كان ذلك في زمن ليس بالبعيد، بيروت تغلي في المقاهي والمسارح والصحف، في تظاهرات العمال وأصوات النقابات، شعر يأتي من النُّخبة، شعر يأتي من الطبقات الكادحة، شعراء يقصدون تلك الصحف المتخندقة من اليسار إلى اليمين، يعرضون بضاعتهم بما فيها من الغثّ والسمين، تظهر أسماؤهم تباعاً فوق صفحات الملاحق الثقافية، يبزغُ نجم هنا، وتنطفئ نجمة هناك، ويسلّم الجيل السابق النار العظيمة للجيل اللاحق. لم يكن الفيسبوك قد ظهر بعد، وولّى ذلك الزمان بحُلوه ومرّه. شعراء اليوم لا يقصدون الجريدة، وأرشيفهم وسجلّهم قد يكون حصراً على تلك الهواتف الصغيرة التي يدسّونها في جيوبهم، سؤال يفرض نفسه بقوّة كالذي طرحه عنترة في سالف الزمان «هل غادر الشعراء من متردّمِ»: من هم الشعراء العشرينيون في لبنان اليوم؟ هل ممكن أن ينقرض الشعر في المدينة التي كانت تسمّى يوماً بباريس الشرق، ولّادة الأفكار والنظريات الشعرية والقصائد؟ إنهم ثلّة من الشعراء العشرينيين، غامروا بالخروج من الفضاء الافتراضي إلى العالم الحقيقي، وهذه أسماؤهم: محمود وهبة (١٩٩٦)، بهاء إيعالي (١٩٩٥)، زنوبيا ظاهر (١٩٩٥) وباسل الأمين (١٩٩٥)، تركنا الكلام معهم يسير على رُسُلِه، دون قوامة أو وصاية، وتجرّدنا من منطق جيل الرواد وجيل الهواة، فقد كتب رامبو إشراقاته وكان أصغر منهم بقليل، وسمّي طَرفة بـ «الغلام القتيل». فتحوا قلوبهم لـ «كلمات»، نظّروا وتكلموا عن ذكرياتهم وما أصابهم من لوثة الشعر، ثم اختاروا لنا شيئاً من مجموعاتهم التي ستكون الفاكهة الشعرية لمعرض بيروت وقدموا للقرّاء ما يشبه بطاقة للتعارف.
بهاء إيعالي: «الضوء آخر عصفور في السماء» ـ دار دلمون
على عكس معظم الشعراء، علاقتي بالشعر غير حميمة، فأنا ابن بلدة ببنين الشمالية وُلدت في عائلةٍ ذات ثقافةٍ عاديّة، من أبٍ عاملٍ بسيطٍ وأمٍّ ربّة منزل، بدأت قراءاتي في فترة الطفولة ولم تتعدَّ كتب المدرسة وما يُطلَبُ مني من قصص للمطالعة. أمّا الشعر، ففي صغري لم أكن أعي ماهيته جيّداً، كنت أعتقد أنّه محض استظهارٍ لا أكثر، فشغلي الشاغل في ذاك الوقت كان السرد والتاريخ (ما زال كذلك)، وقد تعرّفت على الشعر فعلاً مع بداية عامي الثاني عشر حيث حفظتُ بعض القصائد للمدرسة، لتبدأ قراءاتي الجديّة في الشعر وتبدأ تجربتي نظماً ومحاكاةً، ثمّ كتابةً.
أستاذي في معهد الفنون قال لي: «اقرأ أكثر مما تكتب وكن صادقاً في ما تكتب» (قسوته علّمتني كثيراً)، بعدها تعرفت إلى الشاعر فوزي يمّين الذي لم يبخل عليّ بالنُّصح حتى هذا اليوم، ومعه تعرفت على الشاعرَين طالب ومحمد شحادة اللذين شكّلت معهما نوعاً من الميليشيا الثقافية المصغّرة. هكذا كانت مسيرتي باختصار مع الذي أكتبه ويقال عنه شعراً، فأنا لا أعتقد أنّي سأكون مكرّساً فقط للشعر لأني أحاول أن أجرب في القصة القصيرة والترجمة.
