من ملامح التجربة الأوروبية في البحث عن الحرية(10)

الحرية من خلال اتّباع التسامي والإسقاط(ج)

 

فريدريك فيلهيلم يوزف شيلينئغ

,Friedrich Wilhelm

 

Joseph Schellin

(1854-1775)

يَـربُـطُ الفَيلسوفُ الأَلمانِيُّ فريدريك فيلهيلم يوزف شيلينئغ، وهوَ صاحبُ مذهبِ المِثالِيَّةِ المَوضوعِيَّةِ، بَيــن الحُرِّيَّةِ والفَلسَفَةِ، رَبطاً أَساساً مُباشِراً ومُمَيَّزاً (Schelling: Philosophical Investigations). ولقد شكَّلت فلسفةُ شيلينئغ مَجالاً فَذًّا مِن مَجالاتِ المِثالِيَّةِ، يُعرَفُ بِالمِثالِيَّةِ الجَمالِيَّةِ. يُشير، شِين ماك جراث Sean J. McGrath، الباحث المُخْتَصُّ راهِناً في فلسفةِ الأديانِ، في «الجامعة التّذكارِيَّةِ للمُنشئين» Memorial University of Newfoundland، إلى أنَّ شيلينئغ وضع دراسته الفلسفية الشَّهيرة والأساس، «مقال الحرية» Freedom Essay، سنة 1809؛ وهي تدور حول سعيٍّ في فهم جوهر الحُرِّيَّة الإنسانِيَّةِ؛ ويبدو أنَّ ما وضعهُ جاء، عن عَمَدٍ، لإرباكِ القارئ. واقع الأمر، إنَّ شيلينئغ قد لا يختلف، في أسلوبِهِ هذا، عن طريقةِ التَّأليفِ السِّيمفونيَّةِ الرُّومانْسِيَّةِ، التي عُرِفَ بِها مُؤلِّفونَ مُوسِيقيُّونَ مِن أَمثالِ الأَلمانيَّينِ يوهانِّس برامز Johannes Brahms (1833-1897) وليدويج فان بيتهوفن Ludwig van Beethoven (1770-1827). ويبدو أنَّ هذه الطَّريقة تَنْهَضُ على أنْ يُحبَطَ عَبْرَها الإِشباعُ الجَمالِيُّ السَّهلُ لِلهيكلِ الواضِح للفِكرةِ أو لِلَّحن.

يبدأ «مقال الحرية» بسلسلة من استجوابات عشوائية، على ما يبدو حول وحدة الوجود، إذ يؤكد شيلينئغ أن ثمَّة تمييز إلهِيٌّ بين أساس الوجود والوجود بقدر ما هو موجود؛ وذلك لِتجنُّب التَّناقض الممكنِ الظهور بين الشَّر والتَّوحيد. (McGrath: 1-2). إذ يؤكِّد شيلينئغ أنْ ثمَّة تَمييزٌ إِلهِيٌّ بين أساسِ الوجودِ والوجودِ بقدرِ ما هوَ مَوجودٌ؛ وذلكَ لِتجنُّبِ التَّناقضِ المُمكنِ الظُّهورِ بينَ الشَّرِ والتَّوحِيد. لقد كانَ شيلينئغ يرى أنَّه لّئِن كانَ يَتُمُّ في الفَنِّ التَّعارضِ بينَ الذَّاتيَّة والمَوضُوعِيَّةِ، فَعَبْرَ الفنِّ، كذلِكَ، يَتُمُّ تَنسيقُ جميعِ التَّناقضاتِ المُمْكِنِ قِيامُها بَين المَعرفةِ والفِعل، والعَملِ الواعِي والعملِ اللَّاواعي، والحُرِّيَّةِ والضَّرورة.

