د. وجيه فانوس / اللواء
لَطالَما كان تساؤل بعضهم إنْ كانَ ثمَّة تمايز عملانِيٍّ بين ما هو سياسيٌّ وما هو وطنيٌّ؛ وخاصَّةً أنَّ في لبنان من يعتبر السِّياسيَّ، لمجرَّد أنَّه سياسيُّ، شأناً وطنِيًّا؛ ولا يجد، مِن ثمََّ، أيَّ فسحَةٍ مفهومِيَّةٍ، للتَّمييزِ بينَ هذين المُصطلحَيْنِ المَفْهُومَينِ. قد يكون الدَّافع الأساس إلى هذا الخلط، أنَّ التَّركيز الأساس في البِناءِ المفهوميِّ للوطن، ينهض عند كثيرٍ من اللُّبنانيين، على ممارسةٍ للفاعليَّةِ السِّياسيَّة ضمن الدَّولةِ، وما يمكن أن توفِّره هذه الفاعليَّةُ، للمتعاملين معها وبها، مِن مكاسب وحيازة لمغانم أو تعزيزِ تأثير أو توسيعِ مجالاتِ قِيادةٍ
يَبْدو أنَّ هذا التَّوجُّه المفهوميِّ، ناتجٌ عن تَجَذُّرٍ لثقافةٍ تاريخيَّةٍ شعبيَّةٍ، نشأت ردَّةَ فِعلٍ جَمْعِيَّةٍ وفردِيَّةٍ، واعيةٍ أو غير واعيةٍ، جَرَّاءَ تَكَوُّماتٍ مِن قَهْرٍ تَسَلُّطِيًّ لقوىً حاكمةٍ ومُتَحَكِّمَةٍ، مُمْعِنَةٍ في قِدَمِها الزَّمنِيِّ، بِمَّا تركَ بصماتٍ لثقافةٍ مفهومِيَّةٍ، شديدةِ الرُّسوخِ في الوجدانِ الشَّعبِيِّ اللُّبنانيِّ. وكانَ مِن دَواعي هذا الأمر، أنْ غَلَبَ منطوقُ مُواجهةِ الشَّعبِ للدَّولة، سلطةً قاهرةً، بالمُوَاظَبَةِ الأقصى لِكَسْبِ كُلِّ ما يُمكنُ الوصولُ إليهِ وحِيازتهُ منها؛ على الثَّقافةِ المفهومِيَّةِ لمنطوقِ الوَطنِ، بِكُلِّ ما تكتنزه مِن الوَعيِ المُتنامي والانشغالِ المُستمرِّ بِصَوْنِهِ وتعزيزه وتنمية عوامل وجوده وتفعيل عناصر هذا الوجود. يمكن القول، تالياً، إنَّ مفهوم ثقافة آنِيَّةِ الدَّولة، والتي هي في أساسها العمليِّ ووفاقاً لدَّلالة اللُّغويَّة للفظها، مجال لاستمرار التَّغَيُّرِ والتَّبدُّلِ، بتقلُّب السُّلطات وتغاير السِّياسات؛ قد دَحَر مفهوم ثقافة ثباتِيَّةِ منطق الوطن، بدَيْمُومَةِ ما ينهض عليه وينبثق منه، من أرض وناس وقِيَمٍ ثَّقافيَّةٍ واجتماعِيَّة.
لَعَلَّ لهذا الحال، من تغليب ثقافة الكَسْبِ من الدَّولة، ما يُسَوِّغ وجودَهُ، في المراحِلِ المُظلمَةِ من أزمنة التَّاريخِ الآفِل في لبنان؛ وذلك في حالات التَّعامُلِ مع انتشارِ التَّسَّلُّط الطَّاغي للحًكَّام، والعَسَفِ الباغي للإقطاعيين، والاستبدادِ الأجنبيِّ بمصائر أبناء البلاد وممتلكاتهم؛ كما قد يمكن تَجْوِيزُ هذا الحالِ، قديماً، في أجواءِ الجَهلِ المَعرِفِيِّ والثَّقافيِّ، عند بعضهم، بحقيقة مفهوم الأوطانِ، والفِطنَةِ لحقيقةِ الفاعِلِيَّة السِّياسِيَّةِ، وإدراك جوهر وجودها، تالياً، ضمن الوجود الوَطَنِيِّ. وإذا ما كان هذا التَّجويزُ وذلك التَّسويغُ يتناسبان وبعضَ حالاتٍ عاثِرَةٍ في مجتمعات جاهلةٍ، وبيئات مَنْكُودَةٍ بتخلِّفها الفكريِّ وإِملاقِها الاجتِماعِيِّ، فإنَّ الزَّمن المُعاصِرَ قد عَفى على كثيرٍ من هذه المفاهيم وقِيَمِها وأساليبها. فالعصر الحاليِّ، وخاصَّة بما يشهدُ في هذه العقود الزَّمنيَّة الرَّاهنة من القرن الواحد والعشرين، وما يعاينه ناسه من تطوُّر عملِيٍّ مذهل في الوسائط المستحدثة للتَّقارب المعرفيِّ والعلميِّ والاجتماعِيِّ، يُعرِضُ عن هذه المفاهيم التي يعتبرها بالية، ويستهجن تلك القيم والأساليب التي لا يراها إلاَّ خَسِيسَةِ؛ ولا يرى، في هذه جميعها، سوى تخلُّف معرفيٍّ شائنٍ لأصحابها، وانكفاءٍ ثقافِيٍّ مُعِيب لكل مَن ما برح يلجأ إليها، نهجاً في وطنهِ. يضاف إلى كلِّ هذا، أنَّها، في التقِّييم العِلمِيِّ لفاعِلِيَّتِها السِّياسيَّة، لا تعتبر غيرَ نُكوصٍ حضارِيٍّ، مُهِينٍ للمجتمعاتِ التي ما انفكَّت تُعَوِّلُ عليها في تدبيرِ شؤونِ عَيْشِها الوَطنِيِّ.
