كامل الأسعد رجل الألف عام / بقلم: سعدون حمادة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مجلة الشراع 26 تموز 2019 العدد 1910

 

 

 

*الاسعد لم يشغل نفسه بحسابات الربح والخسارة وموازنات الريع والعائد

*كل تطلعات الاسعد كانت الحفاظ على جذور تراث كونه المؤتمن الوحيد عليه

*بقي أكثر من نصف قرن غريباً عن السياسة لكنه كان رجل دولة

*بقي حتى مماته يؤمن بفصل الدين عن السياسة رغم تربيته الدينية

*أيد قانون تأسيس المجلس الشيعي رغم مقاطعة رجال الدين الشيعة لانشائه ورفضهم لانتخاب الصدر رئيساً

*التباعد مع الصدر حصل بعد ان توجس الاسعد من ان يكون الصدر يحظى بدعم ورعاية دولة اقليمية نافذة

*الاسعد أبرق الى الخميني مهنئاً بانتصار الثورة

*الاسعد بقي على موقفه بأن التوافق السوري – الاسرائيلي هو على لبنان لاقتسامه بمباركة اميركية

*عام 1976 رفض الاسعد مصافحة العقيد محمد غانم بعد انتخاب سركيس رئيساً

*مواقف الاسعد المتصلبة والمتشجنة في تعاطيه مع الرسميين السوريين ميزت علاقته بهم

*قصة التحالف الانتخابي الذي لم يتم مع حزب الله عام 1996

*غازي كنعان وحكمت الشهابي تدخلا لاقامة تحالف حزب الله مع ((أمل))

*الاسعد أصر بعناده المعروف على خوض معركة خاسرة على رئاسة المجلس النيابي بعد مسايرة بيار الجميل وكميل شمعون لرفض الاسد التجديد له

لم يكن كامل الأسعد يوماً رجل السياسة بالمعنى التقليدي اللبناني فقد تجاهل قواعدها وأهمل نواميسها واستخفّ بأعرافها حتى قبل أن يلقي به التاريخ والقدر في أعماق أتونها فتياً في مقتبل العقد الثالث من العمر. آتياً من رحم ماضٍ سحيق عمره ألف عام نسجت حوله الوقائع والأساطير هالة مأساوية من مفاهيم راسخة إلى حدّ التزمت بالتعاطي مع فروض الواجب والتضحية وجلد الذات دفعت من سبقه في تقدّم الصفوف إلى اقتحام ساحات الوغى في معارك حسينية محسومة النتائج ومحسوبة التكاليف.

 

قدر كامل الأسعد السياسي ومأساته وميزته أنه لم يشأ أن يترك لنفسه طيلة مشواره الطويل أكثر من خيار واحد ولم يشغل نفسه بحسابات الربح والخسارة وموازنات الريع والعائد فهو لم يكن ينظر حوله أبداً ولم يحظَ يوماً بهذه الرفاهية، فقد كانت كل تطلعاته تنطلق من أقصى ما يمكن أن تصل إليه جذور تراث عام هو المؤتمن الوحيد عليه إلى أبعد ما يحرزه حدسه واجتهاده من تقييم زمن مقبل في خط مستقيم بين البعدين لا يقبل التوقف والانعطاف، ولا حتى التمهّل، ولو لتفقّد الجراح، ومعاينة الندوب فحسب حتى وصل إلى نهاية رحلته مثخناً بالضربات والطعنات والكدمات التي أثقلت ظاهر جسده ونهشت فيه أخاديد قانية الغور، وهذه هي عادة المحارب العنيد وسمته بعد كل معركة، وهو أمر لا أعتقد أنه حظي بأولويات اهتماماته ما دام – الصليب – لواءً حمله متباهياً فخوراً لم ينكس في حربه كلها وهو مطمئن وواثق أنه سيلازمه في قبره إلى تاريخ لا بد أنه قدّره بدقّة وهو وحده دوننا يملك مفتاح هذا الحساب.