تجربتي قصيرة ومن الصعب الحكم عليها، لكن عُزلتي هي التي وضعَت لها الطريق، وقراءاتي غير مؤطّرة رغم طغيان التاريخ والميثولوجيا عليها، لكنّني أنوّع دائماً وأسعى لتخطّي المعرفة المقروءة فقط (سينما، وثائقيات، مسرح…). أكثر ما يمتعني هو البحث في الأشياء المجهولة.
أعيش في منزلٍ منعزلٍ في منطقة شبه نائية. رغم أنّ هذه العزلة جعلتني مجهولاً نوعاً ما، إلا أنّها ساهمت في نموّ تجربتي إغناء معرفتي. كما أنّني ومن سقف غرفتي أراقب المشهد الثقافي وأطلق مواقفي بين الحين والآخر، بالرغم من قسوتها غير أنّها صادقة حقيقةً، أنا أكتب لنفسي أولاً والباقي يأتي تباعاً؛ إميلي ديكنسون التي لم تنشر سوى بضع قصائد في حياتها عُثر بعد موتها على مخطوطها الكامل الذي حوى حوالى ألف قصيدة، هي اليوم تعدّ من روّاد الشعر الأميركي.
في الختام سأقول للشاعر الذي سيأتي بعدي «اقرأ بنهمٍ واكتب بصدق»، وألا يلتفت لمديح أحد أيّاً كان، بل ليستمع إلى الصادق معه ولو كان قاسياً، فالمداعبة لن تجعل من الجدر لوحة لكنّ الإزميل يفعل ذلك.
من «كتاب الموت»:
1-
الكلامُ الذي يتقيّؤه روّادُ المقاهي غيرُ صالحٍ لزراعةِ الوقتِ
غيرُ صالحٍ لتحنيطِ الموتِ ليتوقّفَ عن مطاردةِ فرائسهِ؛
المقاهي، بيوتُ دعارةٍ خاليةٍ منَ الأسرَّة
يدخلُها كلُّ الذينَ لا يفكّرونَ إلا بتبديدِ الحياةِ.
2-
نسيتُ وردتيَ البيضاءَ على الشرفةِ
فخاصمتني أمّي لأنني تسرّعتُ
أخبرتني «لا شيء يشبهُ هدوءَك وأنت تنتظرُ عزرائيلَ»
أمي؛ الموتُ فمٌ مفتوحٌ أحبَّهُ الأحياءُ رغمَ قذارتِه
في أشلائِهِ أغصانُ شجرةٍ منتحرةٍ
لم تفكّر أنَّ الشتاءَ أتى.
3-
علاقةُ الموتى معَ الحيواناتِ أجملُ مِن علاقتِهِم معَنا
يكفي أنّهم يجيدُونَ اللغةَ نفسَها.
4-
أنا أحبُّ الموتَ الذي يلعبُ قربي كالقططِ الأليفةِ
ليخطفَ خرمشةً خفيفةً بينَ أصابِعي
خلالَ ما يحدُثُ
يمكنُ لكُم أن تُشاهدوا كيفَ أنَّ الموتَ شيءٌ جميلٌ
ربّما قَد تكونُ المرّةَ الوحيدةَ
التي يبدو فيها كذلك.
5-
أخي تذكّرَ الموتَ كثيراً ذاكَ اليوم
يردّدُ طيلةَ الوقتِ
(كلّ نفسٍ ذائقةُ الموت)
معقّباً
(أينما تكونوا يدرككُمُ الموت ولو كنتُم في بروجٍ مشيّدة)
ويسألني:
ماذا لو كنّا في الموتِ نفسه؟
6-
أبحثُ في صوري القديمةِ عَن مشاهدَ ميتَةٍ
أعثرُ على مصطبَةِ جدّتي التي دمَّرتها كثرةُ القفزِ فوقَها
تغطِّي جسدَها بلحافٍ
لئلا تتّسِخَ ثيابي؛
أعثرُ على شجرةِ ليمونٍ تكالبَ فتيةُ الحيّ على سرقتِها
حتّى باتت كأفاعٍ محنّطةٍ
لا تنصتُ لرعبِ الأطفالِ؛
الآنَ
أبدّدُ ذاكرتي بينَ كومِ الحجارةِ المتبقيةِ مِنَ المصطبةِ
والأغصانِ السوداءِ المتكسّرةِ فوقَ الترابِ
أتيبّسُ أمامَهُما
حولي وجهُ جدّتيَ التي لَم أجِد قبرَها
ووجوه فتيةِ الحيِّ التي تغيّرَت كثيراً
الفتيةُ الذين تغيروا كثيراً.
