منذ الخطيئة الأولى التي ألصقت بحواء، رغم اختلاف الروايات والقصص عن حقيقة هذه الخطيئة، لم ينقطع الجدل وقد بنى عليه الكثيرون أسباب حملاتهم وهجومهم على المرأة؛ إلى أن جاء الإسلام وساوى بين آدم وحواء في تحمل وِزر ” الخطيئة “، وبرأ حفيداتها من تحمل مسؤولياتها؛ ولم تأتِ إشارة في الآيات البينات إلى ابتداء حواء بالإغراء والتسبب في عصيان أمر الله، فالخروج من الجنّة.
خلقَ الله آدمَ حسن القامة، مرفوع الهامة، جميل الوجه، راجح العقل، ذكي الفؤاد، سليم التفكير، يتحمل مسؤولية الغواية، قد كان أولى به أن يكون – وهو بهذه الصفات – أكثر إدراكاً لخطورة ما يبدرُ من حواء التي خلقها الله بعد أن خلقه، خلقها من نفس آدم وعلى هيئته ليأنس بها ويسكن إليها.
لا يجوعان فيها ولا يَعريان
أسكن الله آدم وحواء جنةً، لا يجوعان فيها ولا يعريان ولا يشعران ببردٍ، فلا يكونان لذلك بحاجةٍ إلى لباس، كما أنهما لم يكونا يشعران بأنهما عاريان؛ وكان فيها كل النِعم وأشجار الفاكهة، وأجاز الله لهما أن يأكلا ثمارها مايشاءان، ونهاهما أن يقربا شجرة بعينها، وحذرهما من كيد إبليس، الذي لم يلبثْ أن جاءهما وأغراهما بالأكل من الشجرة المحرمة في تيار الغواية، وخالفا مشيئة الله سبحانه وتعالى.
ويقال: إن أول من أكل من الشجرة كانت حواء، وإنها هي من أقترحت على آدم الأكل فعنفها وذكرها بالعهد؛ لكن إبليس عاد فأغوى آدم، فأكلها وفتح لنفسه طريق العذاب، والآلام أمام الإنسانية كلها، وما إن أكلا منها حتى تفتحت عيونهما على ما كان محجوباً عنهما، وتنبه عقلاهما واستيقضت مداركهما، وأحسا بما لم يكن لهما به عهدٌ، فتناولا من ورق شجرة وتسترا به.
واعترف آدم وحواء بذنبهما، فاستغفرا الله فتاب عليهما، ولكنه أمرهما بمغادرة الجنة والهبوط إلى الأرض.
يقول المفكر عباس محمود العقاد:
” هذه القصة، قصة الشجرة الممنوعة، هي الصورة الإنسانية لوسائل الذكر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء.
الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري، وتتمثل بداهة النوع في تواضعهما، أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان!
لقد اختلفت الروايات التفصيلية لهذه القصة، لاسيما عند بعض المفسرين الذين أكدوا في معرض شرحهم لآيات القرآن الكريم، القولَ أن حواءَ هي البادئة في الإغراء.
قال الطبري، وهو من المفسرين الأقدمين بالإسناد عن وَهب بن منبِه
” لما أسكنَ الله آدم وزوجته الجنّة، ونهاهما من الشجرة، أراد إبليس أن يستذلهما فدخل جوف الحية، ولما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء به إلى حواء فقالت: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وطعمها، وأحسن لونها!
فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وطعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوأتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: << يا آدم أين أنتَ >>.
قال: << أنا هنا يارب >>! قال: << لا تخرج >> ! قال: << استحي منك يارب >>، ثم قال ربّه: يا حواء أنتِ التي غررت عبدي، فأنت لا تحملين حملاً إلا حملته كرهاً، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مراراً.
وقال للحيةِ: << أنت التي دخل الملعون في جوفكِ حتى غرَّ عبدي، ملعونةٌ أنت لعنةً ولا يكن لك رزقٌ إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحداً منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شرخَ رأسك>>.
تفسير الطبري هذا يتأثر بحفظةِ التوراة من اليهود الذين دخلوا في الإسلام.
كذلك فعل الألوسي صاحب معجم ” روح المعاني ” الذي قال:<< بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس، تجلى لهما على سور الجنة، فدنت منه حواء، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار>>؛ وقيلَ توسّلَ بحيةٍ الجنة، والمشهور حكاية الحية.
