الدكتور وجيه فانوس… الحوار نيوز
مابرح تعاقب العهود الرِّئاسيَّة في لبنان، وخاصَّةً في العقود الأربعة الأخيرة من الزَّمن، مع تراكم التَّجارب السِّياسيَّة التي يعاينها أبناء هذا البلد ويعانون منها، ومع توالي الأيَّام عليهم؛ تشهدُ عديدًا من المآسي الشَّديدة الهَوْل، والفجائع القاضية على الوجودِ، بِعَوَزٍ ماليِّ وتدميرٍ اقتصاديٍّ وخرابٍ اجتماعيٍّ. يؤكِّد هذا الحال، بجميع ما فيه، وبكلِّ واقعيَّة مَعِيَوشَةٍ وملموسةٍ، أنَّ المفهوم السِّياسيَّ الطَّائفيَّ والمذهبيَّ، المُعتمد في الدَّولة اللُّبنانيَّة، والقائم على قراءةٍ مُعَيَّنةٍ للبند (ي) مِن “مقدِّمة الدُّستور اللُّبنانيِّ”، التي تنصّ على أنْ “لا شرعيَّةَ لأيِّ سلطةٍ تُناقِضُ ميثاقَ العَيْشِ المُشتَرَكِ”؛ قد أثبتت فشلها وعقمها؛ بل أكَّدت، وخاصَّة في هذه العقود الأخيرة، كونها عامل تخريبٍ وطنيٍّ وعنصرَ هدمٍ مؤسَّساتِيٍّ للدَّولة؛ وذلك خلاف ما كان يؤمل منها، مع إعلان استقلال لبنان سنة 1943، وتوافق الرَّئيسين بشارة الخوري ورياض الصُّلح على “الميثاق الوطني”، ومن التَّمسك بها.
يتأكَّد هذا الأمر من خلال ما تشهده السَّاحة السِّياسيَّة في لبنان، حاليًا، في موضوع تشكيل الحكومة العتيدة، من اعتماد منطق التَّحجُّج بالتَّوازنات الطَّائفيَّة، والحرص ضمنها على التَّوزيعات المذهبيَّة والمراعاة التَّقليديَّة لخواطر معيَّنة؛ فيما البلد في أمسِّ الحاجة إلى تأليف فوريٍّ لحكومةٍ تعالج، بوعيٍ وموضوعيَّةٍ ومسؤوليَّةٍ وطنيَّةٍ جامعة، الآفات المتتالية والقاتلة التي تحلُّ بالبلدِ، والأخرى التي يُتَوَّقعُ أن ترمي بأثقالها عليه وتفتَّ من عضده.
لا بدَّ، ههنا، ومن منطلق المنطق الوطنيِّ البنَّاء، من إعادة جذريَّة لقراءة مفهوم العيش المشترك، باعتباره ضمان ميثاق العيش الوطنيِّ، الذي يجب أن ينهض عليه لبنان حقًّا، في هذه المرحلة من وجوده المعاصر.
هل هذا “العيش المشترك” مابرح حقًّا العيش بين الطَّوائف، وما فيها من توجُّهات وما لها من زعامات وقيادات، كما كان الحال عند إعلان “دولة لبنان الكبير”، من قبل المندوب السَّامي الفرنسي، الجنرال غورو سنة 1922، قبل قرن من الزَّمن، ومع ترسيخ هذا المفهوم، باتِّفاق الرّئيسين الخوري والصُّلح، سنة 1943، مع الإعلان عن استقلال لبنان؛ أم هو، اليوم، ونحن في العقد الثّالث من القرن الواحد والعشرين، عيشٌ مُشْتَرَكٌ بين مواطنين، أيًّا تكن انتماءتهم الدِّينيَّة والمذهبيَّة وحتَّى السِّياسية؟
بيَّنت الأيَّام والأحداث، التي تعاقبت على لبنان، وبشكل لافت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وخلالَ ما يُعرف بـ”سنوات الاقتتال الأهليِّ” وحتَّى اليوم، أنَّ ما يجمع بين اللُّبنانيين كافَّة هو الوطن، وما يربط بين مصالحهم هو الوطن؛ وأنَّ وجودهم الطَّائفيِّ والمذهبيِّ، لم يعد سوى شأنٍ خاصٍّ بكلٍّ منهم؛ أمَّا وجودهم الوطنيُّ فهو الأساس. إنَّ الوعي الموضوعيَّ لهذا الواقع صار يُحَتِّم، تاليًا، وفي هذه المرحلة القصيرة والدَّقيقة والمصيريَّةِ، التي يتهيَّأ فيها البلدُ لانتخاب رئيس جديد للجمهوريَّة، أن يُصار إلى عقد مؤتمر وطنيٍّ تأسيسيٍّ توحيديٍّ للمرحلة المقبلة؛ لا يبحث، لا مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ، بالمناصفَةِ أو المُثالثةِ أو سوى هذه التَّقسيمات الطَّائفية والتَّوزيعات المذهبيَّة، التي شوَّهت لبنان وما انفكَّت تهدم في وجوده الوطنيَّ؛ ولا يبحث، كذلك، حتَّى في تعديل للدُّستور؛ بل يكون همُّه الوحيد والمُطلق، هو إقرار توافقٍ وطنيٍّ جديدٍ ومعاصِرٍ، مراعٍ لواقِع الحالِ، على قراءةِ البند (ي) من مقدِّمة الدّستور؛ وهو البند الذي يذكُر “العيش المشترك”، على أنَّ هذا العيش هو العيش المشترك الواحد والموحِّد بين جميع اللبنانيين؛ بغضِّ النَّظر عن طوائفهم ومذاهبها، وبعيدًا عن انتماءاتهم الحزبيَّة، وخالصًا من أيِّ ارتباط بانتساب كلٍّ منهم إلى أيِّ منطقة جغرافيَّة من البلد؛ إنَّه العيش المشترك القائم على مفهوم المواطنة؛ وهو العيش الذي ما برح كثيرون في لبنان، ومنذ سنوات، يطالبون بإقراره.
يمكن الانطلاق في الدَّعوة إلى هذا المؤتمر من قبل السيِّد رئيس مجلس النُّوَّاب اللُّبنانيِّ، وهو السِّياسيُّ اللُّبنانيُّ الذي طالما دعا إلى اعتمادِ المواطنةِ في لبنان؛ وفي حال تعذُّر حصول هذه الدَّعوة، يمكن للقوى السِّياسيَّة والوطنيَّة المختلفة أن تتنادى إلى عقده، وطلب المصادقة عليه من قبل المجلس النِّيابيِّ؛ كما يمكن أن يكون، وتمثُّلًا بما حصل سنة 1943، بين رئيس الجمهوريَّة ورئيس الوزراء، أن يكون ثمَّة إعلان لهذا الاتِّفاق بين السيِّد رئيس الجمهوريَّة والسيِّد رئيس الوزراء الحاليين، ويُطلب من المجلس النِّيابيِّ المصادقة على هذا الإعلان وإقراره.
4 حزيران 2022