باسل الأمين: «في العشرين نتكلم كثيراً» ــ دار النهضة العربية
في مثل هذه الأيّام منذ سنتين، توفي شاعرٌ صامتٌ أحبّه. رضوان الذي لم يدمع إلّا في السر. كتب كثيراً من الأصدقاء والكؤوس والمقاهي وكتب شوارع بيروت شارعاً شارعاً. كتب العديد من الابتسامات ولم يؤلّف غير الصدق وبعض دعابات عن زين. ألّف فرحاً في كركاس. ألّف دمعتين على قبر والديه في شقراء. ألّف أشجاراً فرحَة في الصوّانة ومكائد مع شبيب الذي إذا سألته عن أحلى مؤلفات رضوان لأجاب: إنه كان يؤلف موتاً رحيماً ونهاية تليق بشاعر أخرس.
أنا لا أعرف كيف أكون صامتاً. الصمت يذكّرني أني خلال أيّام المدرسة كنت أغيّب أذنيّ، أتركهما في المنزل لكي أرسم في كلّ يومٍ أحلاماً جديدة على طاولتي في الصف. لكي لا ينتهي بي الحال مثل فان غوخ، أقطع أذني وأعطيها لعاملة النظافة الثرثارة لتحكي معها. عاملة النظافة كانت تمسح أحلامي. أحياناً كان يصعب عليها مسحها، لأن أحلامي أكبر من أن تُمحى بخرقةٍ بالية ومياه المرحاض.
حملت معي صمتاً كبيراً. كنت ثائراً وعاجزاً. وشاعراً أخرس مثل عمّي. العزيز رضوان، رحل قبل أن يرى كيف أنّي كتبت في مكانٍ خفيّ مثل صديقه شارل، أن آلامي بدأت.
لو كان موجوداً حينها لألقى دعابةً. لخرج عن صمته. لصرخ غاضباً «طز في هذه الدولة». لم يرَ أحدٌ كيف أني كتبت وحدتي في أماكن كثيرة، وكيف أن الصمت كان يزيد تباعاً. «الحيطان دفاتر المجانين» كتبتها على حائطٍ في بيروت. سيلٌ من الشتائم كتبتها على حائط افتراضي. أنا ابن خطّاطٍ جميل. لذا أعطتني الحياة أقلام تلوين، ويداً طائعة للرسم. أعطتني قلباً هزيلاً، لكنه شجاع بما يكفي، لتوليف الكلام. هذا قلب بطلٍ صغير:
لم يكن هنالك وحشٌ أسفل السرير
ليحكي عن أقلام التلوين
ولوحةٍ صغيرة لبطلٍ صغير
لم يكن هنالك ساحات قتال كافية
لكي يَهزم حرّاس القلاع أحلامي
القبضة الحديدية التي شاهدناها في التلفزيون
كانت غصناً حديديّاً يلفّ قبضتي
كان باستطاعتي أن أحرّك الغيوم
كالطفل الذي يخرج من المغارة
ليحكي، ليُرفع على الأكتاف
هذا الصغير خرج بأحلى أحلامه
بأن يكون أشقرَ وسيماً
أو بطلاً يرتدي التوكسيدو
ولكن لم يخرج ستيفن سيغال من تلك البوّابة
بل خرج وحشاً من تحت السرير
يبحث هارباً عن أقلامه.
