تحت السّماء العاملية المنذورة للعشق والنور، وفي الحديقة المتواضعة رغم روحها الباسقة من رائحة التراب المهيب؛ كنّا تناولنا طعام الغداء، السيّد مهدي الأمين والشاعر عباس عيّاد وأنا.. وما هي إلّا دقائق إلّا وقد حضر الشاي المُخمَّر على الأصالة في التقاليد العاملية، لكنّنا تأدّبًا لم نرتشف عقيقه حتى يحضر السيّد، انتظرناه لدقائق، وكأن الوقت كان ينتظره أيضًا، وعلى أهبة اللقاء؛ حضر السيّد، أطلّ ببسمته المرحبة،
لم يكن يمشي على الأرض بقدر ما كان يتحرّك في عيوننا المتأهبة، ويا لعذوبة صوته الذي بدا كنشيد مقامٍ قد غادر حاله للتو..
هُيامٌ في عينيه، وفي صوته بحّة الفضّة إذا ما أذابها الوهج، أو قلْ تناوب الشعر على أرصفة الريح بين الأنفاس. لم ينتهِ من الترحيب حتى وهو يقرأ من ديوانه الذي كان يعده للنشر، فبين البيت والبيت والقصيدة والقصيدة كان يعاود الترحيب فرِحًا بشوشًا، حتى قال:
“ذكرني كيف حفظت الكثير من أبيات قصيدتي في رثاء الجواهري وأنا ألقيها لأوّل مرّة..؟”،
قلت: “سيدنا، إنّه الحبّ”، قال: “إذًا يكفي، لكنّني أحبُّ أن أسمع منك مجددًا ما حفظت يومها”،
فنويتُ شعره الذي أحب، وأعدت عليه، وكانت هذه المرة الثالثة التي يطلب مني هذا الأمر – كما في لقاءات سابقة-،
فزاد فرحه وعمّت بشاشته، وفعلًا كنت أرى نجوم الظهر والعصر والشعر والوقت في محياه، فأمعنتُ كل حواسي لالتقاط تلك البشاشة،
فوجدتني محتفظًا بها فيما سبق من لقاءات، لكن هذه المرّة غمرني الحزن عندما وقع في نفسي أنّه سيكون آخر لقاء.
توفي الصديق العزيز، والشاعر المُحب، والمفكر الحصيف، توفي الجميل حتى بالاختلاف بقيتُ أتابع
مراحل إعداد ديوانه الشعري للنشر مع نجله السيّد مهدي، إلى أن مرِض السيد،
وجاء سبت العاشر من نيسان لعام 2021 الواقع فيه حزننا، لقد توفي العلّامة السيّد محمد حسن الأمين،
توفي الصديق العزيز، والشاعر المُحب، والمفكر الحصيف، توفي الجميل حتى بالاختلاف،
بل وحتى بالخلاف كم كان جميلًا وكبيرًا..! بفقد العلّامة السيّد محمد حسن الأمين فقدت الأرض واحدًا من أجمل بستانيها المتنوعة فكرًا تنويريًا، وأدبًا ثوريًا، وشعرًا أصيلًا، فقدت الأرض مقاومًا استثنائيًا عندما وقف في وجه الصهاينة في صيدا وحيدًا عام 1982،
حيث كان بيته مقرًا سريًا لقوى المقاومة، وملجأ للكثير من المقاومين ومنهم الشهيد الشيخ راغب حرب، لم يهادن السيّد وقتها، ولم يهدأ، بل بقي حتى آخر ساعة له في صيدا شعلة للمقاومة وكهفًا للمقاومين؛ ممّا اضطر الصهاينة لإبعاده إلى بيروت، حيث استمر
بما بدأه في صيدا مقاومًا للعدو بما استطاع بلا هوادة. الموتُ ليس انحناءً.. إنّه سفرٌ أبهى.. وبرقٌ وراء العمرِ مدخّرُ الموتُ موجة سحرٍ.. وارتحال دمٍ في دهشةٍ بفقد السيّد محمد حسن الأمين فقدت الأرض سيدًا نبيلًا من ساداتها، وفقدنا أرضًا خصبة في زمن عقيم،
وأنا فقدتُ الاستثناء النضير.. وحسب السيّد خلودًا قوله: الموتُ ليس انحناءً.. إنّه سفرٌ أبهى.. وبرقٌ وراء العمرِ مدخّرُ الموتُ موجة سحرٍ.. وارتحال دمٍ في دهشةٍ.. ومدى بالحلم يبتكرُ وقامة لك راح الضوءُ ينقشها فوق الخلود.. فيجلوها وينكسرُ كذا إذا انحسرَ العمرُ
ابتدأت كما لو أنّه حين يخبو يبدأ العمرُ والمبدعونَ مناياهم تضاعفهم فكلّما قلّ من أعمارهم كثروا وكلّما مالَ نجمُ العمرِ وانحدرت عن قوسهِ وردة الحلم التي حصروا تسرّبوا من شقوقِ الأرضِ واطّردوا فيها.. فهم غبروا عنها وما غبروا. *الشاعر والناشر محمد حسين بزي*