ad
يُكابدُ لبنانُ، الدَّولة والشَّعبُ، في هذه المرحلة، مآسٍ وطنِيَّةٍ؛ تَطالُ كلَّ ما ينهض عليهِ البلدُ من مؤسَّسات حكومِيَّة وخاصَّة، وما يعيشُ فيه ناسه، على اختلافِ أهوائهم ونزعاتهم السِّياسيَّة وتنوُّع أديانهم ومذاهبهم وسياساتهم. تتمثَّلُ هذه المآسي، بالهمِّ اليوميِّ المُرِّ، لِعَدَمِ توفُّر رغيفِ الخُبزِ للمواطنين، بعد أن صار البلدُ مِن دونِ ماء ولا كهرباء، وطبعاً بعد أن اعتاد القومُ فقدانَ الدَّواء، وما زالوا يعانون شبه استحالة الاستشفاء؛ كما قد سبق كلَّ هذا، غيابُ فاعليَّة أيِّ تحقيق جدِّيٍّ في ما حصل، قبل أكثر من سنتين، مِن تفجير في مرفأ بيروت وما حلَّ بأموال المُودِعِين لدى المصارف، وما آل إليه الأمر في المال العامِّ المنهوب في وزارات الدَّولة وإداراتها، وصولاً إلى المصرف المركزيِّ، بِقَضِّهِ وقَضِيضِهِ.
يَتَطَلَّبُ هذا الوضعُ العامُ الرَّاهن، وبإلحاحٍ، إنقاذاً وطنِيًّا مباشِراً من كوابيس البؤسِ التي ما فتئت تلقي بكلاكِلها، الثَّقيلةِ واللَّئيمةِ، على جميع المواطنين؛ وفي ظرف تنهمك فيه الجهات المعنِيَّة بتشكيل حكومةٍ تُحَضِّرُ، خلال الأشهر القليلة المقبلة، لانتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريَّةِ، وهي الأشهر التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة؛ يشهدُ الواقع لِغَلَبَةٍ كُلّيَّةٍ لِما هُوَ سياسيٌّ، على ما هو وَطَنِيٌّ. إنَّ أصحاب هذا التَّوجُّه في الفهم لما هو سِّياسيٌّ لا يرون من الدَّولةِ سوى بابٍ شديدِ الاتِّساع، وأفقٍ عظيمِ الانفتاحِ، لتأمين مكاسبَ شخصيَّةٍ لهم يستفيدون منها، وتوزيع مصالحَ آنيَّةٍ لهم ولمن معهُم من أنصار وأزلام ومحاسيب. وإنَّ ما هو وطَنِيٌّ ينشأ عن منهجٍ مختلفٍ في النَّظر إلى الدَّولة وطرح كيفيَّات التَّعاملِ من خلالها؛ إذ لا يرى في الدَّولةِ سوى أنَّها الحضور الحيّ، المُتَرامي الأرجاء؛ والأفق الرَّحب، المُتَّسِع لجميع أبناء الوطن وسياسييه؛ والشَّامل في فاعِلِيَّتِه العامَّةِ الحضورَ الوطنيَّ الشَّاسع؛ وهو الحضور القادر، بشمولِيَّتِه الجامعة، على تأمين تَوَحُّدِ المواطنين كافَّة حوله ومن أجله. ويُؤكِّد واقعُ الحالُ الرَّاهن، ومِن خلالِ ما صارَ يطفو على سطح المعلومات المُتاحة، المتسرَّبة عبر الصَّحف ووكالات الأنباء وتقارير المراقبين، فضلاً عن ما يُنشر من تحليلات ذوي الخِبرةِ والإطِّلاع، أنَّ ظَلامِيَّاتُ العَمَى السِّياسيِّ تعملُ بكلِّ كَدٍّ وإصرارٍ وإِرْتبَاطٍ وتَعَهُّدٍ والتزامٍ، للقضاءِ، بِعمى ما لديها من بصيرة وما تنهض عليه من أنانيَّات وما تؤمن به وحده من أنَّ الدَّولةَ بابٌ لِلْكَسْبِ الشَّخصيِّ والمنفعةِ الزَّبائِنِيَّةِ، على إطفاءِ شَعشَعانِيَّاتِ أَنْوارِ الوُجُودِ الوَطَنِيِّ كافَّة، بكلِّ ما تَنْبَلِجُ عنهُ مِن وَعِيٍ بِأنَّ الدَّولة هي الأداةُ لحماية الوطن وتنميته وتعزيزه.