 

رجل دولة غريب في السياسة

في كل حياته السياسية التي امتدّت إلى أكثر من نصف قرن بقي كامل الأسعد غريباً عن السياسة ولكنه كان وبكل المقاييس رجل دولة في أوسع ما يحمله هذا المصطلح من حداثة ومنهجية والتزام وعصرية وتشبّث بالتراث والقيم والأصول. وزعيماً وطنياً في كل ما يجب أن تمثّله الزعامة من تعبير عن مصالح الأمة وسلامتها كما يراها الزعيم ببصيرته وثقافته وحكمته وإلهامه لا كما تلقّن للعامة كرهاً أو إغراءً أو إثارة للغرائز واستثماراً للجهل والنزق والطيش واستغلالاً لفساد فكر العوام ورأيهم وسوء تقديرهم. وقائداً من حيث أن القيادة هي عقيدة إنسانية وقومية وإجتماعية تحدّد مصلحة الوطن العليا مواطنين ومؤسسات بإيمان وثبات لا يقبل مساومة ولا تعديلاً ولا تبديلاً دون مراعاة لعواطف العامة وغرائزها وفطرتها. دافع كامل الأسعد عن كل هذه القناعات وربما دفع ثمنها عداءً وافتراءً وتجنياً آلمته كثيراً إنما الذي أشقاه وأضناه أكثر أنه رأى قبل المغيب أن الدولة تندفع أو تدفع لاهثة نحو مزيد من الضمور والذبول، والوطن ينحدر أو يدحرج باستماتة نحو هاوية لا بد أن يكون لها في النهاية قرار، وكل الدلائل تشير إلى أن في قعر هذا القرار تلوح ثقوب تؤدي إلى الإحتمالات الفاجعة والقاصمة دون أن تبقي له أحكام الزمن الرديء إمكانية الوقوف بوجهها ولو وقفة المحارب الجريح. وهذه مأساة طالما عشق القدر أن يؤديها في سير الرجال الكبار وعذاباتهم، وكان جبل عامل من مسارحه الأثيرة والمفضلة منذ أن أصبح لهذا الجبل الهرم إسم وهوية وتاريخ.

 

هل أسدل الستار مع غيابه عن مأساة إغريقية تلبس ثوباً لبنانياً عصرياً عاملي التراث وشيعي الحواشي بطلها كامل الأسعد، أم أن من طبيعة القدر وأحكامه وألاعيبه أن يكرر الحبكة الدرامية نفسها بوجوه مختلفة وعلى مسارح متعددة منذ ما قبل القدرية الإغريقية وحتى إلى ما لا نهاية من دون الإهتمام بالزمان والمكان ولا بمشاعر الأبطال وما يذرفون من دموع وينزفون من دماء؟.

 

يبدأ تاريخ الأسرة الأسعدية البرلماني مع أول مجلس عرفته الإمبراطورية العثمانية بعد إعلان دستور 1908 وإجراء أول إنتخابات لمجلس ((المبعوثان)) في إسطنبول وإنتخاب كامل الأسعد (والد السيدة فاطمة /أم كامل/ التي أدت من وراء الحجاب دوراً سياسياً رائداً كما هو معروف ومتواتر) عضواً عن ولاية بيروت التي تضم المناطق الواقعة بين أنطاكية والقدس وكان من النواب الطليعيين طيلة قيام هذه المؤسسة حتى وفاته 1924 ومن المراثي التي اشتهرت حينها قصيدة الأمير شكيب أرسلان ومطلعها:

 

هوى بفقدك ركن الشرق واضطربَ يا كاملاً من يعزي بعدك العربَ

 

بعد وفاته تولى شقيقه ووالد أحمد قيادة الثورة العاملية ضد الفرنسيين – عبد اللطيف الأسعد – صاحب الأهزوجة الشعبية الذائعة التي تطلق عليه لقب السلطان بعد سقوط السلطنة العثمانية وانحصار السلطة بالقائد الفرنسي العسكري ((بشكوف)) وهذا ما أثار شعور العامة فتحدوا السلطة الجديدة بالمناداة العفوية بقائد الثورة سلطاناً متوعدين باريس العاصمة المنتدبة وجنيف مقر عصبة الأمم حينها.

 

((بشكوف)) خبر دولتك. سلطاننا عبد اللطيف.

 

((باريس)) مربط خيلنا. ورصاصنا يهدم ((جنيف)).

 

