3 دول تحاصر ثروة لبنان النفطية

لم تكد سفينة “إنرجي باور” اليونانية والمتعاقدة مع إسرائيل تصل إلى محيط حقل “كاريش” للتنقيب عن النفط والغاز، حتى عاد ملف الحدود البحرية إلى الواجهة بين لبنان وإسرائيل، وذلك قبل التوصل مع لبنان إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، وبعد أيام من مناورات إسرائيلية برية وبحرية وجوية في قبرص، وأخرى في البحر الأحمر، وسط تأكيد إسرائيل أنها لن تنتظر إلى ما لا نهاية في قضية بدء التنقيب عن النفط والغاز.

 

وفي وقت لبنان بأمس الحاجة إلى البدء باستخراج الغاز للنهوض باقتصاده المنهار، يبدو أن الصراعات الداخلية اللبنانية والتحديات الإقليمية قد تجهضان إمكانية البدء بالتنقيب عشرات السنوات، إذ إن الفشل في ترسيم الحدود جنوباً مع إسرائيل وشمالاً مع سوريا وما يسببه من مخاطر انزلاق إلى حرب في الشرق الأوسط، قد يبقي هذه الثروة مطمورة في أعماق البحار أجيالاً إضافية، ما يشير إلى أن لبنان لا يزال بعيداً من أي أمل للاستفادة من مليارات الدولارات الكامنة في مياهه.

 

حصار الحدود

 

وفي ظل عدم حسم الحدود اللبنانية مع الدول الثلاث المجاورة ستبقى البلوكات المشتركة معلقة إلى سنوات طويلة، إذ إن الأزمة ليست متعلقة بإسرائيل وحدها بل مع قبرص وسوريا أيضاً. فبحسب الخبراء، لن يكون باستطاعة لبنان استخراج الثروات النفطية والغازية الكامنة في بحره، خصوصاً في البلوك 9، الذي يضم بحسب الدراسات أكبر مخزون من الغاز الطبيعي إلا بعد سبع سنوات من تاريخ إنجاز ترسيم الحدود.

 

إذ إن أي تلزيم للتنقيب عن النفط والغاز في البلوكات السورية، خصوصاً البلوك 3، المحاذي للبلوكين 1 و2 اللبنانيين، سيكون من نصيب شركات روسية في الدرجة الأولى، الأمر الذي يعلق إمكانية تلزيم لبنان بلوكاته الشمالية مع سوريا حتى ترسيم حدوده.

 

أما المنطقة التي قد تكون موضع نزاع مع قبرص في حال قرر لبنان إعادة التفاوض أو اللجوء إلى التحكيم، فستضم “البلوكات” 1 و3 و5 المحاذية للبلوكين 3 و13 القبرصيين. وفي هذه الحالة لن يكون باستطاعة لبنان تلزيم شركات للتنقيب في البلوكات الواقعة داخل منطقة النزاع.

 

أما مصير التنقيب في البلوكات 8 و9 و10 الجنوبية، التي يدخل أقسام منها بنسب متفاوتة في المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل، فهو محسوم بعدم السماح على الإطلاق باستخراج ولو سنتيمتر مكعب من الغاز بقرار أميركي، قبل إنجاز الترسيم الذي يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.

 

فوضى الترسيم

 

يؤكد الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، أنه “لدينا سوء إدارة في التعاطي مع ملف النفط”، معتبراً أن “الخطأ بدأ حين أبرم لبنان اتفاقاً مع قبرص بترسيم الحدود عند النقطة المعروفة بـ23، ليعود ويطالب الأول في مفاوضاته مع إسرائيل بالنقطة 29، ما زاد مساحة المنطقة المتنازع عليها في المفاوضات”.

