بِيرُوت!. بَقَلَم: مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

كُتِبَت إِبَّانَ الحَربِ الأَهلِيَّةِ (1975 – 1990) الَّتِي ضَرَبَت لُبنان، ونَستَذكِرُها، اليَومَ، لِمُناسَبَةِ انفِجارِ مَرفَإِ بَيرُوتَ في 4 آب عام 2020، فَالشَّرُّ ، ضَؤُلَ أَو استَفحَلَ، فَأَرُومَتُهُ واحِدَةٌ، ولَسْعُهُ يَبقَى جِمارًا في الصُّدُور!

بَيرُوتُ… يا سِرَّ الزَّمانِ المَصُونْ،             وقَلبَهُ النَّابِضَ عَبْرَ القُرُونْ
ماذا دَهاكِ اليَومَ، هل لُوْثَةٌ(1)             مِنَّا، فَدُنيانا مَهاوِي المَنُونْ؟!
هل إِنَّ ما أَبدَعتِ مِن شِرْعَةٍ              لِلحَقِّ في الغابِرِ، أَو مِن فُنُونْ
وما زَرَعتِ في حُقُولِ الدُّنَى              مِن باسِقاتٍ، جَنيُها لا يَهُونْ
أَثارَتِ الأَحقادَ في مَن رَأَوْا              رِكابَهُم عَيَّت، فَلا يَبلُغُونْ
فَدَنَّسُوا الأَرضَ الَّتي لَو وَعَوْا              حَرا بِهِم في قُدسِها يَركَعُونْ
ماذا، أَعُشَّاقُكِ مَن لَطَّخُوا     ــــــــــ      الأَقداسَ في ضَلٍّ، وهم يَعبَثُونْ؟!
وأَينَ خُلَّانُكِ مِمَّن أَتَوْا              في حُلكَةِ الدَّهرِ بِكِ يَنعَمُونْ
عاشُوا على نُعْماكِ في نِعمَةٍ،              حَيثُ حِماهُم زَجَّهُم في السُّجُونْ
أَبِالثَّلاثِينَ(2)، وفي صَفقَةٍ              لِلعارِ باعُوكِ، وهُم مُدرِكُونْ؟!
وحَوَّلُوا الهَيكَلَ في طُهْرِهِ              وَكْرًا لِفَحشاءَ، ومَثْوَى مُجُونْ
إِذ هَدَّمُوا مَغْناكِ هَلَّا رَعَوْا،              بَينَ ثَنايا الرَّدْمِ، عَهْدًا حَنُونْ
هَلَّا رَأَوْا أَطيافَنا تَلتَوِي،              تَبكِي زَمانًا دُكَّ بَينَ الحُصُونْ!
***
ما هُم بِأَبنائِكِ مَن أَقبَلُوا،              في غَفلَةِ العُمرِ بِكِ يَطعَنُونْ
ما هُم بِأَبنائِكِ مَن هَروَلُوا              لِفَيْضٍ ضَرْعٍ(3) وافِرٍ يَرتَوُونْ
وكَالخَنازِيرِ الَّتِي أُتخِمَت،              داسُوا اللَّآلِي الغُرَ لا يَرعَوُونْ
ومَزَّقُوا الصَّدْرَ الَّذِي كَم غَذا              جِياعَهُم، هَيهاتَ لَو يَستَحُونْ
ما نَحنُ مَن ضَلَّلَهُ خارِجٌ،              فَغاصَ في المُفجِعِ مِنْ كُلِّ هُوْنْ(4)
بَعضٌ مِنَ الأَبناءِ سارُوا إِلى              عاتٍ تَجَنَّى، وأَناخُوا الجَبِينْ
أَغرارُ مِنْ يُسْرِ الدَّخِيلِ اغتَذَوْا،              وخَلَّفُوا عِزَّ إِباهُم رَهِينْ
بَيرُوتُ… ما خُنَّا عُهُودًا زَهَت،              بَيرُوتُ… صُنَّاكِ هَوًى في الظُّنُونْ
نَحنُ الأُلَى مِنكِ ارتَوَى قَلبُنا              عِشْقًا، وشِعْرًا ساحِرًا في فُتُونْ
وكُنتِ نَجْوانا، وفي هُدْبِنا              أَسَى لَيالِيكِ، ولَونَ الشُّجُونْ
تَبقَينَ في أَحداقِنا آيَةً              لِلحُبِّ، ذُخْرًا ومَجانِي حَنِينْ!
***
وَمِن لَهِيبِ الجُرحِ، مِن أَضلُعٍ              حَطَّمَها وَطْءُ القِتالِ الطَّحُون
وكَانفِلاتِ الطَّيْرِ مَذعُورَةً              مِن طَلَقاتِ النَّارِ بَينَ الوُكُونْ(5)
سَمِعتُ صَوتًا عاصِفًا في المَدَى،              كَطَعنَةٍ شَقَّتْ صَمِيمَ السُّكُونْ
صَوتًا لِبَيرُوتَ الَّتِي هالَها              وَبْلٌ(6) مِنَ المَوتِ، صَفِيقٌ هَتُونْ(7)
يَقُولُ: رَبَّاهُ، أَمِنْ قِسْمَةٍ              أَنْ يَملَأَ الشَّرُّ الرُّبَى والحُزُونْ(8)؟!
وهل لِأَبنائِي الضَّلالُ الَّذي              قادَ خُطاهُم، حَيثُ لا يَعلَمُونْ؟!
رَبَّاهُ إِغفِرْ جَهلَهُم، إِذ غَوَوْا،              رَبَّاهُ لا يَدرُونَ ما يَفعَلُونْ(9)!
***
بَيرُوتُ… ما في البالِ إِثْمٌ جَرَى،              بَيرُوتُ… هذا مِنْ صَمِيمِ الجُنُونْ
بَيرُوتُ… هل في ظَنِّكِ المُشتَكِي              أَنَّ الَّذِي يَحيا سَناكِ يَخُونْ؟!
بَيرُوتُ… طالَ الزَّيْغُ فِينا ارْجِعِي،              ودَمعُنا صَوَّحَ(10) غَضَّ الجُفُونْ
يا دُرَّةَ الشَّرقِ أَلَا حَدِّقِي،              أَما تَرَيْنَ الأُفْقَ زاهِي الغُضُونْ؟!
عَنقاءُ… مِن مَهْدِ الرَّمادِ انهَضِي،              ذُرِّيهِ جَمْرًا لاهِبًا في العُيُونْ
وكَانبِعاثِ الضَّوْءِ مِن مَشْرِقٍ،              أَلَا انْشُرِي النُّورَ، ودُكِّي الدُّجُونْ(11)!
***
تَعُودُ بَيرُوتُ إِلى دِفْئِها،              ويَكتَسِي بِالزَّهْرِ عُرْيُ الغُصُونْ
وتَرجِعُ الأَحلامُ مِن غُرْبَةٍ،              وظِلَّ عَقْلٍ آبَ يَأْوِي البَنُونْ
وتَنطَوِي صَفحَةُ مَأساتِها،              وتُغْمَدُ الأَسيافُ طَيَّ الجُفُونْ(12)
تَكُونُ بَيرُوتُ كَما نَشتَهِي              في الحُلْمِ، في الخاطِرِ، أَو لا تَكُونْ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): اللُّوْثَةُ: مَسُّ الجُنُون