كتبتُ لأدونيس على حائط غرفتي، لرياض الصالح الحسين. والآن أكتب كل صمتي. أكتب كأنني أقف على مسرحٍ كبير، أرتدي وحدتي وأصرخ في وجه الذين مسحوا أحلامي عن الطاولة، في وجه العالم. أكتب كما لو أن الماغوط أخذ بيدي إلى طفولتي، لتكون كلّ ذكرياتي نثراً هائماً على الجدران أينما أكون. كنت أخاطب العالم بقلبٍ خفيف. علمت كيف يتحول الفزع إلى قصيدة. كيف أن الحب يكون أكثر الكلام معنىً وأن قلبي أكبر من هذا العالم:
أنا وحين أفكر ماذا أهديت هذا العالم
ينتابني شعورٌ سيّئ في معدتي
وكأني أزعجت عفريتاً صغيراً يسكن هناك
تتخدّر يداي كلحظة قدت فيها درّاجتي بفزع
هذا خوف خالص
يريد مني أن لا أتذكر عدد المرات
التي غفت فيها فتياتٌ على يدي
وعدد المرّات التي كنت أشتاق فيها
أو تلك الأيّام التي وددت أن أقول فيها «وجهكِ نور العالم»
وإذا رجعتُ ولداً كسولاً في المدرسة
وسُئلت عن مغزى حياتي
لوقفت على الطاولة
وأشرت بإصبعي إلى قلبي
وقلت: «حياتي أعطيتها شوقاً كبيراً
والشوق هو أكبر عطاء
وقلبي أكبر من هذا العالم».
لم أجد تعبيري عن كلامي الكثير إلّا في قصيدة النثر. إلّا في الحرية. فعندما قال أنسي: وحدكِ يا حرية تخترعين لي الحياة كلما انتهت، كان يعني الحرية في كل شيء. حرية الكتابة أيضاً، التي ستسمح لنا لاحقاً أن نسمي تلك الجملة شِعراً خالصاً.
محمود وهبة: «غلام يطارد مجرة» ــ دار النهضة العربية
أنا أعيش على هذه البقعة من الأرض التي تسمى الجنوب اللبناني، في فضاء من اللغة والفن. درستُ الصحافة في الجامعة اللبنانية وأتابع دراستي في اختصاص العلوم الاجتماعية. المفارقة الكبرى أني رجل أمن، إذ أعمل في قوى الأمن الداخلي. مجموعة من العوامل والقيود والحريات تمّ عجنُها وخلطها كي تُنبتَ كائناً شعرياً لغوياً يحيا ويقتات من تناقض المشاعر والمواقف ويعبّر بالقصيدة عن إشكاليات الحياة والوجود.
حين فكّرتُ في نشر «غلام يطارد مجرة»، كان لدي هاجس وحيد هو التخلّص من مجموعة قصائد مكتوبة. التخلص منها ومن ثقلها كما يتخلّص الجسد من الجنين بعد تسعة أشهر من الحمل. هي قصائد كُتِبت في فترات زمنية مختلفة وفي حالات نفسيّة مختلفة أيضاً، محاوِلةً خلق واقع أجمل بالكلمات في ظل ما نعيشه اليوم من أزمات وحروب وخراب مستمر لم يبقَ لنا إلا الكلمات ملجأ وحضناً وملاذاً ننتصرُ به على ما تراكم فوقنا من آلام وانكسارات. مجموعة «غلامٌ يطاردُ مجرة» النثرية تشبهني إلى حدٍّ كبير وتشبه حياتي وتفاصيلها، بل هي قرينة هذا العصر وهذا الوقت الأرعن. لا أعرف تماماً لماذا أكتب الشعر، أعتقد أنني لو عرفت الجواب على هذا السؤال الملغز، سأتوقف عن الكتابة. من يكتب الشعر هو الأنا الموجودة في داخلي أو ما نسميه اللاوعي. وبالنسبة لي أيضاً من تعريفات الشعر عندي هو السؤال. الشعر يعني السؤال الدائم والحيرة. وبالتالي إنّ حضور الجواب يعني أن لا داعي للكتابة. أنا شاعر عشريني، أحب تسمية شعراء العشرين لأنها تذكرني بالعمر وتجعلني أبتسم وأضحك. لا يعنيني العمر بمقدار ما تعني التجربة. التصنيف في الشعر هو فخّ استُعمل للتعويض عن فقدان الحياة الشعرية المنظّمة كما حصل في الغرب من مدارس وعمارات نقدية شعرية وفنية. الشاعر بحد ذاته هو حالة شعرية تُدرَس وتُناقش وتُحلّل. أكتب لأن لدي ما أقوله ولا أتردد في قوله. وأيضاً لأنني في رحلة البحث عن العلاج. أجتهد وأبحث وأحاول كل يوم الوصول إلى برّ الأمان. ألا وهو الصمت.