نشأ كامل الأسعد في بيت يعتبر أن إجلال رجال الدين والخضوع لتوجيهاتهم الروحية هو من التقاليد الموروثة والأعراف المرعية والمتبعة وكان مرشد العائلة الروحي الذي قلما يقطع أحد أفرادها أمراً دون اللجوء إلى استشارته والتقيّد برأيه ونواهيه وفتاويه هو سماحة المجتهد المرجع الشيخ محمد التقي الصادق حتى أصبحت هذه العلاقة الفريدة مع الشيخ ومع غيره من المراجع محل تندر وتداول في الأوساط السياسية والصحفية اللبنانية، وكان هذا الأمر معروفاً وشائعاً لدى الجميع أن أحمد الأسعد وولده كامل والسيدة فاطمة والدته يلجأون إلى استخارة المرجع الديني حتى في أبسط الأمور وأكثرها خصوصية وشخصية ((ما عدا الأمور السياسية طبعاً)). وقد حافظ كامل الأسعد دائماً على هذه القاعدة الموروثة واعتبرها من أعمدة تراثه وواجباته، فبقي يقيم مجالس العزاء الحسينية في أيام عاشوراء وغيرها من المناسبات الدينية حتى آخر أيامه بعيداً عن الإعلان والإعلام وقبل أن تدخل مثل هذه الطقوس في صلب أدبيات الأحزاب السياسية ومراسمها. وقد زار العتبات المقدّسة في العراق واتصل بكبار مراجع النجف أكثر من مرة كما كان يزور مقام السيدة زينب حيث قبر والدته والعديدين من أجداده وأفراد عشيرته، وكان يملك عدة غرف مستقلّة في صحن المقام أقامت فيها جدته الحاجة سلطانة أم أحمد وعمته مريم معظم أيامهما الأخيرة ودفنتا في جوارها.

 

ولكنه رغم تربيته الدينية الملتزمة بقي حتى النهاية يؤمن بفصل الدين عن السياسة وأيد قانون تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي ولم يعارض أول إنتخابات جرت بموجبه على الرغم من أن معظم رجال الدين الشيعة قاطعوها وكان عددهم حينها متواضعاً لا يزيد عن عدة عشرات. وكانوا يعارضون إنتخاب السيد موسى الصدر القادم من إيران رئيساً له وترسخ التباعد بين الرجلين بعد أن ظهر جلياً أن إهتمامات أول رئيس للمجلس الشيعي لا تقتصر على الأمور الدينية والمذهبية بل تتعداها إلى مجالات سياسية متعددة وتوجس أن يكون السيد الصدر يحظى برعاية ودعم شخصية عسكرية وسياسية مؤثرة في دولة إقليمية نافذة، خصوصاً بعدما باشر بتأسيس ميليشيا شيعية قوامها بعض محترفي الإنخراط من الشباب الشيعي في مختلف التنظيمات المشاركة في الحرب الأهلية المستمرة منذ 1975.

 

فتأكد الجميع أن الرجلين لا يمكن أن يلتقيا فكل منهما له رؤية سياسية مناقضة للآخر وأسلوب عمل مغاير له وأن الهوة بينهما لا بد أن تزداد اتساعاً. فقد كان الأسعد رغم الخلفية التراثية التشيعية التي ساهمت بعمق في تكوين شخصيته العامة هو علماني بطبيعته وقناعته وثقافته لا يتقبل أن يعمل رجل الدين في السياسة وأن يضع السياسي على رأسه عمامة فيمتزج الأمران ويتداخلان ولكن لكل من المهنتين مقاييسها وأحكامها وضوابطها وميدانها وقواعدها المختلفة عن الأخرى.

 

أذكر أنه في عام 1979 بعد أن غادر الشاه طهران وإنتقل الإمام الخميني من العراق إلى فرنسا وأيقن العالم أن أياماً قليلة تفصله عن العودة المظفرة إلى بلاده وإستلام زمام أمورها دفعني حماسي للثورة الشرقية الشيعية التي تطالب بالحرية وحقوق الإنسان إلى القيام بزيارة طارئة واستثنائية إلى الرئيس الأسعد مع رفيق العمر ماجد حمادة نطالبه بإسم الغيرة والقرابة أن يعلن بإسم شيعة لبنان تأييده للثورة المنتصرة وأن يمدّ جسور العلاقة مع الإمام الثائر انتصاراً وحمية للمبادئ المعلنة وقطعاً لطريق من يحاول إستغلال إنتصارها لتحقيق أهداف محلية شخصية في المستقبل ولكن تجاوبه لم يتعدَ إرسال برقية بروتوكولية إلى الإمام مفضلاً إقتصار العلاقة معه على تقليده في الأمور الشرعية في حال انسجامها مع ما قاله وأعلنه وأفتى به حتى اليوم.

 