 

يوضح أن “التقارير التي أعدتها الشركات التي أجرت مسحاً جيولوجياً للأراضي والسواحل اللبنانية أظهرت وجود النفط والغاز بوفرة”، مؤكداً أنها “ثروة تنقذ لبنان من أزماته الاقتصادية الخانقة”، مشيراً في هذا الصدد إلى “دراسة أعدها عام 2011، وتوصل خلالها إلى أن الثروة النفطية اللبنانية تتراوح بين 370 مليار دولار و1700 مليار دولار أميركي، وأن الاحتمال الأول هو الأقوى بنسبة تصل لـ95 في المئة وخمسة في المئة للأخير. فقط عند التنقيب يمكننا أن نعرف الرقم الدقيق”. وشدد على أن “هذه الأرقام خيالية وقد تدفع المنطقة إلى درجات عالية من التطور”، مؤكداً أن “الحفاظ على الثروة النفطية واجب وطني وأخلاقي”.

 

السيطرة على الأسواق

 

وتوضح المتخصصة في مجال حوكمة النفط والغاز في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لوري هيتايان، إلى أنه “في البداية كانت هناك نقاط مشجعة في طريقة إدارة النفط والغاز، بحيث وضع قانون لحماية وتعزيز الشفافية في قطاع النفط والغاز، على الرغم من الشكوك حول هيئة إدارة البترول وطريقة تعيينها”، موضحة “أن الصراعات المستمرة والفساد والمحاصصات على قطاع النفط والغاز أدت إلى التأخر في بدء عملية التنقيب عن النفط في لبنان”.

 

وتشدد على أن التخبط السياسي، الذي أثر في بطء قطاع النفط، سبب في التأخر في عملية اكتشاف أي نشاط بترولي في لبنان، ما سمح بالتمديد لشركة “توتال” ثلاث سنوات جديدة للعمل على البلوك 9، وسنة جديدة للعمل على البلوك 4. مضيفة أن “البطء يصعب إمكانية بيع لبنان الغاز إلى الخارج، في حال تم اكتشافه، حيث إن إسرائيل بدأت تسيطر على الأسواق المحيطة”.

 

لغز الترسيم

 

وتؤكد هيتايان أن “المعادلة أصبحت تقتضي الانتهاء من ملف ترسيم الحدود البحرية، قبل البدء بالعمل من قبل شركة توتال، التي كانت من الأساس على علم، عندما أخذت العقد عام 2018 بالمشكلات الحاصلة على البلوك 9، والدليل أن العرض الذي قدمته أقل من المعروض للبلوك 4”.

وتشير إلى أن “المفاوض الأميركي آموس هوكشتاين هو الذي رسخ فكرة، الترسيم مقابل استخراج النفط والغاز، وليس الفرنسيين، وهو ما يفسر تردد شركة توتال وقلقها من مسألة ترسيم الحدود”، لافتة إلى أنه “في حال لم يتم ترسيم للحدود البحرية فلن يكون للبنان أي نشاط، وهو ما سيزيد من خطر عدم تمكن لبنان من بيع الغاز إلى الخارج”.

وعليه، تؤكد أن “هناك سلسلة أخطاء، بدأت منذ 2007 حتى اليوم في شأن ملف ترسيم الحدود، فضلاً عن تعاظم المشكلات الداخلية حوله، وتحديداً على مسألة الخط الذي يجب الانطلاق منه في المفاوضات”.

 

وترى المتخصصة في مجال حوكمة النفط والغاز أن هناك “وضوحاً تاماً لدى الأميركيين، لعدم وجود الخط 29، حيث ترفض الولايات المتحدة الدخول بواسطة حول هذا الخط، بالتالي المفاوض آموس لن يدخل بالمفاوضات ومعه الإسرائيليون إلا على مساحة 860 كيلومتراً مربعاً، وانطلاقاً من هذا الأمر عرض آموس خطته، التي تقتضي تقاسم الـ860 كيلومتراً مربعاً، أي حقل قانا، مع الإسرائيليين”.

 

وتشير إلى أن “الحكومة اللبنانية تدرك ما يمكن فعله، حيث في حال أرادت إحياء الخط 29، عليها تعديل المرسوم. أما إذا رضيت بالخط 23، فعليها تحسين وضعها للحصول على حقل قانا بكامله، إلا إذا كانت مضطرة أيضاً إلى تقاسم هذا الحقل مع الإسرائيليين”.

