فرنسواز الهاشم
في الصغر ،كانت امي بسمة البيت وملجئ للحنان .أحتمي في ظلها وراء قضبان النوافذ وباب الدار .معها أشعر بالأمان والطمأنينة وأتبعها حيثما تكون .وعند كل ضمة تغرد الطيور ،تتفتح الورود ،وعطر نسائم الربيع يفوح من خصائل شعرها الناعم .
اعتدت أن أنام على أنغام صوتها العذب .فكانت تغني لي كل ليلة وتسرد القصص بأسلوب مثير للإعجاب وللخيال .كانت تحيك لي الأحلام بأحاديثها المشوقة وتملأها بالنجمات والازهار ،كي أمرح وأفرح بالمنام .هي وحدها تعرف من أنا،تقرأ في عيني وخفايا قلبي…
عندما نادت السماء زوجها الشاب ،لم يعد أمام أمي إلا الحزن .أمي الفرح والمرح والضحكة الدائمة ،ذبلت ،ولم تعد تسرد الحكايات ولا تغني لترقص لنا الحياة… والحياة كانت هي… والنور ضوء وجهها…
ومن اجلي أنا وإخوتي ،عادت امي إلى الحياة وبحبها النادر والمتفاني اعادتنا إلى حب الحياة وواكبت افراحنا كي نتمتع نحن في الحياة…وكنت أراها من أرقى النساء واجملهن .لكن جمالها أصبح كئيبا حين قسى الدهر عليها ثانية وفقدت ابنها الصغير .فأصبحت تجاعيد وجهها تحكي مأسيها…وذاب قلبها معه وذابت حتى الممات .واختفت معها الحكايات ،الضحكات ،القبلات ،واختفى بلسم الحياة وحنان حضنها والدعاء…غفت إلى الأبد ورحلت إلى النور .رحلت مبتسمة ابتسامة سلام وإيمان ،مطمئنة لوجودها في أحشائنا .يومها ساد الظلام في عيني ولم تعد الدنيا كما كانت عليه .
منذ ذلك الوقت وأنا أناديها واسمع صوتها ينادي .ينادي من أعماق السماء ،من آخر المجرات ،من جوفي أنا .ينادي بقدر حبها لي ،ينادي بقدر حبي لها .أمي ماتت ،لكنها لم تمت .أمي هي أنا تموت حين أموت أنا .لذلك أنا واثقة بأنها تسمعني حين أكلمها .تسمعني من أعالي الفضاء وكم بعيدة هذه المسافات من جرائم أهل كوكب الأرض…تسمعني كي تخفف عني هذا الألم الذي أعيشه ونعيشه جميعا في هذه الأيام السوداء والذي يسرق النوم من الأجفان…ألم ومكائد الأيادي الخفية التي تدير العالم وتناقش مصيرنا خلف الأبواب الموصدة وتتحكم بأرواحنا كفئران لتجاربها…ألم العزلة التامة والشاقة بمنئ عن أولادنا وأحفادنا وأحبابنا ،ولا ضمانة لنا ان نخرج من هذا الحجر بسلام وأمان …ألم فقدان الأعزاء وعجز الكلمات ان تشتكي عما فعلته بنا العولمة ،حب السيطرة ،حقد الوحوش المسيطرة ،التسلح ،الحروب وحرب الوباء وقتل الأبرياء .
الحياة أصعب من دون وجود الأم ،لكن دعاءها في أذن الرب أمان لنا طول حياتنا .والرب يستجيب لمن أحبتنا أكثر من روحها ،لمن تستطيع ان تبذل نفسها من اجل خلاص أولادها .
كل عيد وجميع الأمهات بخير