 

إنَّ الفلسفةُ كلُّها، فــــي اعتبارِ شيلينئغ، مِن عَمَلِ الحُرِّيَّةِ ونِتاجِها؛ وعلى هذا الأساس، فإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الفلسفةِ على أَنَّها، في أَصلِها، فِعْلُ إِرادة (بدوي: موسوعة: 2:26). ويُقَرِّرُ، شيلينئغ، أنَّ مَهمَّة الفلسفةَ هِيَ النَّظرُ في مَوضوعاتِ العُلومِ كُلِّها على ضوءِ علاقاتٍ أَعلى تتمثَّل في الارتفاعِ مِن هاوِيَةِ الطَّبيعةِ إِلَى عالَمِ الأَرواح (بدوي: موسوعة26: 2). إِنَّها، بِذا، وجودُ تَسامٍ بِالمَوْجُودِ الجُزئِيِّ مِن حُدُودِهِ الطَّـبـِيعِيَّةِ إِلَى رِحابِ المَوْجُودِ الأَعلى في تَجَلَيَّاتِهِ الرُّوحِيَّةِ. فالمَـوضُوعاتُ الجُزئِيَّةُ لِلعُلومِ، في نَظَرِ الفَلسَفَةِ، ووفاقاً لِما يَذْكُرُهُ شيلينئغ، لَيْسَت سِوى مُجَرَّد أعضاءٍ في جِهازٍ عُضوِيٍّ واحدٍ. ولِذا، فإنَّ المُمارَسَةَ الفَلْسَفِيَّةَ، التي تَنجَحُ في تَحقيقِ هـدفِ الارتِقاءِ بالنَّظرِ في مَوضُوعاتِ العُلومِ، تكونُ، بِحَسَبِ شيلينئغ، فلسفـةً إِيجابِيَّةً أو الفلسفة الحُرَّة حقاً.

ان الفلسفة الإيجابيــة، بالمفهوم الذي يقدمه شيلينئغ، تضحي فلسفة وجود تتطلّع إِلَى الواقع؛ وتسعى، من خلال وجودها هذا، إِلَى الخروج بالإِنْسان، فــي واقـعـــه، من الذاتيـة إِلَى الموضوعية عبر الإرادة. ولما كانت الإرادة أصل الفلسفة، فان الإِنْسان، بنظر شيلينئغ، ما خلق إلاّ للعـقــل، وللتـأمـــــل، ولممارسة إرادة الحُرِّيَّة (52) والحُرِّيَّة، ههنا، لا تــكــــون وجودا بذاته، بل انها وجود غائي. ويمكن توضيح هذه النظـرة إِلَى وجود الإِنْسان في علاقته بالحُرِّيَّة من خـلال ما يصــوره شيلينئغ من فهمه للتاريخ (53). فالتاريخ، عـــنده، ليس مجرد موضوع نظري يسير بمقتضى قانون معيّن. ان التاريــخ وجود للحريّة؛ إذ هي، وليس الضرورة، ما يسود فيه. ومــوضــوع التاريخ، بالتالي، هو الحُرِّيَّة؛ إلا انها حرية تريد أن تكـون مؤمنه عن طريق النظام وليس الفوضى. أمّا هذا النظام، فانه يسعى لأن يظل راسـخــا رسوخ الطبيعة؛ أي أن يكون نظاما عاما. وبذا، فان عدم تأميــن الرسوخ للنظام يعني أن تكون الحُرِّيَّة مزعزعة إذ لا ضمان لها إلاّ بالقانون العام.

يمـكـن القول ان الحُرِّيَّة والنظام العام، وفاقا لما يقـــدم شيلينئغ، فــي تنام متبادل مضطرد. فكلما تقدّم التطور الإِنْسانـي عبر التاريخ، كلما اتضح التوفيق بين ما هو قانوني وما هـو حــــر، أي بين القانونية والحُرِّيَّة؛ وكلما صارت الحُرِّيَّة أكثـر يســــــرا بمقتضى القانون، أي صـارت محققــة لغاية وجودها. بذا، وكما يـــــرى شيلينئغ، يصير عالم الإِنْسان أكثــر نظاما، وتقلّ فيه الانحـــرافات والاضطرابات الناشئة عن الأهــــواء الفــرديــة. فالحُرِّيَّة، من هذا المنظور، فعل تنامٍ باتجـــاه النظام العام الناشـــئ عـــنهــــا؛ انها تؤسـســــه وهــو يؤطّرها.