 

وفي هذه الحالة، ترى هيتايان أنه “ربما تدخل شركة توتال على هذا الخط، عبر تقديم الاستعدادات لتقاسم الحقل بين لبنان وإسرائيل، وهو ما يعني إتمام الاتفاق الأميركي – الفرنسي، حول حقل قانا، لتكون هذه الاتفاقية هي المخرج لإلهاء الناس عن الوضع الأساس، ألا وهو التقاسم اللبناني مع إسرائيل”.

 

وتشدد على أن “مقولة الاستعجال في اكتشاف واستخراج النفط والغاز ليست دقيقة، لأنه مهما تم الاستعجال في عملية التنقيب، إلا أنه تقني لا يمكن الاستخراج قبل السنوات العشر المقبلة، ما يعني أن هذا الاستعجال لن يسمح بإنقاذ النظام الاقتصادي المنهار”.

 

كما تلفت إلى أن “الخطر الأكبر هو توجه الدولة لاقتراض الأموال، واعتقادها أنه بإمكانها تسديدها من خلال بيع النفط والغاز، بحيث إنه لم يتم تحديد كمية الغاز التي يقتنيها لبنان وما إن كان البيع سيكون ممكناً”.

 

قبرص لا تتعاون

 

ومع تجدد الكلام عن إعادة التفاوض مع قبرص أو عدم التفاوض، بحجة وقوع “أخطاء” أدت إلى “خسارة” لبنان أكثر من 2600 كيلومتر مربع لصالح جارته البحرية التي تشكل 15 في المئة من الثروة النفطية المتوقعة، استدعي المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين لبيروت حول النزاع بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية بناءً على دعوة من القادة اللبنانيين، بينما يسري كلام في السر عن جدوى التعنت اللبناني في الترسيم.

 

وتنتقد بعض الأوساط السياسية التخبط الرسمي حول النقطة التي يجب التفاوض عليها، لا سيما أن الصراع قائم بين الجيش اللبناني الذي يعتبر حق لبنان يصل إلى النقطة 29، والحكومة التي لم تنجز تعديل المرسوم المودع لدى الأمم المتحدة الذي يشير إلى النقطة 23.

 

وترى هيتايان أن “تعدد الجهات التي تفاوض وتفرض رأيها حول الترسيم أدخل لبنان في حصار مع محيطه، إذ أولاً هناك من يطرح معايير لترسيم الحدود جنوباً معاكسة لتلك المطروحة شمالاً، والأسوأ من ذلك أن إسرائيل وقبرص انطلقتا في عمليات التنقيب، فبات لبنان في حالة حصار مع إسرائيل وقبرص وسوريا”.

 

ويعتقد بعض المراقبين أن لبنان أضاع خلال السنوات الأخيرة العديد من الفرص التي تمكنه من دخول نادي الدول النفطية، لينتشل نفسه من أزمته المالية والاقتصادية ويستقطب الاستثمارات. في المقابل، بينما يذهب آخرون إلى أن تمسك لبنان بالمطالبة بمنطقة الـ2200 كيلومتر جنوباً وإعادة التفاوض مع قبرص، قد يعود بالنفع الكبير على لبنان باستعادة 2600 كيلومتر مربع من قبرص، إلا أن المعلومات تشير إلى أن قبرص غير مرحبة بأي إعادة للنظر في ترسيم حدودها، وتعتبر أن الحدود البحرية مع لبنان واضحة وغير قابلة لإعادة النظر.

 

ترسيم الحدود مع سوريا

 

وشمالا تبدو الأمور معقدة أيضاً، لا سيما أن القرار لم يعد سورياً فقط بعد تلزيم سوريا منطقتها الاقتصادية لشركات تنقيب روسية، الأمر الذي يشير مستقبلاً إلى أن عملية ترسيم الحدود البحرية في أي وقت بين لبنان وسوريا لن تقل صعوبة عما يواجهه الأول في المفاوضات مع الإسرائيليين، بخاصة أن الطرح السوري المبدئي يطالب بالتفاوض بشكل مباشر، أي الاعتراف بالنظام السوري، والعمل بوساطة روسية لترسيم الحدود، في وقت يبدو السوريون غير مقتنعين، بتفاوض لبنان السابق مع قبرص من جانب واحد، إضافة إلى التوقعات بانحياز الروس إلى النظام السوري.