أَزْمَةُ الخَيْبَةِ السِّياسِيَّة في لُبنان

الدكتور وجيه فانوس

(رئيس ندوة العمل الوطني)

جَوْهَرُ الأَزْمَةِ

يَجِدُ جميعُ الفرقاءِ السِّياسيين في لُبنان، ذواتَهم، استناداً إلى ما يعانونه ويعاينونه، من التَّصارعِ اللاهِثِ بينَ التَّعدُّدِيَّاتِ القِيميَّةِ والمفهوميَّةِ، على اضطرارٍ حَيَويٍّ أساسٍ، للعيشِ، ضمنَ مُجتمعاتٍ سِياسيَّةٍ، ووفاقًا للقِيَمِ والمبادئ والمؤسَّساتِ والممارساتِ السِّياسيَّةِ التي تَجِدُ إقراراً لها؛ رَغْمَ ما قد يكونُ في هذا العيْشِ، مِن مسافاتٍ مُتفاوتِةٍ مِن تصوُّرِ كلِّ فريقٍ، أو حتَّى شَخْصٍ، للصَّالحِ السِّياسيِّ العام.  ورغمَ أنَّ مبادئ الدِّمقراطيَّةِ ومفاهيمها العامَّة، هي المُعتمدَةُ، بالنَّصِّ الدُّستوريِّ الجَليِّ، في لبنان؛ فإنَّ كلُّ ما يردُ في هذا الدُّستورِ من موادٍ ومعاييرٍ، وما يمكن أن ينشأ عنها من أعمالٍ، يبقى مرتهناً، بحزمٍ، لما يردُ في البند “ي”، من مقدِّمةِ هذا الدُّستور. تنصُّ المادة (ي) من الدستور اللبناني على أنَّ “لا شرعيَّةَ لأيِّ سُلْطَةٍ تُناقِضُ ميثاقَ العَيْشِ المُشْتَرَكِ”. ولعلَّ بالإمكان الإشارة، ههنا، إلى أنَّ ثمَّةَ واقع عملي يفرضه كثرة من أهل السِّياسةِ في لبنان، إذ لا يفهمون من مصطلح “العيش المشترك”، سوى أنَّه العيشُ بينَ الطَّوائفِ الدِّينيَّةِ بمذاهبها المُتعدَّدة. من هُنا، فإنَّ عدداً من القياداتِ السِّياسيَّةِ والمتمكِّنينَ مِن السُّلطةِ، يَجِدُون في هذهِ القراءةِ، للبند “ي”، ملاذاً للنَّفاذِ إلى مآربَ عديدة لهم. ومِن الجَلِيِّ، أنَّ في هذا ما يُشكِّل طُغياناً لِما هُوَ سياسيٌّ، على ما هو “الصالح العام” أو “المِثالٌ الأعلى”.

تُصْبِحُ، “خيبةُ الأملِ”، وفاق الفهم الواقعيِّ لهذا الحالِ، سِمَةً حتميَّةً في السِّياسَةِ؛ بِما يَعني، وبمفهومٍ عَملانِيٍّ، أنَّ ما مِنْ أحَدٍ مِنَ اللُّبنانيينَ، مجموعَةً أو فرداً،  قد يُحَصِّلُ في السِّياسةِ على حَرْفِيَّةِ مُكْتَمِلَةٍ تامَّةٍ لِفَهْمِهِ الذَّاتِيِّ أو الشَّخصِيِّ أو توقُّعِهِ الخاصِّ، لِما يَسْعى إليهِ! ولِذا، فعلى جميعِ ناسِ السِّياسةِ، أنْ يُدرِكوا، بِنُضْجٍ عَمَلِيٍّ ورُؤيويٍّ في آن، أنَّهُ قَدْ لا يَتُمَّ الضَبْطُ الفِعْليُّ والواقعِيُّ، لتَرْتِيبِ الأمورِ، التي يَعملونَ في سَبيلِها، بالطَّريقةِ عَيْنِها التي قد يَرْغبونَ بِها. ولذا، فكلُّ واحدة من المجموعاتِ السِّياسيَّةِ، أو حتَّى كلُّ فردٍ في هذا المجال، ليسوا، في نهايةِ المطافِ، سوى جُزءٍ مِن نتيجةٍ جَنْعِيَّةٍ لمَوْقِفٍ واقعيٍّ، يحُثُّ الحياةَ السِّياسيَّةَ على الاستمرارِ، ويَجْهَدُ لِتَفْعِلِها.