تَبْحَثُ الرُّؤية الوطنِيَّةُ اليومَ عن حكومةٍ، ولو كانت قصيرةَ المدى الزَّمنيِّ في وجودِها المتوقَّع والمتوقِّف عندَ إِنجازِ انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريَّة اللُّبنانِيَّة، قبل انتهاء شهر تشرين الأوَّل المقبل، أي خلال أربعةِ أشهر فقط من اليوم، أنْ تُراعي ما يمكن من شؤون الضِّيقِ الوطنِيِّ، الشَّامل بأذاه جميعِ اللُّبنانيين؛ وتُدير أُمور العُسْرِ الماليِّ، المُشْتَرَك بين غالبِيَّة المواطنين، وخاصَّة الموظَّفين منهم والعسكريين وكذلك المتقاعدين وجميع من يتقاضوا مرتَّباتهم بالعملة اللّبنانيَّة المنهكةِ. ويسعي هذا التَّوَجُّه الوطنِيُّ، إلى أن تتدَبَّر، الحكومة العتيدة، ما تشهده الحياة العامَّة، راهِناً، مِن تراخٍ أمنيٍّ وفَواجِعَ انتحار؛ وأنْ تتعاملَ، مِن جهةٍ أخرى، برصانةٍ مطلقةٍ ووعيٍ فَطِنٍ، مع مفاوضاتٍ، قد لا يكونُ ثمَّة مَنْجَاةٍ منها، مع «صندوق النَّقد الدَّولِيِّ»؛ وتقف، كذلكَ، بعِلمٍ وخبرةٍ وذكاءٍ وحرصٍ وطنِيٍّ، في ما سيكونُ مِن نِقاشاتٍ ومواجهاتٍ ومفاصلاتٍ ومساوماتٍ تتعلَّق بترسيمٍ قاطعٍ للحدودِ البحريَّةِ الإقليميَّةِ الجنوبيَّةِ؛ وأنْ تَعي، بِكُلِّ مَسْؤولِيَّةٍ وواجبٍ، تأمينَ إدارةٍ وطنِيَّةٍ قادرةٍ على حفظِ حقوقِ الشَّعب اللُّبنانِيِّ، مِن عائداتِ استخراجِ الغاز الطَّبيعيِّ والنِّفط من مياهه الإقليميَّة، وأن لا يبقَى الأمرُ متروكاً لاتِّفاقِيَّاتٍ غيرِ عادِلَةٍ، تَمْنَحُ إداراتِ الشَّركاتِ المستثمرةِ لهذا الاستخراج، كثيراً مَنِيعاً ومُتَغَلِّباً مِن هذه الحقوق.