(2): فِيهِ إِشارَةٌ إِلى خِيانَةِ يَهُوذا الإِسخَريُوطِيّ لِلسَّيِّدِ المَسِيحِ لِقاءَ ثَلاثِينَ مِنَ الفِضَّة

(3): الضَّرْعُ: مَدَرُّ اللَّبَنِ في ذَواتِ الظِّلْفِ والخُفِّ، وهو كَالثَّديِ لِلمَرأَةِ

(4): هُوْن: الخِزْيُ، الهَوان

(5): الوُكُون: أَعشاشُ الطَّيْر

(6): الوَبْل: المَطَرُ الشَّدِيدُ الضَّخْمُ القِطْر

(7): الهَتُونُ: كَثِيرُ القَطْرِ / سَحابٌ هَتُونٌ: كَثِيرُ المَطَر

(8): الحُزُون: جَمْعُ حَزْنٍ وهو مِنَ الأَرضِ ما غَلُظَ

(9): فِيهِ إِشارَةٌ إِلى قَولِ السَّيِّدِ المَسِيحِ: إِغفِرْ لَهُم يا أَبَتاهُ لِأَنَّهُم لا يَدرُونَ ما يَفعَلُون

(10): صَوّحَ الحَرُّ أَوِ الرِّيحُ الشَّيءَ: جَفَّفَهُ أَو أَيبَسَهُ حَتَّى تَشَقَّقَ وتَناثَر

(11): الدُّجُون: الظُّلُمات

(12): الجُفُون: أَغمادُ السُّيُوف