يَبْرُزُ التقاسُمُ الطَائفيُّ الدِّينيُّ، أساساً عضوِيَّاً نافِذاً وشديد القطعيَّة، في فاعِلِيَّة الحياة السِّياسِيَّةِ في لبنان؛ وقد يكون من باب التَّوصيف الواقعيِّ، أن يوصف النِّظام السِّياسي للدَّولة اللُّبنانيَّةِ بأنَّهُ “ما خرجَ إلى الحياة إلاَّ مِنْ رَحِمِ المنفعةِ السِّياسيَّةِ من الدِّين” . لقد بدأ الأمر، بصورة رسميَّةٍ في العصر الحديث، انطلاقاً من نظام الطوائف الدينية، الصَّادر، عن المفوَّض السَّامي الفرنسي على لبنان،  بالقرار رقم 60 ل.ر سنة 1936. وكان أن اجتمع القادة السياسيُّون للطَّوائف اللّبنانيّة، عند إعلان استقلال الدَّولة على سلطة الانتداب الفرنسيِّ، سنة 1934، وتوافقوا على توزيع المناصب السّياسيّة، في الحُكمِ، استناداً إلى تحاصُصٍ قوامهُ الإنتماء الدّيني، يكون فيهِ رئيس الجمهوريّة مسيحيًا مارونيًا، ورئيس الحكومة مسلمًا سنيًا، ورئيس مجلس النواب مسلمًا شيعيًا؛ وأن تتوزَّعَ المقاعد في المجلس النيابي، وكذلك المناصب في الإدارات الرِّسميَّة والمؤسسات التَّابعة للدَّولة، بموجب ما صار يعرف بمصطلح “6 و6 مكرَّر”؛ وفحواه، [وفاقاً لِما يورده القاضي حِلمي الحجَّار، في مقال له في جريدة اللِّواء، 5 حزيران (يونيه) 2020]، أنْ يجري التَّوزيع، في كل مجالٍ رسميٍّ، بنسبة 5 مقاعد للطوائف الإسلامية و6 مقاعد للطوائف المسيحية؛ وقد عُرِفَ هذا االتَّوافُق بإسم “الميثاق الوطني”.

تشهدُ الحياة السِّياسةُ الرَّاهنةُ في لبنان، وبعد مرور خمس وثمانين سنة على صدور قرار المندوب السَّامي السَّامي الفرنسي، بشأن الاعتماد الطَّائفي، وبعد مرور ثمانٍ وسبعين سنة على التَّوافق التَّحاصصي السياسي الديني، بين القيادات اللبنانيَّة، ورغم كل ما استجدَّ على دنيا السِّياسة من تطوُّرات وتغيُّرات، طالت كثيراً من المفاهيم والقيم والممارسات، فإنَّ الفكر الطَّائفيِّ الدِّينيِّ، ما فتئَ يهيمن على الفاعليَّة السِّياسيَّة في لبنان، بتسلطٍ يبدو راسخاً وقادراً على مواجهة ما يخافه أو يسعى إلى تبديله أو حتَّى إلى تعديلٍ فيه.

تُمْكِنُ الملاحظةُ، كذلك، أنَّ تسلُّطُ الهيمنةِ الطَّائفيَّة الدينيَّةِ، لا يقتصر نِظامِ الحُكمِ والإدارات الرَّسميَّة، بل إنَّ كثيراً من الأحزاب السّياسيّة اللُّبنانيَّةِ، النَّاشطة في الوقت الرَّاهن، ورغم اجتهادِ كثيرٍ من قياداتِها، الإعلان عن علمانيّة الحزب؛ فإنها  توسمُ، بوضوح، بهويّة طائفيّة ودينيّة. إنَّ أحزاب “التيَّار الوطني الحر”، كما “القوَّات اللُّبنانيَّة” و”الكتائب”، تبقى، في المفهوم العمليِّ العام، أحزابًا مسيحيَّةً. ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ الأدبيَّات السِّياسية المنتشرة، لا تنفكُّ عن تعريف “حركة أمل” و”حزب الله”، بعبارة “الثنائي الشيعي”؛ في حين تشيرُ، هذه الأدبيَّات إلى “تيّار المستقبل”، بأنَّهُ  “حزب سنّي” (بشير،الجریدة الرسمیة، الحجَّار، طرابلسي، مقداد).