تَعمِى شَعشَعانِيَّاتُ أَنْوارِ الوُجُودِ الوَطَنِيِّ اليوم، إذ ينهمكُ كثير من المعنيين بشؤون تشكيل الحكومة العتيدةِ، بالتَّباحثِ في كيفيَّات الوصولِ بأنفسهم، وكذلكَ من يمثلهم ويمتُّ إليهم بصِلَةٍ، إلى ما يؤمِّن تعزيزاً لوجودهم، وتوفيراً لمكاسب تطال مَن معهم ومَن يُواليهم؛ مُعتبرين أنَّ في هذا خدمةً جلَّى في الانتصار للوطنِ. لعلَّ هؤلاء لم يدركوا بعد، رَغمَ كلّ ما يحيق بالوطن وناسه وأيَّامه المقبلة، أنَّ ما يعيشه الوطن مِن هَدْمٍ ودَمَارٍ وبؤسٍ وهَلاَكٍ وفقرٍ، وربَّما مَوتٍ، ما كان له أن يكون من غير إدراكهم، الباطلِ والرَّجعيِّ والمتخلِّفِ سياسيًّا وحضارِيًّا، أنَّ البِناءَ المفهوميَّ للوطن، ينهضُ على مجرِّد تأمينِ القدرة السياسِيَّةِ على توفِّير الأقصى من المكاسب وحيازة الأعظم من المغانم، أو الوصول إلى المناصب الأشدَّ تأثيراً على تسيير الأمور وقيادةِ ناسها لما يرونه هم مصلحةً. إنَّ الوطنَ ليس سياسة على الإطلاق؛ بل إنَّ السِّياسة ما وُجدت إلاَّ لخدمة الوطن؛ وإذا ما بقي الوضعُ، وفي هذه المرحلة الحرجة والخطرة والدَّقيقة والمصيريَّة، كما يبدو عليه؛ فإنَّ القَوْلَ بأنَّ «ظَلامِيَّاتُ العَمَى السِّياسيِّ تُطْفِئُ شَعشَعانِيَّاتُ أَنْوارِ الوُجُودِ الوَطَنِيِّ»، يصبحُ واقعاً وحقًّا صريحاً. هل سيبقى لبنانُ، في هذا الحال المخزي، مَطْلَبَ أهل الفكر، ومُبْتَغًى روَّاد التَّجديد الحضاريِّ، ومُرَاد السَّاعينَ إلى الأسواق الماليَّة الموثوقة، وأَمَل الطامحين إلى رغدِ عيشٍ وهناءة بالٍ، وتَطَلُّعَ والمتشوِّقينَ إلى عِزَّةِ عطاءات الأرزِ وعنفوانه، ورَجَاء السَّاعين إلى ريادةٍ علميَّةٍ تبهر العالم وتزيده غنىً معرفِيٍّ؟
تُرَى هل سيبقى للبنانيين كافَّة أن يردِّدوا، بفخرهم الخليق بهم وبعظمة شموخهم المحقَّة، أبيات الشَّاعر اللٌّبنانيِّ الكبير «أمين تقيِّ الدِّين»، «الله يا لبنانُ ما أَجملَكْ/ وأروَعَ الشَّيبَ الذي جلَّلك/ بين يديك الملكُ في جاهِهِ/ على الثَّرى أو عزُّه في الفَلَكْ/ زُهِيْتَ بِالتَّاجِ فَما تَأْتلِي/ تُودّع النُّورَ كَما اسْتَقْبَلَكْ/ فِي بَهْجَةِ المَاسِ قُبَيْلَ الضُّحَى/ وَرَوْعَةِ اليَاقُوتِ عِنْدَ الحَلَكْ/ أنْتَ نَعِيمُ اللهِ فِي وَعدِهِ/ مَثَّلتَ بِالنَّعمَاءِ مَنْ مَثَّلَكْ/ لبنانُ هيَّا نَتَشاكَى الهَوى/ لِيَ التَّصَابِي فِيكَ وَالسِّحرُ لَكْ»؛ أم تراهم سيبقون على ذِكْرِ هذه الأبيات، كما بَقي شعراء العصر الجاهليِّ العرب، يذكرون أطلال أحبَّتهم الغابرين؛ أو أنَّ حالهم سيصير كما قالت «عائشة»، أمُّ الأمير «أبي عبد الله محمَّد الثَّانى عشر»، المعروف بـ«أبي عبد الله الصَّغير»، آخر ملوك الأندلس، الذى سلَّم مدينة «غرناطة» للملك «فرناندو» والملكة «إيزابيلَّا»؛ طاوياً صفحة سبعة قرون ويزيد من الوجود الحضاريِّ الرَّاقي، الذى ما برحت تتغنَّى به الحضارةُ الإنسانيَّةُ إلى الآن، «ابكِ، كالنِّساءِ مُلكَاً لَمْ تُدافِع عَنْهُ كالرِّجال»؛ طبعاً مع التَّحّفُّظ التَّامِ على الاستخدامِ الجندريِّ، بالمفهوم المعاصِرِ، في هذا القول؛ بَيْدَ أنَّ العِبرةَ تبقى في جوهر مضمونه. وأخيرَا، وليس آخراً، هلْ سيكفر اللُّبنانيُّون ما أّقَّروه مع شاعرهم منصور الرَّحباني، سنة 2003، في مسرحيَّته «ملوك الطَّوائف»، إذ قال «إِذا راح المَلِكْ، بْيِجِي مَلِكْ غَيْرُه، وْإِذا رَاح الوَطَن مَا فِي وَطَنْ غَيْرو»؛ لِيَقُولوا «إِذا رَاح المَلِكْ ضَرُري يِجِي مَلِك مِتْلو، وإِذا راح الوَطَنْ مِشْ ضَرُورِي يِجِي غَيْرُو»؟!!!!