• فانتازيا (نصوص في النّزق والحيرة)
– هكذا
عينان فارغتان
وظلّ أسودُ داكنٌ
سائق تاكسي لا يعرفُ شوارع المدينة
خيمة تتمزّق فوق رأسي
عكازتان
حانة قديمة لصديقي فلوبير
ديوان شعر لابن الرّومي
هكذا
هديّة منتهية الصلاحيّة من بابا نويل
كأسُ نبيذ فاسد لونه أخضر
رائحة القهوة المطعّمة بالتّرمس
Piscine فارغٌ في حرّ الصيف
هكذا هي حياتي
«هذيان».
– ثمة أسئلةٌ لا تراها
رجلٌ يحملُ مظلّة فوق رأسه
يدخلُ المتاهات عنوةً
لا لشيء
لأنه أحمق.
كان إلهي رجلاً واشياً
يمارسُ السّلطة ويلعبُ الشطرنج.
قبرٌ لي وآخر لكَ
قالت الحسناءْ
وشيء من غضب السّماءِ الفسيحة.
هَبْ أنّ قلبي قالبُ حلوى
لا طعم لهُ
لا لونْ
مزاج، أخيلة، طرقات، شرفات
تووووووووت
لا وقت للعبورْ.
– أرجعتُ أشيائي إلى أماكنها
قلبي إلى قفصه الصّدريّ
نقطة الدّم إلى شريانيَ الأبهر
رافقتُ زوجتي إلى حتفها
ألقي التّحية على الحضور
أرسم موتي على جدران شارع الحمراء
أخرجُ صورتي من ذاكرة الآخرين
أمسحُها…
Delete
– تنزفُ السّمكة دمها
ملء قلبها الفاني
للسّلالم أدراج كثيرة
ها أنتَ الآن هنا
أبحْ قلبكَ للتّرابْ
تناثرْ كغيمةٍ في
دهليزْ
ثمّ ابتعد.
زنوبيا ظاهر: «آخر العنقود يسقط أولاً» ــ دار النهضة العربية
* :أفكّر بأن أوغل عميقاً في فلسفة الشعر، لا أعلم كيف، لكنّني بعد أن أصدرتُ مجموعتي الشعريّة الأولى، شعرتُ بأنّني لن أتوقّف هنا، شيءٌ هنا قال لي إنّ «الهواة لا يكتبون عن عشيقٍ هو الله.. عن انسكابه كالريح في آخر الدهشات».
لم أبدأ الشعر يوماً، لم أبدأ به بعد. كل ما في الأمر أنني دائماً أنتظر قدوم الأشياء التي لا تصل. القصيدة عندي لا تصل، ولكنها جسد أتخيله قبل أن يصبح حقيقياً. هي في مكانِها وأنا أنتظرها. وُلدتُ لأكتب. هناك في الذاكرة، في ذاكرتي، ما يدعوني لالتقاط ما يدور الآن. رأيت مرة فراشة حين كنت طفلة، إن رأيتُها الآن سأكتب عنها كما كانت حينها، مأسورة وحُرّة. لن أقول شيئاً عن المرأة التي هي أنا، لأنني اكتفيتُ منها في مجموعتي «آخر العنقود يسقط أولاً»، فأنا الآن امرأة أخرى. هذا ما أسعى إليه، التحولات. اللغة عندي لا تُصفّ، بل تَستدرِج الخارج إلى الذات. ما يحدث من آلام ورياح ورجال ونساء وأشجار وقطط، هي أشياء تحدث فعلاً في داخلي ولكن بمزاجيتي. سأقول لكم شيئاً: حين أرى النجوم، أعرف ما تقوله الجنية: «ابتعدي». أحياناً أمشي وأهذي، وحيدة، وأسأل هل هذا هو الشعر؟ أفكر الآن، بأن العالم له جسم، وأنه يرحل بقدمين باردتين إلى الموت. لذا يداي حين أكتب تحاولان الرحيل مع هذا العالم. لا أسعى أبداً إلى دعوته للبقاء ولا أناضل من أجل ذلك، بل أتركه وحيداً.