وهذان الآخران يشير أولهما عند سادتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشجرة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب.
يبدو جلياً التأثر بالتوراة، في العودة إلى الإصحاح الثالث من سفر التكوين:
” كانت الحية أصل جميع الحيوانات البرية، فقالت للمرأة: أحقاً قال الله لا تأكلا من شجر الجنة ؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة تأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله لا تأكلا منها، ولا تمساها لئلا تموتا…
فقالت الحية للمرأة: لن تموتا بل الله أعلم أنه يوم تأكلان منها تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشرّ.
عندها رأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأخذت من ثمرها وأعطت رجلها فأكل، وانفتحت أعينهما وعلما أنهما عاريين كأوراق التين، وصنعا لأنفسهما مآزرَ، وسمعا صوت الرب الإله، ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأنني عارٍ واختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها، فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة، فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية أغرتني فأكلت، فقال الرب الإله للحية، لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تَسعَين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأصنع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقِبَه.
وقال للمرأة: << تكثيراً أُكَثّرُ أتعاب حَمْلك، بالوجع تلدينَ أولاداً، وإلى رَجُلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك >>.
وقال لآدم: << لأنك سمعت لقول امرأتِك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كلَّ أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى التراب تعود>>.
جاء في سفر التكوين – الفصل الثاني:
” دفع الرب سُباتاً على آدم، فنام، فاستلّ أحد أضلاعه وبنى من الضلع التي أخذها امرأةً، وألقى بها إلى آدم الذي قال: هذه المرأة عظم من عظامي ولحم من لحمي، لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، فيصيران جسداً واحداً.
جاء في الإنجيل ( العهد الجديد )
” لكنني أخاف أنه كما خَدعت الحية حواء بمكرها، هكذا تَفسِد أذهانكُم في البساطة التي في المسيح ”
في القرآن – سورة البقرة:
<< وقلت: يا آدم اسكن أنت وزوجتك الجنة، وكُلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه >>.
وفي سورة الأعراف:
<< ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووريَ عنهما من سوءاتهما وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخالدين >>.
وفي سورة طه:
<< فوسوس إليه الشيطان، قال: يا آدم هل أدلُّك على شجرة الخلد وملكٌ لا يُبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربّه فغوى >>
سبب حقد إبليس على آدم:
يعود إلى أن الله حينما خلق آدم، أمر الملائكة أن تسجد له فسجدوا، إلا إبليس، وكان من الجن، فإنه أبى واستكبر، فغضب الله عليه وطرده من الجنة.
لقد انصبت كل الاتهامات على حواء، بأنها وحدها المسؤولة والمذنبة، بينما ظهرت اجتهادات أخرى تنفي عنها ذلك، قالوا: إن حواء كانت السبب في طردها من الجنة وزوجها، لسعيها المستميت والمميت وراء الجمال، وقد أقنعها إبليس أنها إذا أكلت التفاحة سوف تظل جميلةً للأبد، فصدقته وخالفت أمر ربها.
في رأي المفكر عبد القادر المازني:
ما فعلته حواء لم يكن من قبيل الإغراء والغواية، لكنه من قبيل الرغبة في مشاكة زوجها لها في ما استطابت ووجدت طعمه لذيذاً.
وفي رأي الدكتورة سهير القلماوي:
” معروف عن البابليين أن الله بعد أن خلق آدم، خلق من ضلعه حواءَ ووعدها بأن يظلا في الجنة وقال لآدم: إنه مع زوجته لا يجوع ولا يعرى، وحذره من الأكل من الشجرة. وهي شجرة الملك، فيأكلان منها وتبدو لهما سوءاتهما ويطردان، أما آدم فقد حلت عليه اللعنةُ، وهي أن يسعى ويشقى وأن يجوع ويعرى.
وحواء التي أنصتت إلى إبليس وأطاعته وأغرت آدم بالعصيان، فعليها عذاب الحمل والولادة، حتى ترى في كل مرةٍ تلد، الموت بعينيها، ولأنها قطعت فرع شجرة الخُلد، عليها أن تدمى كل شهرٍ كما أدمت الشجرة! والحية عقابها الزحف على بطنها وأن يضربها الناس كلما رأوها على رأسها>>.
لهذا التحول الدراماتيكي، هبطت المرأة مع زوجها آدم من الجنة إلى الأرض، ليسيرا في طريق محفوف بالصعاب والآلام.
****