زراعة التبغ تتراجع 60%… في لبنان

راحت أيام الدعم والبحبوحة

لم تعد شتلة التبغ «شتلة الصمود» بالنسبة للمزارعين، في قرى الجنوب والبقاع وعكار بعد أن دأبوا على زراعتها لسنوات. بل باتت تكلفة زراعتها باهظة في ظل الأزمة الحالية، وأعلى من قدرتهم على الاستمرار، وحوّلتهم «عمالاً بالسخرة» إذا ما قارنوا بين كلفة إنتاجها (بحسب دولار السوق السوداء)، وبين سعر كيلو التبغ الذي تشتريه منهم المؤسسة العامة لإدارة التبغ والتنباك «الريجي» بالليرة اللبنانية.

في الوقت الذي لم يستطع فيه الإحتلال الاسرائيلي، والحرب الاهلية، منع المزارعين من زراعة التبغ، أجبرهم الإنهيار الاقتصادي على هجرها بحسب ما تشير أرقام «الريجي»، لـ»نداء الوطن» بأن 40 % فقط من المزارعين سيسلمون إنتاجهم هذا العام للمؤسسة، وتتوقع أن تضمحل هذه الزراعة في السنوات القادمة مع إستمرار الانهيار.

نزرع للحفاظ على الرخصة!!

بالنسبة للمزارعين المنتشرين بين قرى الجنوب (13200 مزارع حاصل على رخصة من الريجي)، والبقاع (5100 مزارع ) وعكار( 4200 مزارع)، فلكل منهم حكايته التي يرويها عن الاسباب التي دفعته إلى ترك هذه الشتلة التي أمّنت له مدخولاً يعتاش منه على مدى سنوات. إذ يعدد المزارع حسين عوالي من بلدة تولين الجنوبية، الفروقات في الاسعار التي منعته هذا العام من زراعة أرضه، والاكتفاء بزراعة «دونم واحد» للحفاظ على الرخصة الممنوحة له من الريجي، فيقول: « كنت أزرع 10 دونمات قبل الازمة وأُنتج 1000 كيلو، وأُسلمها للريجي بحسب ما تنص عليه رخصتي (لكل دونم 100 كيلو من الدخان). أما في العام الماضي فلم أزرع سوى دونم واحد وسلمت الشركة 92 كيلوغراماً. وحالتي هذه تنطبق على معظم مزارعي التبغ في القرى الجنوبية، التي كانت تزخر بزراعة «الدخان»، مثل القنطرة والغندورية وعيترون ورميش حيث تراجع الانتاج إلى الربع».

يشرح عوالي أن أجرة حراثة دونم الارض كانت 25 ألف ليرة قبل الازمة، وإرتفعت تدريجياً إلى أن وصلت العام الماضي الى 300 ألف عن كل دونم»، لافتاً إلى أن «زراعة التبغ تتطلب فلاحة الأرض 3 مرات في العام لتهيئتها وإعطاء موسم جيد. بالاضافة إلى أن كيس الاسمدة كان قبل الازمة 125 ألف ليرة، واشتريناه بمليون ونصف حين كان سعر دولار السوق السوداء 20 الف ليرة، بعدها توقفت عن شرائه».

أسعار الأسمدة تضاعفت 1000%

يضيف: «هذا يعني أن الأسعار تضاعفت ألف بالمئة على المزارع، ومن دون احتساب سعر البذور والشتول وأجرة العمال، إذ أن زراعة التبغ في الجنوب غالبا يساهم فيها كل أفراد العائلة، ولا يتم إستئجار عمال سوريين إلا عند الضرورة». مشدداً على أن «إرتفاع اسعار المحروقات زاد الكلفة حتى لنقل «عياله» إلى الحقل، ناهيك عن سعر خزان المياه للري والذي بات 600 الف ليرة، مما قضى على أي أمل للعائلات بتأمين قوتهم من هذه الزراعة».

مقابل هذه الكلفة تسلمت «الريجي» من المزارعين، كيلو التبغ عن الموسم الماضي بسعر 45 الف ليرة. وهذه التسعيرة لم تنصف تعب المزارع المضني لكنها غطّت التكاليف، التي تكبدها بحسب ما يؤكد عوالي، مشدداً على أن»التسعيرة المنصفة هذا العام يجب ألا تقل عن 300 ألف ليرة وإلا فالاصلح لنا كمزارعين حرق الموسم في أرضه».

