من منّا لا يذكر تلك العبارة الشهيرة التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير #محمد بن سلمان ضمن فعاليات مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار 2018” والذي يُطلق عليه أيضًا تسمية “دافوس الصحراء”، قائلاً: “أنا أعتقد أن أوروبا الجديدة هي #الشرق الأوسط (…)”، مضيفًا: “هذه حربي التي أقودها ولا أريد أن أفارق الحياة إلا وأنا أرى الشرق الأوسط مثل أوروبا”.
حينها بدا وكأن الرجل يبالغ قليلاً في تفاؤله لمستقبل المنطقة، لكن الآن وفيما بات العالم برمّته على أعتاب مرحلة جديدة فرضتها الأزمة الأوكرانية الحالية، ووسط كلام عن نهاية شبه حتمية لاتحاد الأوروبيين. لا بد من طرح مجموعة أسئلة أبرزها:
هل تتحقق فعلاً رؤية الأمير؟ وهل نرى أوروبا في ديار العرب؟
وأي دور عربي في العالم الجديد؟
قبل البدء بالإجابة على هذه الأسئلة لا بد أن نكون واقعيين، والحديث هنا ينطوي على ما استُجد من معطيات وبالاستناد الى الخطة التي تمضي بها دول المنطقة، فضلاً عمّا يُعرف بحركة التاريخ التي تفترض أن لا عزّ يدوم لأحد، وأن سمات العالم التغيير. ولعلّ الشيء الوحيد الثابت في هذه الحياة هو التغيّر والتغيير المتواصليْن. وها قد بدأ ومن هنا البداية.
لقد بات جليًّا للقاصي والداني أن النظام العالمي يُعاد تشكيله للمرة الثالثة، بدءًا بكارثة الحرب العالمية الثانية وتكريس مفهوم “الثنائية القطبية” طيلة أربعة عقود خلت، حيث تزعّمه كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، والذي تحوّل بعدئذ في أعقاب انتهاء الحرب الباردة إلى “الأحادية القطبية”، حيث تسيّدت أميركا العالم، لكن سرعان ما عاد إلى ثنائيته هذه إثر نهوض التنين الصيني العظيم، والآن وبعد اندلاع الحرب الأوكرانية، عاد ليصبح “متعدّد الأقطاب” بعد دخول روسيا إلى مثلث القمة من جديد.
بيد أن هذا المثلث قد يصبح مربّعًا وربما أكبر، حيث باتت أبواب القمة مفتوحة والفرصة متاحة للجميع. ومن بين الجميع يبرز هنا العرب أو جزء منهم وعن دورهم في العالم الذي يُعاد تشكيله.
فعلى غرار تجمعات عدة شهدها العالم كالاتحاد الأوروبي و”ميركسور” و”أسيان” التي دخلت جميعها بمنافسة محمومة للبحث عن مقعد بين الكبار. إذ تشهد المنطقة العربية تغيّرات وتشكيلات مشابهة قد تضمن لها مقعدًا هي الأخرى، خصوصًا في ظل ما بات يتردد عن بداية النهاية، إذا جاز التعبير، لاتحاد الأوروبيين، سيّما عقب رصاصة الرحمة الأخيرة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عليهم، والتي أظهرت تصاعد الخلافات بين قطبَي القارة العجوز، فرنسا وألمانيا، ناهيك عن المشكلات العديدة التي تعصف بدول الاتحاد أبرزها أزمة الطاقة، والمهاجرين، وتراجع أعداد الأيادي العاملة، فضلاً عن مشاكل اجتماعية أخرى على غرار تراجع أعداد المواليد الجدد مقارنة بأعداد الوفيات، بالإضافة إلى المجتمع المسنّ الذي يتشكّل على حساب الشباب، وبروز الروح القومية العنصرية أو ما يُعرف بـ”النازية الجديدة” لكل بلد على حدة، ما يشي بتمزّق القارة الأوروبية.
يدور حاليًا جدل واسع حول نهاية شبه مؤكدة لهذا الاتحاد الذي اشتد عوده عقب انهيار الاتحاد السوفياتي ولا بد من البحث عن بديل له. والمقصود بالبديل هنا تجمّع لدول، كما حصل في أوروبا، يتمتع باقتصاد قوي ينتج عنه قرار سياسي موحّد.
ولعلّ هذا ما بدا أن أشخاصًا وقادةً في المنطقة يسعون إليه. والحقيقة أن كثيرين في العالم تنبّهوا لهذه الفكرة وسعوا إليها وينتظرون دورهم. ومن بين هذه الدول التي سعت للتجميع بحثًا عن القوة كانت دول أميركا الجنوبية التي توحّدت تحت مظلة ما يعرف بتكتل “ميركوسور” MERCOSUR للتعاون الاقتصادي والسياسي وذلك في العام 1991. وضم التكتل 15 دولة أصبحت الآن 14 بعد سحب عضوية فنزويلا. وكان هذا التكتل يعقد الآمال على صناعة أوروبا جديدة في أميركا الجنوبية، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن.
كذلك الحال ينسحب على تجمّع “أسيان” ASEAN الذي تأسس عام 1967 وضم دول جنوب شرق آسيا وتحديدًا عشر دول منها اندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي وفيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا. وهذا التجمع تمكّن من النهوض بكثير من أعضائه، إقتصاديًا وسياسيًا، وهو مرشح بقوة لخلافة الأوروبيين عقب انتهاء صلاحيتهم.