ان النظــام العام، إذ يشكل مجال تجل للقوة الإلهية في العالم، يضع الوعــــي الإِنْساني، في نظر شيلينئغ، أمام ثلاثة مواقف حاسمة (54) ان الإِنْسان إذا ما أكّد هذه القوة في الطبيعة والعالم الموضوعي، فانه يجعل الالهي مساويا للقدر، وهنا تحقيق للنظرة الجبرية التـي تفقد الإِنْسان حريته. أمّا إذا ما أنكــــر الإِنْسان هذه القوة العليا، وذلك على أساس شعوره بتجربتــــه الذاتية وأهوائه الخاصة، فانه لا يرى في الكون غير الصدفـــــة والبخت؛ وهذا موقف الالحاد، وموقف انتفاء الحُرِّيَّة لغايــة وجودها. وهذان الموقفان فاسدان إذ هما صادران عن تفكير واحد محدود يفصل فصلا تاما بين الضرورة والحُرِّيَّة. ولذا، فان شيلينئغ يميـــل إِلَى موقف آخر، يتجلى في رؤية الألهي هوية بين الضرورة والحُرِّيَّة. ان هـــــذا الموقف يعترف، أساسا، بوجود قوة تكشف عن تطور منظم لهــذا العالم. وعلى هذا، فلا يعود المطلق القدر أو المصير، بـل يـصـبـــح العناية. ان هذا الموقف هو أقرب ما يكون إِلَى موقف الديــن، بل لعله موقف الدين نفسه؛ وفـيــه تكـــــون الحُرِّيَّة وفعل المسؤولية غاية التناسق التام بين إرادة الإِنْسان والنظام العام الناشـئ عنها؛ وبين هذا النظـــام العام الذي يشكّل تجليّا للقوة الالهية، وضمان رسوخه المرتبــــــط بالممارسة الصحيحة للوجود الإِنْساني عبر ما يسميه شيلينئغ بالفلسفـــــــة الإيجابيّة.

 

خـــــــلاصــــــــة:

تعـدّدت مجالات التعاطي مع الحُرِّيَّة فـي الفكر الغربي ممثلا بالتجربـــــة الأوروبية. لقد نظر إِلَى الحُرِّيَّة على انها الخـيــر، والإرادة، والوجود بالذات، وفعل العقل، وفعل التناغـــم والتناسق مع النظام العام. وكيفما دار الأمـر، فان الإِنْسان يجد نفسه، عبر هذا الفكر، أمام أسرين يمنعانه، وبامتـياز، من تحقيق حرية مطلقة له. ان الإِنْسان، في تعاطيه مع الحُرِّيَّة عبر تجربة الفكر الأوروبي، يجد نفسه امّا مرتبطا بثباتية قيـم وضعيّة، أو مقيّدا بانتظار تجليات ذاتية أفضل وأقوى.

لقد ظل الفكر الغربي يهجـس بالحُرِّيَّة إمّا بالتأمّل العقلي، أو بالسعي المادي؛ لكنـــــه، وفي كلا الحالين، لم يستطع أن يحقق لها وجـودا نهائيا. ولعل ما قدّمه شوبنهور، في هذا المجال، يأتي ليمثل العري الأشــــدّ إيلاما في تجربة الفكر الغربي. لقد رأى شوبنهور أن لا تحقيـــــق للحرية، مع الإِنْسان، إلاّ بالخلاص منها والانتهاء من «مرض» الهجس بها.

 

مكتبة الدِّراسة:

• بدوي. عبد الرَّحمن، موسوعة الفلسفة، إصدار المؤسَّسة العربيَّة للدراسات، بيروت، 1980.

• Sean J. McGrath, The Logic of Schelling’s Freedom Essay, Memorial University of Newfoundland. ND.

• Friedrich Wilhelm Joseph von Schelling, Philosophical Investigations into the Nature of Human Freedom, Originally written and published in1809, Translated to English by James Gutmann, Published by Living Time Press, 2002.

رئيس المركز الثقافي الإسلامي / د. وجيه فانوس / اللواء