تجدر الاشارة إلى أنه منذ العام منذ العام 2010، بات يحق للمزارع تسليم 100 كيلو عن كل دونم، في حين أنه قبل هذا التاريخ، كانت الكمية مفتوحة من أجل دعم المزارعين للصمود في أرضهم، خصوصا في قرى الجنوب المحتل. وحاليا يتجه المزارعون إلى إستبدال شتلة التبغ بزراعة الزعتر والقمح والعدس لأنها لا تتطلب تكاليف عالية وتُباع بأسعار جيدة.

البقاع…20 % فقط

في البقاع يشرح رئيس تجمع المزارعين إبراهيم ترشيشي لـ»نداء الوطن» أن زراعة التبغ في البقاع مأزومة كباقي أنواع الزراعات الاخرى. بسبب التكاليف العالية للإنتاج ولاسيما المحروقات»، مشددا على أن «المزارع الذي لا يستطيع تأمين الري لمزروعاته عبر الطاقة الشمسية، يعمد الى التوقف عن الزراعة بسبب الأسعار الباهظة للمحروقات، ناهيك عن إبتزاز أصحاب المحطات لتأمينها لا سيما مادة المازوت».

يوضح ترشيشي أن «ما يدفع المزارع البقاعي لعدم زراعة التبغ، هو السعر المنخفض الذي تحدده الريجي للكيلو والذي لا يغطي الكلفة، ناهيك عن الدفع بالليرة اللبنانية في ظل ارتفاع اسعار الدولار في السوق السوداء». وأشار إلى أن» 20 % من مزارعي التبغ في البقاع فقط، زرعوا اراضيهم هذا العام بسبب الكلفة العالية، وبسبب التهميش الذي عانوا منه في العام الماضي».

ويختم:»رخصة «الدخان» كانت تؤمن للمزارع قبل الازمة بين 1000 و1200 دولار عن كل دونم، والعام الماضي كل دونم حصّل 250 دولاراً على الاكثر، وهذا العام سيكون المردود أقل».

التنباك… المعاناة نفسها

في عكار تنتشر زراعة التبغ في منطقة الدريب، لأن إرتفاعها عن سطح البحر 400 متر مناسب لهذه الزراعة البعلية، أما في سهل عكار فتنتشر زراعة التنباك الذي تتسلمه «الريجي» أيضا. ويعاني مزارعوه من التحديات ذاتها التي يواجهها مزارعو التبغ. إذ يشرح المزارع رستم طعوم لـ»نداء الوطن» أن «مساحات زراعة التنباك في سهل عكار والتبغ في الدريب، تراجعت خلال العامين الماضيين بنسبة 40 %»، لافتا إلى أن «الاسوأ هو إصابة المساحات المزروعة في السهل هذا العام، بمرض في جذوره ولم يستطع مهندسو الريجي والزراعة، تحديد كيفية القضاء عليه»، مشيراً إلى أن «هذا ما أدى إلى تضاؤل الانتاج، بسبب إنحسار الزراعة من جهة والمرض من جهة أخرى. فهكتار الارض الذي من المفروض أن ينتج 2 طن من التنباك، لن يزيد إنتاجه هذا العام عن 500 كيلو فقط».

يصف طعوم «تسعيرة الريجي بالحزورة التي لا يمكن كشفها إلا عند تسليم المحصول. العام الماضي كانت الوعود بدفع 20 مليون ليرة، عن كل 330 كيلو عن إنتاج هكتار الارض( بحسب ما تحدد رحصة الريجي)، وعند التسليم لم نتقاض إلا 10 مليون ليرة»، موضحا أن سعر 330 كيلو تنباك قبل الازمة كان 2200 دولار، أي ما يعادل 3 ملايين و300 الف ليرة وكان منصفاً للمزارع، وفي موسم العام 2020 تم تسليمه بـ5 ملايين ليرة، وفي العام الماضي سلمنا الكمية نفسها بـ 10 ملايين ليرة، وهذا العام لا نعرف كيف سيكون السعر، لكن المزارعين مستمرون في الزراعة لأنهم لا يريدون خسارة الرخصة».