العناصر عندي هي صوت هذا العالم. للريح مثلاً كما أراها صراخ، للبيت صمت، للذئاب صورة. الصمت، الصراخ، الصورة، ما يجعلني أحلم. وأعيد السؤال لأجيب: الشعر عندي مشهد بين الحلم والكابوس كلاهما لا يستطيع محو الآخر.
تأثرت بشعراء كثر، منهم من يخيفني، ومنهم من أحبّ. لست حداثية، أو كلاسيكية. أكثر ما يجذبني أن الله خلق شيئاً غامضاً، وأنا أدور حوله. قلقي أنني وحيدة في هذا الدوران.
الأشياء تنكشف دائماً لي، لكي أبتعد. لدي مزاجٌ صوفي في بعض الأحيان، فاحشٌ برّيّ في أحيان أخرى، والوجهان متشابهان، فالدوران حول الألوهة يتحوّل أحياناً إلى «مشهدٍ مكتملٍ للخيانة». إلى تخلٍّ مطلق يقول بتجلّي امرأة الغابة فيّ، كما الإلهة: «ستجلسُ مكانه الريح
لن تنتظر
فذئبة اللذّة سائل لعابها في بهو هذا الخراب»
أبحث في الحاضر عن النساء الشاعرات. لماذا هنّ قلة؟ ما الذي يبقيهن دون البوح؟ تستهويني العلاقة بين الشعر والجنون. الجنون الذي يصل إلى حدِّ الانفصال عن كلّ ما هو واقعيّ. لذا أشرد كثيراً.
ما أريد أن يصل للقارئ هو أن يتخيّل معي ما لا أريد. يستفزني ذلك، لأكتب أكثر. لا أبحث عن القارئ المثقف، بل عن القارئ الشاعري. ذلك الذي يحب المخيلة، أحاول دائماً أن أستفزه لكي يدخل في أعماق نفسه. لا يهمني من يدخل في أعماقي.
السينما والكتاب والفن، والموسيقى، أشباح. أراهم بشكل شبحي. أستعيد بهم أمواتي وأكلّمهم من خلالها. عندما أشاهد فيلماً أو أسمع الموسيقى، أستعيد معها كائناتي التي ماتت وعادت إلى الحياة. لا أحب الرسم، لأنه لا يشبهني، هو يجذب فيّ الوضوح.
زرعوا فينا الفطام
لننبت كالمعجزات في لحظات التخلّي
نحقّق أحلام الله المستحيلة
«لا تتشبّث بالريح الغريبة يا بُنيّ
واسقُط واقفًا أينما بصقتك»
تقولُ العتمة
باردةً
كأنّها بصراخها حين أنجبَتك
لفظَتك
ولأنّك لقيط المستحيل
تطاردُكَ لعنة البيوت الفارغة
تتأوّهُ في سرّكَ العميقِ إذ تعاقر غبارها
تنجِبُ تماثيلك
ترضعُها بكاءً إلى الأبد
العرائشُ اليابسةُ تعيد نصبَ الفخّ الأوّل للذاكرة
وغرابٌ ينعقُ في بهوِ طفولتكَ
ad
يضيء لكَ الطريق إلى الريحِ:
تسلّق.
وأنتَ ببنيتِكَ الضئيلة
بأيّامك الباقية الكثيرةِ
تخافُ تفاقُمَ غربتِكَ إن أبعدَك بساطُك إلى الآتي
تظنّ أنّ الغربةَ قدرُ الكبار
لكنّكَ لا تعلمُ
أنّك خفيفٌ بقدرِ الريح
وأبديٌ بما يُغري فانتازيا اللهِ
وأمّكَ العتمة.