  1. مِرْآةٌ لِلرُّؤْيَةِ

إنَّ اللُّبنانيين، إذ يعانون اليومَ، فَجِيعَةً بِوَطَنٍ يَكادُ يَتلاشى أَمامَ أَعْيُنِهم؛ وقد اكْتَنَفَتُهُ غَصْبَاً، أعْبَاءٌ مَالِيَّةٌ لا قُدرةَ لِشَعْبِهِ على تَحَمُّلِ تَبِعَاتِها؛ وغَمَرَتْهُ، قَسْراً، أرزاءٌ اقتصاديَّةٌ ما فَتِئَتْ تَسْحَبُ نَاسَهُ إلى هاوِيَةٍ لا قَرارَ لَها؛ فَشَمَلَتْهُ فَجائعٌ اجتِماعِيَّةٌ وَمَآسٍ صُحِيَّةٌ، تُواصِلُ دَفْعَ مَنْ فِيهِ إلى مَهاوٍ لَمْ يَشْهَدْ تارِيخُهُ العَريقُ مثيلاً لِبُؤسِها الطَّاحِنِ ولا لِأَرْزائِها القاتِلة. إنَّهم، في هذهِ السَّاعاتِ والدَّقائقِ التي غَدَوْ فيها يموتونَ أَلْفَ مَرَّةٍ؛ وبَعدَ كُلِّ هذا الذي يَعانِيِهِ الشَّعبُ، في ظلِّ نِظامٍ طائفِيٍّ تَحاصُصِيٍّ استئثاريٍّ، مِنْ خَسْفٍ مَاليِّ وانْهِيارٍ اقْتِصادِيِّ وذُبُولٍ سِّياسِيِّ وإِمْلاقٍ اجْتِماعِيٍّ؛ قد آن لَهُم أن يُعيدوا التَّفكِيرَ، مَلِيَّاً، في مَا أوْصَلَهم إِلَيْهِ نظامهم السِّياسي القائِمَ على طَائفيَّةٍ سّياسيَّةٍ ومَذْهَبِيَّةٍ دِينيَّةٍ؛ والنَّاهِضِ، أساساً، عَلى مَنْطِقِ المُحاصَصَةِ الدَّنِيئَةِ ورَكائِزِ التَّناتُشِ التَّكاسُبِيِّ؛ التَّعِسِ والمُسْتَذِلِّ.

ترسَّخَ هذا النِظامُ السِّياسيُّ، في لبنان، على اختزالٍ للعَشيرةِ، واختِصارٍ للقبيلةِ، عند مَن ما برحوا يعتقدون بالعشيرة والقبيلةِ، بمصالحَ تخصُّ فردٍ، أو مجموعةٍ محدودة بعينِها؛ وهو عَيْنُهُ النِّظامُ الذي انبنى على التَّذرُّعِ بالطَّائفِيَّةِ والمذهبِيَّةِ، حمايةَ للوَطَنِ، وما كان لهذه الحماية إلاَّ أن تكون، كذلك، إلاَّ لِفردٍ، أو مجموعةٍ محدودة بعينِها. وما لكلِّ هذا، شأنٌّ، في وجود الوطنِ واستمرارهِ وطناً لأناسهِ؛ ولا بحقيقةِ ما يمكن أن يكون التنَّازعُ السِّياسيِّ الوطنيِّ، ولا بمساراتِ التَّفاضِل السِّياسيِّ على الإطلاق؛ إنَّهُ، وبموضوعيَّةٍ لا لبسَ فيها ولا مداجاة، من بابِ الاستخفاف السِّياسي بالوطن، وبكلِّ ما فيه؛ بل هو إبنٌ للأنانيَّةِ العمياء وصُنْوٌ للإملاقِ الوَطَنِيّ؟!