يوضح طعوم أن «كلفة زراعة التنباك تعلو وتنخفض بحسب الامكانيات التي يمتلكها المزارع، مثل الارض والجرار الزراعي والعائلة التي تساعده في القطاف»، معتبرا أن «هذه الزراعة لم تعد تغطي مصاريفها، ولأن كلفة كل رخصة ( 330 كيلوغراماً) لا تقل على المزارع عن 20 مليوناً مهما كانت المقومات التي يمتلكها». ويشير إلى أنه «إذا تم إحتسابها على هذا السعر من قبل الريجي، فهذا يعني أن المزارع يعمل من دون مقابل او ربح، وهذا ما حصل في العام الماضي، إذ أعطوا المزارعين أسعارا أقل من الكلفة التي تكبدوها ولهذا إستنكف كثيرون عن الزراعة هذا العام».

جعفر الحسيني

 

ضغوط بالجملة

على ضفة «الريجي» يشرح مدير الزراعة والمشتريات في المؤسسة، المهندس جعفر الحسيني لـ»نداء الوطن» أن الزراعة هي القطاع الاضعف لقلة الاهتمام والرعاية بها، خصوصا في ظل الازمة الحاصلة. وهذا يشمل زراعة التبغ التي تعاني من أكلاف عالية، ولا سيما أسعار المبيدات بسبب الحرب الروسية – الاوكرانية والتي إرتفعت بنسبة 150 %«.

يوضح أن مزارع التبغ «لا يعاني فقط من ضغوط الاسعار المرتفعة، بل أيضا من عدم اليقين من استمرار الريجي كمؤسسة في ظل الانهيارات التي تحصل في القطاع العام. خصوصا أن تسليمه لإنتاجه يتطلب عملاً شاقاً لمدة عام كامل»، لافتا إلى أنه «منذ بداية الأزمة تقوم المؤسسة في شهر تموز، باحتساب كلفة الانتاج لتحديد السعر الذي ستشتريه من المزارع، وهذا ما حصل في 2020 حيث تمت زيادة الاسعار بنسبة 50%، وفي 2021 بزيادة 180% عن الاسعار التي كانت تعطيها المؤسسة للمزارع في العام 2019. لكن المشكلة في الارتفاع المستمر في سعر دولار السوق السوداء، والذي يسبق التقديرات التي نضعها ونحن ندفع بالليرة اللبنانية».

يضيف: «بسبب هذا التفاوت يتراجع الانتاج عاماً بعد عام، ففي العام 2019 تسلمنا من المزارعين 5 ملايين طن، وفي العام 2020 إنخفضت الكمية بنسبة 30%، وفي العام الماضي صار الانخفاض بنسبة 40 %، وفي العام الحالي تشير التقديرات الى ان 60 % من المزارعين توقفوا عن زراعة التبغ، علماً وزارة المالية هي التي تحدد سعر الكيلو بناء أرقام الكلفة والدراسات التي نقوم بها».

زراعة تبغ

 

الريجي: الصناعة والتجارة تربحان… والزراعة تخسر

تضم مؤسسة الريجي 3 أقسام تُعنى بشتلة التبغ هي، زراعة وصناعة، وتجارة. وتحقق صناعة وتجارة التبغ (السجائر) أرباحاً منذ العام 2014. أما قسم الزراعة فيعاني من خسائر بسبب دعم المزارعين ويتم تعويضه من الاقسام الباقية.

يوضح جعفر الحسيني أنه»لا يمكن للمؤسسة تجيير أكثر من 50% من أرباحها لدعم المزارعين، حتى وإن كانت تحقق فوائض وتحولها للخزينة العامة. كما أن تراجع زراعة التبغ في القرى لن يؤثر على إنتاج السجائر التي تنتجها المؤسسة لأنه لا يُستعمل في تصنيعها»، شارحا أن «التبغ اللبناني له خصائص معينة، وتستعمله المؤسسة بنسبة لا تتعدى 5 % من إنتاجها. وكل التبغ الذي يُستخدم في تصنيع السيجارة اللبنانية يتم إستيراده من اميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا». ويلفت إلى أن»الانتاج اللبناني من التبغ يصدّر في أغلبه إلى دول البلقان، التي تعتمد خلطات تناسب خصائص التبغ الذي تنتجه أرضنا. وبلغة الارقام كلما تراجعت هذه الزراعة فهذا يعني توفيراً للأموال التي تخصص لدعم المزارع، لكن بالمنظور الاقتصادي، التراجع، سيؤدي إلى خسارة آلاف العائلات لمدخولها من زراعة بعلية مهمة وأساسية في القرى اللبنانية».