ رسميٍّ تصدره حكومةُ الدَّولة المَعنِيَّة؛ وقد ينتج عن هذا أن تتوقَّف هذه الدَّولة عن إصدار عملتها المحلِيَّة، مستعيضةً عنها باستخدام العملة الأجنبيَّة المحدَّدة؛ وهذا الأمر لم يحصل حتَّى اللَّحظة في لبنان. تتجلَّى الدَّولَرَة شبه الرِّسميَّة، إذ يكون العمل بها، مِن دون ما إعلانٍ رِسميٍّ يصدر عن حكومة الدَّولة بتشريعها؛ فتتحقَّق الدَّولَرَةُ، ضمن هذا السِّياق، وكما هو الحال الرَّاهن في لبنان، بأن يكون لدى الأفراد، بغرض حمايتهم لثرواتهم النَّقديَّة من التَّضخُّم الحاصل للعملة المحليَّة، ودائع مصرفيَّة معترف بها رسميّاً، بالعملات الأجنبيَّة؛ أو أنَّهم يحتفظون، ضمن قوانين بلدهم، بأوراق نقديَّة أجنبيَّة. لا تختلف الدَّولَرَة غير الرَّسميَّة، عن تلكَ شبه الرَّسميَّة، سوى أنَّ الاعتماد فيها على العملة الأجنبيَّة، لا يكون معترفاً به قانونِيّاً من قبل حكومة الدَّولة.
تَمُرُّ الدَّولَرَة شبه الرَّسميَّة، كما هو الوضع الحاليِّ في لبنان، بثلاث مراحل بارزة؛ تعرف أولاها بمرحلة «استبدال الأصول»، وفيها يحتفظ النَّاس بما لديهم من سندات أجنبيَّة وودائع خارج البلد؛ وهم عادة ما يقومون بهذا حماية من خسارتهم لثرواتهم جرّاء ضغوط التَّضخُّم في قيمة صرف النَّقد المحليِّ، أو خوفاً من وقوع مصادرات رسميَّة تقوم بها الحكومات للثَّروات أو أقسام منها. تمتاز المرحلة الثَّانية من الدَّولَرَة شبه الرَّسميَّة، بما يمكن وصفه بـ»استبدال العملة»، وهذا ما تنشغل به جماعات كبرى من اللُّبنانيين في هذه المرحلة؛ إذ يحتفظون بكميَّات كبيرة من الودائع بالعملات الأجنبيَّة في النِّظام المصرفيِّ المحلي، كما يحتفظون بالأوراق النَّقديَّة الأجنبيَّة في أيديهم، لتكون، غالباً، وسيلة للدَّفع المباشِر واستثماراً لقيمتها النَّقديَّة في وجه تدنِّي قيمة النَّقد المحلِّي. والذي يشهده الوضع النَّقديُّ حاليّاً، هو استمرار دفع الأجور وتأدية الضَّرائب والرُّسوم والنَّفقات اليوميَّة بالعملة المحليَّة؛ في حين بروز طلبات جامحة، من قبل المؤسسات التجاريَّة، إلى تسديد أثمان مشترياتِهم الباهظة الثَّمن، أو تلك المرتفعة الكلفة، بالعملة الأجنبية. لا يجد النَّاس، في المرحلة الثَّالثة من الدَّولَرَة شبه الرَّسمية، أنفسهم، وكذلك الحكومات في بلدانها، وكما يبدو أنَّ هذا الأمر بدأ في الظُّهور في لبنان، سوى أنهم يجنحون، بحكم اشتداد الضغوط الاقتصاديَّة، إلى الاعتماد الكلِّيِّ على استخدامهم للعملات الأجنبِيَّة، لتسديد المتطلِّبات الماليَّة لشؤونهم كافَّة؛ وفي هذا الجنوحِ ما يدفع بالأسعار المُقَدَّرة بالعملة المحليَّة، لأن تكون مرتبطة، بصورة مباشرة، بتقلُّبات أسعار صرف هذه العملات الأجنبيَّة؛ وهذا هو الوضع القائم اليوم في لبنان، من دون أيِّ إغفال لواقع أنَّ هذه التَّقلُّبات لا بدَّ لها، بدافع من ارتكازها على قيمة نقديَّة لا سلطة للحكومة عليها، فإنَّها ستخرجُ، حُكْماً، عن سَيْطَرَة الحكومة عليها في هذا المجال.