قادت هذه الفاعِلِيَّةُ للسِّياسَةِ في لبنان، إلى خسف مخيف للعدالة الاجتماعِيَّةِ، وإلى ترسيخٍ مُرِّ لِما يُمكن أنْ يُسَمَّى “عنصرِيَّةً مَذْهَبيَّةً دينيَّةَ”، وإلى تَسَلُّطٍ مخيفٍ لِشَبَكَةٍ مُمْسِكَةٍ بالقرارِ العامِّ، حمايةً لمكاسِبَ لها ومصالِحَ مُشْتَرَكَةٍ فيما بَيْنها؛ رَغْمَ جميعِ التَّعارضاتِ الظَّاهرةِ، التي قد تَنْفَلِشُ على سَطْحِ علاقاتِها المُشْتَرَكَةِ. إنَّ هذا الحالَ يُفْضي إلى:

  • أن قبول الوضع الرَّاهن، بما فيهِ مِن قُصورٍ في تحقيقِ في العدالةِ والإنصافِ والمساواةِ والكفاءةِ بين أفراد الشَّعبِ، وما إلى ذلك؛ أمرٌ، ببساطة كليَّةٍ، غير مقبولٍ، على الإطلاقِ، لتنافيهِ مع أيِّ مفهومٍ للحقِّ والعَدلِ، وقبل كلِّ شيئ، لشراءع حقوقِ الإنسان.
  • سيكون هذا القبولُ، إنْ حَصلَ، بمثابةِ قبولِ للظُّلمِ؛ وهذا، ما يعني اجتثاثاً خسيساً للوجودِ الإنسانيِّ الكريم.
  • سيقترن هذا القبولُ، بالامتدادِ الجَذْري للسِّياسة، إلى عديدٍ مِن المجالاتِ المختلفةِ للحياةِ المعاصرةِ للبنانيين؛ والتي ستبتعد، إلى حدِّ كبيرٍ، بِحُكْمِ ما هو مُتَوقَّعٌ مِن امتدادٍ للفقرِ وانتشارٍ للجهلِ وغَلَبَةٍ للفَوْضى وشيوعٍ للتَّسيُّبِ الأَمني، عن كثير من مُعطياتِ تطوُّرِ الحداثةِ المعرِفِيَّةِ وتقنِيَّاتِها، وتنامي مفاهيمِ المعاصَرَةِ الزَّمانِيَّةِ وقِيَمِها.
  • مُقْتَرَحاتٌ لِلْعَمَل

إنَّ الإصلاحَ، هو الخَيارُ الوحيدُ، في هذا الحال؛ ولعلَّهُ بالإمكانِ، وبعد كلِّ ما سبق من رؤيةٍ في أَزْمَةِ خَيْبَةِ الأَمَلِ مِنَ الحَياةِ السِّياسِيَّةِ العامَّةِ، لَدى المُجْتَمَعِ في لُبنان، الذَّهاب إلى أنَّ بإمكانِ اللُّبنانيينَ، وهم في خِضَمِّ هذا المَرارِ الذي يُعانُونَ، مِنْ أَنَّ يدركوا أنَّ هذا النِّظامَ الطَّائِفِيّ، بِكُلِّ ما فِيهِ، هُوَ السَّببُ الأساسُ في ما يصلون إِلَيْهِ مِن عُسْرٍ ماديٍّ وحِرْمانٍ اجتِماعيٍّ وعَوَزٍ اقتِصادِيٍّ وخُضُوعٍ لطواغِيتِ المالِ وهَوَانٍ أمام شياطينِ السِّياسَةِ وانحطاطٍ عامٍّ تَرْفُضُ الكرامَةُ الإنسانيَّةُ أن يشتمِلوا بِهِ.

