كُلُّ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ الرَّغَبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، يُقَيَّدُ بِبُهْتَانِ الْأَغْرَاضِ الظَّاهِرَةِ وَخِدعَتُها، تَسِيرُ بِهِ إِلَى اللَّامُحْتَوَى وَاللَّامَعْنَى! يَبْحَثُ عَنْ السَّعَادَةِ فِي إِشْبَاعِ غَرَائِزِهِ، فَيَرْتَمِي فِي التَّشَتُّتِ، الْخَوْفِ، وَالْخَوَاءِ!
لِأَنَّ قَدْرَ الْإِنْسَانِ التَّفَتُّحُ عَلَى الْوَعْيِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُجَاهِدَ لِتَرْوِيضِ إِرَادَتِهِ وَإِقْمَاعَ شَهَوَاتِ غَرَائِزِهِ. تَبْدَأُ مسيرتُهُ بِاسْتِيعَابِ الِازْدِوَاجِيَّةِ فِيهِ: الْمَادَّةُ وَالرُّوحِ، تَتَغَذَّى مَادّتُهُ، فَيُلْحِمُهَا، وَتَتَغَذَّى رُوحُهُ، فَيَتَوَسَّلُ الْمَزِيد. بِمُعَاضَدَةٍ إِلَهِيَّةٍ، تَخُوضُ النَّفْسُ تَدْرِيبَاتٍ جَمَّةٍ : إِخْتِبَارَاتٍ وَبَلاءاتٌ مُضْنِيّةٍ…
مُتَابعَةً مَسِيرَتَهَا الْهَادِفَة، تَرْتَفِعُ حُرّةً عَنْ الْقُيُودِ وَتَنْدَمِجُ شُعَاعًا مُتَأَلِّقًا فِي سَمَاءِ الْحُبِّ …
لَوْلَا مَوْجَاتُ الْحُبِّ، لَمَا تَحركَتِ الأفلاكُ السَّمَاوَاتِ ، لَِوْلاهُ ، لَكَانَتْ جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ بِلَا حِراكٍ.
لَوْلَاهُ ، لِمَّا انْطَلَقَتْ الْفَرَاشَاتُ ، وَتَخْلَّتْ عَنْ الزَحْفِ ، لِتَرْتَدِيَ جَنَاحَيْهَا وَتَطِيرَ ، مُتَنَقِلَةً مِنْ زَهْرَةٍ إِلَى زَهْرَةٍ تَأْخُذُ عِطْراً ، وَتُعْطِي رَمَقاً !
الْحُبُّ عِلّةُ الْحَيَاةِ ، لَوْلَاهُ ، مَا كَانَ يَرَتَقِي أَيُّ إِنْسَانٌ. لَِوْلاهُ ، كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْجَمَادِ أَنْ يَتَطَوَّرَ إِلَى نَبْتَةٍ حَيَّةٍ؟ لَِوْلاهُ ، أَكَانَتْ حَبّةُ الْحِنْطَةِ تُضَحِّي بِنَفْسِهَا، لِتُعْطِي غِلَالًا عَامِرَةً بِالْحَيَاة؟
كَانَ لِي حَبِيبٌ فَرَّقَتْ بَيْنَا الْأَيَّامِ ، فَتَلَظَّيْتُ بِنِيرَانِ الْأَشْوَاقِ..وَعَبْرَ الدُّمُوعِ وَالزَّفَرَاتِ صَرَخْتُ مِنْ نِياطِ قَلْبِي: مَا اسْمَجَ وَجْهَ الْحَيَاةِ، وَمَا أَحْلَكَ ظُلْمَتُهَا، وَحَبِيبِي انْسَلَخَ عَنِّي، وَتَرَكَنِي وَحِيدَةً أَعَانِي!
رَبِّی، أَلَا لَيْتَكَ تَرْفَعُ السِتَارَةَ مَا بَيْنَنَا وَتَعُودُ فَتَجْمَعُ شَمْلَنا!
هُنَا، تَنَاهَى إِلَيَّ صَوْتٌ صَمِيمِيٌّ مُنَبِّهًا: «يَا أَنْتِ الْوَهْمُ وَالْخَيَالُ، الْجَائِلَةُ حَوْلَ ذَاتِهَا، عَلَامَ هَذَا الْوَجْد؟
اعْتَبِرِي : إِنْتّي فِي ذَاتِكِ، أَلْبَسْتُكِ دِثَارِي، وَسِتَارَ وُجُوهِ الْوُجُودِ،
فَزَانَ فِي قَلْبِكِ النَّبْضُ…”جَذَبْتُكِ إِلَى نَارِ وَنُورِ حُبِّي، ثُمَّ أَعَدْتُ عَلَيْكِ
الْكرَّةَ فِي عَمَلِيَّةِ مَوْتٍ وَإِعَادَةِ إِحْيَاء». بَلَى الْحُبَّ وَالْأَلَمِ، تَوْأَمَانِ: أَلَمُ وَمُعَانَاةِ التَّطَهُّرِ الْآيِلِ إِلَى فَرَحِ الِانْسِكَابِ فِي الْآخَرِ، فَمِنْ خِلَالِ الْحُبِّ نَخْرُجُ مِنْ ذَاتِنَا النَّاقِصَةِ إِلَى الْحَبِيبِ المُكمل لِيَتِمَّ تَفَاعُلُنَا، انْصِهَارُنَا، وَتَكَامُلُنَا: تِلْكُمْ الْوِحْدَةُ الثُّنَائِيَّة؟ لَيْسَتْ إِلَّا تَمْهِيدًا
لِلْحُبِّ الْمَصْدَرِ!
عِنْدَ ذَاكَ، يُهْزَمُ الْعَقْلُ الْمَحْدُودُ ، فِيمَا تَحْلِّقُ النَّفْسُ بَعِيدَةً إِلَى اللَّامَحْدُودِ، عَاكِسَةً عَلَى كُلِّ مَا حَوْلَهَا تَأَلُّقَ تَجَلِّيَاتِهِ!
سُبْحَانَ رَبِّي الْمَعْبُودِ، الَّذِي جَعَلَ فِي قُلُوبِ مُحِبِّيهِ شَوْقًا لِلَذَّةٍ أَدْرَكُوهَا، فَاجْتَهدُوا فِي طَلَبِ مَا لَمْ يُدْرِكُوه ” !