يُلاحَظُ من الاطِّلاعِ على الدَّراسات المتخصِّصة والتِّحليلات النَّقديَّة، من سلبيَّاتٍ لاعتماد الدَّولَرَة، شبه الرَّسميَّةِ، كما هو الحال القائم في لبنان، أنَّ الطَّلب على العملة المحليَّة يصبحُ غير مستقرٍّ؛ وغالباً ما تنشأ عن هذا الوضعِ دوَّامةٌ من التَّضخُّم الماليِّ، تضرب النَّقد المحليِّ؛ وتؤدِّي، تالياً، إلى مزيدٍ مُتسارعٍ من انخفاضٍ لقيمةِ هذا النَّقد. ومن جهة أخرى، فإنَّ التغيِّير في أسعارِ الفائدةِ المَحَلِيَّةِ، أو تلكَ الأجنبيَّةِ، في النَّشاطِ المَصرِفِيِّ النَّاتجِ عن هذا الوضعِ، وكما يشهد الحالُ النَّقديُّ في لبنان راهِناً، يمكن أن يؤدِّي إلى تحوُّلات كبيرة من عملة إلى أخرى، ضمن ممارسات المضاربة حول سعر الصَّرف لهذه العملات؛ الأمر الذي ينتج عنه، وبكل وضوح، تأزيمٌ قاتل لعمل المصرف المركزيِّ،، وخاصَّة في مجالات سعي المصرف إلى تحصين النَّقد المحليِّ.
يُمْكِنُ الإشارة، ههنا، إلى أنَّ ثمَّة إيجابِيَّةً للدَّولَرَة شبه الرَّسميَّة، يمكن الإفادة منها في حال السماح الرَّسميِّ للمصارف في البلد، قبول الودائع بالعملة الأجنبيَّة. وهذا الأمرُ متحقِّق في لبنان؛ ممَّا يؤدِّي إلى عدم اضطرار المودعين إلى إرسال الأموال خارج البلاد لتحويلها للعملة الأجنبيّةَ. وبناءً على هذا الاحتمال في بقاء الأموال بالعملات الأجنبيَّة، ضمن المصارف في لبنان، فإنَّ احتمالات مخاطر تخفيض قيمة العملة، التي تتحصَّل جرَّاء تدفُّقات المصارف، تصبح أقلّ؛ وبهذا، قد تنهضُ الدَّولَرَة شبه الرَّسميَّة، عامل تعزيز في مواجهة تضخُّم العملة المحليَّة؛ بل يمكن أن تساهم، كذلك، في تأمين استقرار ما للنِّظام المصرفيِّ.
تُعتَبَرُ الدَّولَرَة الرَّسميَّة أكثر يُسراً في فاعلِيَّتها الآنيَّة والمباشرة، من الدَّولَرَة غير الرَّسميَّة، لأنها باحتلالها مواقع العملة المحلِيَّة، تقضي على المشاكل النَّاجمة عن التَّحوِيلات بين العملات المحليَّة والأجنبيَّة. وبما أن التَّضخُّم المتزايد، وكثيراً من المشاكل النَّقديَّة الأخرى، التي تتفشَّى في البلدان النَّامية، تنشأ في كثير من الأحيان من الفاعلِيَّة السَّلبيَّةِ للعملة المحليَّة، وليس من فاعليَّات العملات الأجنبيَّة، الأكثر استخداماً؛ وهكذا، فإنَّ الدَّولَرَة تؤمِّن سلاماً نقدِيّاً ما في هذا الشَّأن.
إِذا مَا كانَ مِنْ مَفاهيمِ النّقدِ الوطنيّ، وكما تنصُّ القوانين اللُّبنانيَّة وتعتمد دلالاتها في رسم السِّياسة الماليَّة للدَّولة، أنّه الوسيلة السّائدة في البلد، للتّبادل في مجالاتِ شراءِ السِّلَعِ وبَيْعِ الخَدَماتِ؛ فإنّه، في أساسهِ، محصّلةُ المناقصةُ القانونيّةُ التي يُصدِرُها «المَصرِفُ المَرْكَزِيُّ»؛ والتي يَتمُّ عَبْرَها تثمينُ قيمِة اللّيرةِ اللّبنانيّةِ بالدّولارِ الأميركيّ، بما يحفظ سيطرةً وطنيّةً للدّولةِ اللّبنانيّةِ على مساراتٍ للاقتصادِ الوطنيّ. يضاف إلى هذا أنّ فقدان «المَصرِفِ المَركَزِيِّ» لهذه الفاعليّةِ في تثمينه اللّيرةَ اللٌّبنانيَّة، جرّاء انعدام الوجودِ العمليّ لها، يعني فقدانَ السّيطرةِ الوطنيّةِ على مساراتٍ أساسٍ مِن الاقتصاد الوطنيّ؛ وهذا لا يمكن إلاّ أن يعني ارتهانَ الاقتصادِ الوطنيّ لخارجٍ ما؛ الأمرُ الذي لا يُمكن أنْ يقودَ سوى إلى الارتهانِ الكُليّ لهذا الخارج، وتحديداً وفاقاً لمصالح هذا الخارج الاقتصاديّةِ والسّياسيّةِ والثّقافيّةِ، وكلّ ما هو في هذا المجال.