هلْ للُّبنانِيينَ، تالياً:

  • أن يَتَقَصُّوا، بكلِّ ما يمتلكون من إدراكٍ لإنسانيَّتِهم الوطنِيَّةِ، كيفَ أنَّ استمرارَ العملَ بِهذا النِّظامِ الطَّائِفِيِّ، لَيْسَ سِوى مُخالَفَةً هدَّامَةً للبَنْدِ (ح) مِنْ “مُقدِّمَةِ الدُّستورِ اللُّبنانيِّ”؛ التي تَنُصُّ عَلى أنَّ “إلغاءَ الطَّائفيَّةِ هَدَفٌ وَطَنِيٌّ أَساسِيٌّ”، وأنَّ بقاءَ هذا النِّظام الطَّائفيّ فاعلاً، بَعْدَ أربعٍ وتِسعينَ سنةٍ مِنْ صدورِ الدُّستورِ؛ ليسَ سوى خَطِيئةً تنتهكُ، بكلِّ صراحةٍ فاجرةٍ ومتعمَّدةٍ، المادَّة 95 مِن الدُّستورِ اللُّبنانيِّ الصَّادرِ، قَبْلَ سبعٍ وسبعينَ سنةٍ، 1943، وللقانونِ الُّدستوريِّ الصَّادرِ، منذُ ثلاثينَ سنةٍ، 1990؛ إذْ الهدفُ واضحٌ وجَلِيٌّ يَفْرُضُ، مٌنْذُ تلكَ العقودِ والسِّنين، “اتِّخاذَ الإجراءاتِ المُلائِمَةِ لِتحقيقِ إلغاءِ الطَّائفيَّةِ السِّياسيَّة”؟!
  • أن يُصِرُّوا،َ مُجْتمعينَ، ولأنَّهم يَسعون إلى حِفْظِ مَصالِحِهم وَصَوْنِ أَرْزاقِهم وضَمانِ الآتي من إيَّامِ أَبْنائِهم وبَناتِهم، على العملِ في سَبيلِ ثَباتِ وجودِ لبنان، ودوامِهِ؛ فيؤمنونَ، في صميم وجدانهم وعُمْقِ حقيقةِ مصالحهم، بِأنَّ للبنان الوطن والدَّولة والنَّاس، القدرةُ العمليَّةُ، بِغناهِم الماديِّ والمعنويِّ، وليسَ بإفلاسِهِم الماديِّ والمعنويِّ على الإطلاقِ، على مواجهةِ تَحَدِياتِ حاضِر بلدهمِ الماليِّ البائِسِ وواقِعِهِ الاقتصاديِّ المُنْهَكِ وحالهِ الاجتماعيِّ المؤلِم؛ ومِن ثَمَّ مُواكَبَةَ المُعاصَرَةِ المَفْهُومِيَّةِ والتَّطبيقِيَّةِ  للزَّمنِ، في مُقْبِلِ أيَّامِهِ وامتدادِ سَنَواتِهِ واستمرارِ عُقودِهِ؟
  • أنْ يستفيدوا، مِنْ ما لَهم مِن علاقاتٍ عالميَّةٍ بنَّاءةٍ وصداقاتٍ دوليَّةٍ واسعةِ النِّطاقِ، وبإيجابيَةٍ فيَّاضةٍ بالأبعادِ الإنسانيَّة والرؤيويَّة الوطنيَّةِ، للنُّهوضِ مِمَّا يُعيقُ تَقَدُّمِهم الاقتصاديِّ، وتَتَعثُّرُ بِهِ مجالاتُ تحقيقِ فاعليَّةِ وجودِ بَلَدِهم؛ الذي ما عرفهُ العالَمُ إلاَّ رسالةً مشرقةً للإنسانيَّةِ، في تَعايُشِها المُشْتَرَكِ والتَّلاقي الخيِّرِ المعطاءِ بينَ أبنائه وأهلِهِ؟
  • أنَّ يُدْرِكوا، بصورةٍ شديدة الوضوح، أنَّ السِّياسةَ ستبقى، بحكم طبيعة وجودها وحركيَّة هذا الوجود، مجالاً رحباً لخيبات الأمل؛ وأنَّ أشخاصَ السِّياسةِ، لا يمكن أن يكونوا سوى بشرٍ، لهم طموحاتهم الشخصيَّةِ ونزواتهم الذاتيَّة وأنانياتهم؛ الفرديَّة.
  • إنَّ العملَ على معالجةِ ما يُعانيهِ اللُّبنانيُّون، مِن أَزْمَةِ خَيْبَةِ الأَمَلِ مِنَ الحَياةِ السِّياسِيَّةِ العامَّةِ بِما يُمَكِّنُ مِنْ إحرازِ أيِّ تقدُّمٍ إيجابيِّ نوعيٍّ فيهِ، باتِّجاهِ الصَّالِحِ الوطنيِّ العامِ، بِمثالِيَّةِ وُجُودهِ وواقِعِيَّةِ فاعِلِيَّتِه، يكون بإعادَتِهِم النَّظَرَ المَوْضُوعِيَّ العَمَليَّ في:
  • مفهوم كلٍّ منهم للمسؤولِيَّةِ العامَّةِ الواجبةِ عليهِ تجاهَ وطنِهِ، وللحَقَّ الذَّاتِيِّ لَهُ في الوَطَنِ.
  • البنيةُ القائمةُ للنِّظامِ السِّياسي، وما تَفْرُزُهُ مِن مَفاهيم.
  • وذلك بِما لَديهِم مِن ثَرَواتٍ عقليَّةٍ وغِنىً ثقافِيٍّ، وبما يُمَثِّلهُ أبناؤهُم مِن طموحاتٍ راقِيةٍ، وما يَنْهَضُ في مجتمعِهِم مِن مؤسَّساتٍ أهليَّةٍ ومنظَّماتٍ لِلحقِّ المدنيِّ، وما يَضُمُّهُ بَلَدُهُم مِن تَجَمُّعاتٍ شَعبِيَةٍ واعيةٍ.
  • أنْ يَنْتَظِموا فيما بَيْنَهُم، سَعْياً إلى قيامِ نِظامِ المُواطَنَةِ؛ وهو النِّظامُ الذي يَسْتَجيبُ، قَوْلاً وعَمَلاً، للمادَّةِ السَّابِعَةِ مِن “الدُّستورِ”، إذْ “كلُّ اللُّبنانيينَ سواءٌ لدى القانون، وهم يتمتَّعونَ بالسَّواءِ بالحقوقِ المَدَنِيَّةِ والسِّياسيَّةِ؛ ويَتَحمَّلونَ الفرائضَ والواجباتِ العامَّةِ دونَ ما فَرْقٍ بَيْنَهم”؟!
  1. المُواطَنَة