لم يكن موقف كامل الأسعد من الوصاية السورية منذ بداية محاولاتها المبكرة للتدخّل في شؤون لبنان سياسياً وأمنياً الرامية إلى إخضاعه والسيطرة على كافة مقدراته إلا تتمّة لموقفه المتشدّد إلى حدّ العداء والمجابهة في وجه النفوذ المتمادي للمنظمات الفلسطينية وأتباعها بعد إتفاق القاهرة وإنحسار سلطة الدولة المركزية عن معظم أنحاء الجنوب اللبناني وبعض مناطق بيروت في مراحل لاحقة. وكان يرى في إتفاق 17 أيار/ مايو 1982 المدخل الوحيد لإنقاذ الجنوب من تسلط المنظمات والميليشيات والأحزاب والمسلّحين الذي أدى إلى تدمير معالمه وتشتيت سكانه وسحبه من طاولة المساومات والتجاذبات الإقليمية والدولية التي كادت أن تحوّله إلى أرض محروقة بعد أن هجره معظم سكانه إلا العاجزين منهم عن إيجاد ملجأ تعيس آخر ولم يعد أكثر من سلعة في بازار غرباء أرخص ما فيه دماء سكانه وسلامتهم وأملاكهم وكرامتهم ومستقبلهم فلم يجد مع ضعف الدولة واستسلامها وانعدام قرارها إلا الموافقة عليه كما فعلت الأكثرية الساحقة من مجلس التسعة والتسعين أو من بقي منهم بعد فترة عندما تغيّرت الرياح واختلفت المقاييس، إلا أنه بقي وحيداً كعادته متمسكاً بموقفه ويحمّل التوافق السوري الإسرائيلي على اقتسام لبنان تحت المظلّة والمباركة الأميركية مسؤولية سقوطه وعودة الجنوب وبالتالي لبنان كله نهبة أطماع الأقوياء وضحية صراعاتهم يتفتت كورقة تائهة في خضم العاصفة تمزّقها الأنواء وتسحقها الأعاصير دون أن تملك من أمر نفسها شيئاً.

 

تحالف انتخابي مع حزب الله لم يتم

أثناء التحضير لمعركة الإنتخابات البرلمانية لمجلس 1996 تلقيت إشارة من جهة نافذة تبدي رغبتها بحصول تحالف إنتخابي بين كامل الأسعد ومرشّحي حزب الله وتأليف لائحة مشتركة بينهما في كامل محافظتي الجنوب والنبطية، ورغم أن رؤيتي الشخصية للوضع السياسي العام وموازين القوى والتحالفات القائمة ومن يقف خلفها لم تترك لي أملاً كبيراً بإمكان تحقيق هذا الأمر نظراً للموقف السوري المعروف إزاء كامل الأسعد وتاريخ العلاقة بينهما إلا أني فوجئت بتجاوب قيادة الحزب، وعلى أعلى مستوى، مع إتصالاتي التي قمت بها مع الجانبين حتى تمّ الإتفاق على الخطوط الكبرى، فسمى الرئيس الأسعد مرشحين على لائحته هما منيف الخطيب وعلي مهنا لإتمام التفاوض على الأسماء والتفاصيل وفوّضت قيادة الحزب نواف الموسوي وآخرين بمتابعة من الشيخ نعيم قاسم.

 

بعد عدة اجتماعات عقدت في منزلي بين الفرقاء تمّ خلالها الإتفاق على كل الأمور التفصيلية التي تبحث عادة في مثل هذه الإستحقاقات وأقمت مأدبة بهذه المناسبة ظهر يوم الإثنين في 2 أيلول 1996 بحضور جميع المتفاوضين وبدا أن إعلان ما تمّ التوافق عليه أمام الرأي العام هو مسألة ساعات قليلة.

 

إنهالت الإتصالات وتكثفت الزيارات في اليوم نفسه إلى دمشق مع الرئيس الأسد وشارك فيها غازي كنعان وحكمت الشهابي واستقرت في ((عنجر)) التي وجهت دعوة إلى أمين عام حزب الله للحضور حيث جرى لقاء الأربعاء الشهير في مركز القيادة في عنجر واستمرّ من ظهر الأربعاء حتى ساعة متأخرة من ليل الخميس الواقع في 5 أيلول/ سبتمبر، أي قبل موعد الإنتخابات المقرّر أن تجرى في الجنوب يوم الأحد في الثامن من الشهر نفسه. كنت أنتظر نتيجة هذا اللقاء بتوجّس وقلق. واستمرّ انتظارنا عند الشيخ نعيم قاسم مع عدد من أعضاء المكتب السياسي حتى الساعات الأولى من صباح الخميس حيث أبلغنا أخيراً أنه تمّ التوافق بين حزب الله وحركة ((أمل)) على التحالف التام في المعركة القريبة(13).

 

نجح السوريون مرة أخرى في إقصاء كامل الأسعد عن مقعده النيابي الذي استمرّ يشغله على رأس كتلة تكون عادة من أكبر الكتل البرلمانية في المجالس النيابية المتعاقبة منذ 1953 ولمدة تقارب الأربعين عاماً، وكانوا قبل ذلك قد تمكنوا من إبعاده عن رئاسة المجلس النيابي بعد ضغوط هائلة مارسوها على أعضاء المجلس ومنهم الشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون.