بَدَأت تَظْهَرُ، جَرَّاء اعتمادِ هذه «الدَّوْلَرَةِ» في لبنان، إرهاصاتُ وجودٍ حادٍّ لِفِئَتَيْنِ مِنَ اللّبنانيين، هما: «المُتَمَكِّنونَ» مِنْ استخدامِ الدّولار، بِحُكْمِ ما يُحَصّلُونَهُ مِن مداخيل بالعملة الأجنبيّة؛ و»العاجِزُونَ» عن استخدامِ الدّولار، بِحُكْمِ انحصارِ مَداخِيلِهم باللّيرة اللُّبنانِيَّةِ. تَنْعَمُ الفئة «الدّولاريّة» اليوم بحياةٍ موسِرَةٍ، بل مُرفّهةٍ، نتيجة إمكانيّاتها النّقديّةِ؛ في حين تَأْسَى الفئةُ الثّانيةُ بانحدارٍ مُتنامٍ لمستويات معيشتِها، في مهاوي الحرمانِ والبؤسِ والعجزِ؛ وربَّما يصلُ بها الأمر إلى التَّلاشي الكُليّ، انتحاراً أو هجرةً أو نكوصاً لا نهوضَ بعده.
سَيَكونُ ناسُ الفِئَةِ الأولى، إن شاؤوا أو إن أبوا، مرتبطينَ عضويّاً بمساراتِ الاقتصادِ والسّياسةِ، التي تُديرُ شؤونَ الدّولار الذي يعيشونَ به؛ ولا ضمانَ على الإطلاقِ، لأيّ أحدٍ، مِنْ أن تكون هذه المساراتُ متناسبةً فعلاً مع ما يُمكن اعتبارهُ وطنيّاً البتَة. إنّ الخطوةَ الأولى باتّجاه «الدَّوْلَرَةِ»، لا يُمكن إلّا أن تؤكّدَ، بكلِّ وضوحٍ وسُطوعِ بيانٍ، أنّها خطوةٌ سريعةٌ وواثقةٌ باتّجاهِ خسارةِ البلدِ لِمَناحٍ مِن وجودهِ الوطنيّ.
لنْ يُمكنُ، تالياً، «للدَّوْلَرَةِ» أن تكونَ حلّاً حقيقيّاً للأزمةِ الوطنيّةِ الكُبرى، التي يعيشُها لبنان؛ بل هي، حلٌّ إذا ما طال زمنه، صار يعني الحُكْم بإعدامٍ للُبنان وطنيّاً. إنّ الخلاصَ مِن هذه الأزمةِ الوطنيّةِ الكُبرى للبنان، يكونُ، وبكلِّ بساطةٍ ووضوحٍ وجُرأةٍ ومباشَرَةٍ، في معالجةِ أحد أبرز أسبابها الواقعيّة؛ وذلك أملاً في أن توفِّر هذه المعالجةُ تزويدَ البلدِ بقوّةِ نهوضٍ فاعلةٍ، تُساهم في تَحَرّرٍ معقولٍ لهُ من ضُغوطِ التَّصارُعِ الدَّوْلِيِّ للسَّيطرةِ على قدراتِهِ النَّقْدِيَّةِ واقتصادهِ الوطنيِّ.
بإمكانِ اللُّبنانيِّين، اليوم، وبكلِّ مباشرةٍ، العملَ على اعتمادٍ واضحٍ وصريحٍ وصادقٍ، ومِن دونِ أيّ دَجَلٍ أو خِداعٍ، للقانونِ العامِّ للمُحاسَبَةِ الإِدارِيّةِ والماليّةِ الحاليّ للبلد؛ وكذلكَ العمل على نَشْرِ ثقافةٍ انتخابيّةٍ نِيابيّةٍ تؤكّدُ للمواطن، أيّاً كانت طائفتُه وأيّاً كان توجُّهه السّياسيّ، أنّ له الحقّ، عبر مواطنيّته وَحدَها، في خيراتِ البَلدِ وأموالِه ورَسْمِ السِّياسةِ الوَطَنِيَّةِ له. يُمكن ضمنَ هذا الوعي، محاسبةَ كلِّ مسؤولٍ، واسترجاعَ كلِّ منهوبٍ، والتَّخَلُّصَ مِن كلِّ فسادٍ، وتحصيلَ كلِّ حقٍّ؛ والوقوفَ، مِن ثَمَّ، على قدمينِ ثابتتينِ لِبِناءِ اقتصادٍ وطنيٍّ مُنْتِجٍ أكثر منه استهلاكيّ، لا ينقص البلدُ شيئاً فِعليّاً مِن مقوّمات العمل عليه، والنَّجاح في هذا العمل؛ وإعادة اللّيرة اللّبنانيّةِ إلى قوّتها ومصداقيّتها وفوائد الثّقة الوطنيّة والخارجيّة فيها وفي أهلها ولبنانها؛ والمساعدة الوطنيّة للبنان ليكون قادراً على مواجهة الصِّراعات الدَّولِيَّة السَّاعية إلى أيِّ افتِئاتٍ على جَوْهَرِ هُوِيّةِ وجودِهِ