رغم أنَّ بعضَ المفاهيمِ التَّاريخيَّة للمُواطنةِ، كانت تنهضُ على استثناءِ فئاتٍ النَّاس مِنَ الامتيازاتِ التي يتمتعُ بها المواطنون؛ كما كَان الحالُ في الإمبراطورِيَّةِ الرُّومانيَّة، أو ضمنَ بعضِ معاييرٍ فكريَّةٍ انتشرَت في أوروبا وأميركا، انطلاقاً مِن القرن السَّابعِ عشر وحتَّى بعضِ عقودِ منتصَفِ القرنِ العشرين، (Fredrickson: 1-6, 8-11) و (Glenn)؛ فلقد تغيَّرَ النَّظرُ إلى معنى المفهومِ، في الزَّمنِ الحاليِّ، وأصبح في الوقت الحاضر أغنى نُضجاً فكريَّاً وأكثر شمولاً إنسانيَّاً.

 ينطلقُ مفهوم “المواطنة”،  (Iija: 11-16,22)على سبيل المِثالِ، في مداه التَّأسيسي، مِن الاعترافِ السِّياسي بالمواطنِ، على أنَّهُ عضوٌ حُرٌّ، كاملُ العضويَّةِ، في وَطَنِهِ، وفي المُجتمعِ السِّياسيِّ لهذا الوطن. وأنَّ هذه العضويَّةَ، تنهضُ على أُسُسِ الاشتراكِ مع سائرِ المواطنين، في الالتزامِ بـ:

  • مبادئِ الوحدةِ الثَّقافيةِ العامَّة.
  • مفاهيمِ الهُوِيَّةِ الوطنيَّةِ.
  • أنَّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات.
  1. من إيجابِيَّاتٌ الاعْتِمادِ السِّياسيِّ لـ”المواطنة” في لُبنان
  • إنَّ المواطنةَ، إذْ تنطلقُ، أساساً وتأسيساً، من وجودِ المُواطِنِ الفرد، القائم بذاتِهِ عُنْصُراً مركزِيَّاً أصيلاً، في وجود الوطنِ، لن يُمكن التَّغاضي عن وجودِهِ؛ فهي، تالياً، مفهوم مرتبطٌ مباشرةً بالصَّالِح الوطنيِّ العام، وبالسَّعيِّ لتحقيقِ ما يجب العمل عليهِ لتأمينِ المِثال من هذا الصَّالحِ العام.
  • إنَّ مفهوم المواطنةِ، إذ يُشكِّلُ الارتباطَ العضويَّ بوجود المواطن وحضور الوطن؛ وخاصَةً عندما يكون تطبيقاً للبَنْدِ (د)، مِن مُقَدِّمة الدَّستور اللُّبناني، التي تنصُّ على أنَّ “الشَّعب مصدرُ السُّلطاتِ وصاحِبً السِّيادة يُمارِسُها عبر المؤسَّسات الدُّستورِيَّة”؛ فهذا يؤكِّدُ قابليَّتها الدَّائمة للتجاوب مع احتياجاتِ المواطنِ ضمن الرُّؤية الوطنيَّة، واستطاعتها تأمين ما يجي من التَّكَيُّف مع مسارات هذه الاحتياجات، بكلِّ ما قد تصير إليهِ من تطوُّرٍ وتعديلٍ وتغيٌّرٍ وإضافةٍ وتجديد وتبديل.
  • إنَّ في هذا التَّوجُّهِ إلى اعتمادِ مفهوم المواطنة في لبنان، ما يؤمِّنُ منطلقاً للعمل السِّياسي، بما يضمن وحدةً شعبيَّة متكاملةً بين اللبنانيين، ويُسقِطُ ما يقف دون الفاعلِيَّةِ الوطنِيَّةِ للسِّياسةِ في حياتِهم، من مساعي المتذرِّعين بحقوق الطَّائفة والمذهب، فضلاً عن ما قد يُقال من أحقِيَّةٍ للجغرافيا وأولويَّةٍ للزَّعامات الشَّخصِيَّةِ أو الحزبِيَّة.
  • إنَّ السَّعيَ إلى اعتمادِ المواطنةِ، في بلد ما انفكَّت الطَّائفيَّةُ الدِّينيَّة ومذهبيَّاتُها المتعدِّدة، مع التَّعصبات المناطقيَّة والعملِ الدَّؤوب على تأمين مصالح أهل السُّلطة والقيادة السِّياسيَّة، على حساب المواطنِ، وفي أحيانٍ كثيرة، بكَدٍّ لاهثٍ مُحْزِنٍ منه، كفيل بتوحيد جميع المواطنين للوقوف بكرامةٍ إنسانيَّةٍ ساميةٍ، وووعيٍّ وطنيٍّ صلبٍ، ووحدةِ موقف صامدة، في وجِهِ أيِّ محاولةٍ لاستغلالهم واللَّعب بمصائرهم.
  • إنَّ اعتمادَ “المواطنةِ” يوفِّرُ، لجميع اللبنانيين، حقيقة ما هو عيش مشتركٌ فيما بينهم؛ ومن هنا، يصبح من اللازب أن يقرأ مصطلحُ العيش المشترك، أينما ورد، وانطلاقاً من نصوص الدُّستور اللبناني، على أنَّه العيشُ بين المواطنين كافَّةً؛ وليس، أبداً، العيشُ بين طوائف دِينيَّة، تضمُّ في جنباتها وضمن تنوُّع مذاهبها وتعدُّدها، مواطنين.
  1. الخُلاصَة

إنَّ أيَّ انتظارٍ أو تَسويفٍ أو مراوغةٍ، في هذا الأمرِ، لا يُمكنُ إلاَّ أنْ تَقُودَ إلى متابعةٍ كارثيَّةٍ هَوْجاءَ في اغتيالِ الوَطَنِ وإلغائه.

************************************