 

في الأسبوع الأول من تشرين الأول/ نوفمبر 1984 وبعد موقف علني للرئيس السوري أبدى فيه رغبته بعدم التجديد للرئيس الأسعد وانقلاب الشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون عليه مسايرة لهذا الموقف بدا أن كامل الأسعد يصرّ بعناده المعروف على أن يخوض معركة خاسرة دون اكتراث بالنتائج أو مهادنة للظروف ومراعاة لموازين القوى.

 

في الأسبوع الأخير من رئاسة كامل الأسعد للمجلس النيابي قمت بناء على دعوة ملحة وطارئة من المحيطين به بمحاولة إقناعه بالتجاوب مع وساطة يقوم بها وجهاء من عائلة سورية كريمة وصديقة هي أسرة ((خير بك)) والتي تربطها بالرئيس الأسعد وعائلته وشائج صداقة متوارثة وقديمة كما أن لها في الوقت نفسه إحتراماً وإعتباراً عند الرئيس السوري وباقي أركان النظام. ترمي إلى ترطيب الأجواء المشحونة لتأمين إعادة إنتخابه رئيساً لولاية جديدة مقابل أن يقوم بزيارة دمشق ومقابلة الرئيس قبل يوم الثلاثاء المحدد للإنتخابات، وهو يرفض ذلك. وبدا لي بعد محاولات شاقة ومضنية أنني وفقت في إقناعه بصيغة ترضي مختلف الأطراف وتقضي بأن يقوم بزيارة ضريح السيدة والدته في مقام السيدة زينب ويلبي في الوقت نفسه دعوة رسمية يتلقاها أثناء وجوده هناك. وخرجت أزف البشرى لجماعته القلقين في مكتبه في بدارو وللوسطاء المترقبين وعدت برفقتهم إلى غرفة الرئيس للإتفاق على الترتيبات العملية للإقتراح الذي حسبت لبرهة أنه حقق الغاية وحظي بموافقة الجميع، إلا أننا خرجنا من إجتماعنا محبطين بعد أن أصر على توقيت الزيارة الخاصة بعد الإنتخابات لا قبلها. وهكذا أصر على خسارة منصبه من أجل فرق يوم واحد في التوقيت ولا سيما أن النتيجة كانت محسومة ومعروفة بعد أن أعلن شمعون والجميّل عدم تأييده مما أدى يومها إلى إنسحاب أدمون رزق ولويس أبو شرف من حزب الكتائب كما هو معروف وشائع.

 

وكان في كل زياراته السابقة، وهي معدودة، يرفض أن يقابل أحداً من المسؤولين السوريين غير الرئيس الأسد. وكم أحرج موفديه إلى دمشق في أوقات الأزمات عندما كان يلزمهم بإبلاغ مفاوضيه بأنه يشترط لتلبية دعوة الرئيس السوري إلى زيارته في دمشق الإقتصار على مقابلته شخصياً من دون أن يقابل نائب الاسد عبدالحليم خدام أو غيره من المسؤولين السوريين كما جرت عادة السياسيين اللبنانيين الآخرين.

 

في 8 أيار/ مايو 1976 انتخب المجلس النيابي اللبناني المنعقد في فندق ((شتورا بارك)) بسبب الظروف الأمنية إلياس سركيس رئيساً للجمهورية وغادر رئيسه كامل الأسعد عقب إنتهاء الجلسة الفندق محاطاً ببعض النواب والموظفين، ولما وصل إلى المدخل الرئيسي فوجئ بالعقيد محمد غانم، وكان حينها مسؤول أمن القوات السورية في لبنان يقترب منه مصافحاً في الوقت الذي قام بعض المصورين المرافقين له بالتقاط الصور.

 

رفض الرئيس الأسعد مصافحة اليد الممدودة وأمر حرسه بتوقيف المصورين واقترب منهم هو شخصياً فانتزع الكاميرات وحطّمها ثم قفل إلى الداخل راجعاً وهو في أشد حالات الثورة والغضب، والتفت إلى الضابط اللبناني المكلّف بحراسة المكان وهو العميد الركن في الجيش اللبناني ت.ع. وأمره بمنع أي كان من الدخول لأن هناك خطة مبيتة لإظهار الجلسة التاريخية وكأنها انعقدت بإشراف ورعاية خارجيتين على الرغم من ان عدد الجنود اللبنانيين الحاضرين تحت إمرة العميد المذكور لم يكن يتجاوز الثلاثين عسكرياً. وقد اتخذ الجميع مواقع قتالية في انتظار هجوم تأديبي أو إنتقامي لم يحصل أبداً.