الأمر نفسه برزت ملامحه في القارة السمراء إفريقيا إثر انطلاق الاتحاد الإفريقي African Union في العام 1999، الذي كانت تُعقد عليه الآمال للنهوض بدول القارة، لكن حتى الآن لا بوادر في ذلك، في ظل عديد الحروب الأهلية والنزاعات التي تعصف بالقارة. لكنه يبقى محاولة من هذه الدول للبحث لها عن مقعد في العالم الجديد الذي فتحت قمته أبوابها للاعبين جدد، خصوصًا أنه عالم لا يعترف إلا بالقوة التي يتجلّى أحد مصادرها وربما أهمها بالاتحاد.
بناءً على ما تقدم، يقودنا الحديث هنا إلى أن العرب إذا ما أرادوا دورًا قادمًا يتوجّب عليهم البحث عن مظلّة تجمعهم. فهل تنبّهوا لهذه الفكرة؟
وكلمة الحق تُقال، إن العديد من القادة العرب أدركوا هذه الفكرة وبدؤوا بالعمل عليها. ف#السعودية والإمارات قادتا تحالف الدول الخليجية لرسم معالم منطقة جديدة، كما طُرحت بين جنبات مجلس التعاون الخليجي أكثر من مرة فكرة ضمّ دول أخرى للمجلس، إيماناً منهم بأهمية التعاون والاتحاد. كذلك الحال بالنسبة لمصر والأردن والعراق الذين أطلقوا مشروع شام جديد، علّه يكون بداية طريق جديدة نحو العالم المتجدّد.
وهنا يجب تسليط الضوء على خطوات عملية اتخذتها دول عربية عدة، تشير إلى وعيها لأهمية التواجد بالمستقبل. ذلك أنه عقب أحداث ما عرف بالربيع العربي بدا أن شعوب المنطقة تبحث عن التغيير، حيث سارعت بعض الأنظمة العربية إلى تلقّف هذه الرسالة، وأيقنت أن المستقبل لا مكان فيه لمن لا يستعد للتغيير، وسواء داخل الدول التي اندلعت فيها ثورات أو تلك التي ظلت أنظمتها مستمرة، سارع الجميع لانتهاج خطوات عملية. ولعلّ أكثر هذه الدول استجابة لتسارع الخطى كانت دول الخليج التي تمتلك مقوّمات أكثر من غيرها. فشهدنا انطلاق ما يشبه التحالف العسكري الذي تشكّل للحدً من توسّع إيران في اليمن. كذلك اجتمعت هذه الدول في أكثر من مناسبة للتصدي لتحديات المستقبل، الأمر الذي أنتج ما يشبه الرؤية السياسية الموحدة.
فعلى الرغم من التنافس الاقتصادي بين الإمارات والسعودية؛ إلا أن ملامح رؤية سياسية واحدة تجمع البلدين، وبرز ذلك من خلال التزام الموقف ذاته فيما يتعلق بأزمة أوكرانيا، فضلاً عن اختيارهما الانفتاح على أفق اقتصادي جديد على غرار انفتاح السعودية على الصين أو انفتاح البلدين على روسيا.
وقد سبق وأشرنا في بداية المقال الى إعلان ولي العهد السعودي عن حلمه صراحة بتحويل المنطقة إلى “أوروبا جديدة”. وهذا الأمر، وفق المعطيات، ليس من الاستحالة بمكان. إذ يتمتع الخليج العربي وجواره بمقومات عدة تؤهلهما لذلك، بدءًا من الموقع الجغرافي المتميز، مرورًا بطرق تجارية مهمة وأساسية تُشرف عليها هذه الدول، وصولاً إلى ثروات طبيعية ورؤى اقتصادية ناجحة مكّنت بعض هذه الدول من تحوّلها لملاذات اقتصادية جذّابة للاستثمار. ويرافق ذلك كلّه قوة عسكرية في طور التشكل، ذلك أن السعودية ومصر تمتلكان قوة عسكرية لا يستهان بها، بالإضافة إلى التأثير السياسي والنفوذ لباقي الدول وحتى مشروع سياسي موحّد يرى بالمنطقة تقاربًا اجتماعيًا وثقافيًا خاليًا من الطائفية والتعصّب.
وإذا ما تخيّلنا شكل المنطقة، كما في طرح الأمير السعودي، نجد مدنًا عربية مزدهرة بمعظمها والأخرى في طور الازدهار. والحديث هنا عن دبي وأبوظبي تلحقهما كل من الرياض وجدة ومدينة نيوم الجديدة، ناهيك عن المنامة والكويت ومسقط والدوحة. والقادمون أيضًا كالقاهرة التي بنت عاصمة إدارية جديدة استعدادًا للمستقبل، ومعهم عمان وحتى بغداد الطامعة بتحالف مع العرب بعيدًا من قبضة إيران. وإن بدا أن تنافسًا بين هذه المدن قد طفا على السطح؛ إلا أنه في الحقيقة من مصلحة الجميع. فهذا يخلق سوقًا كبيرة قادرة على استيعاب أي مشاريع تجارية واقتصادية قادمة.
ومن باب ضمان استقرار المنطقة سعت دول العرب لحلّ خلافات عدة مع دول الجوار كان أبرزها فتح الباب لأنقرة من جديد وحتى محاولة جذب دمشق من قبضة الإيرانيين وكذلك بيروت، على أمل أن يمهّد الاستقرار لدور قادم لهذه الدول بدت معالمه بالظهور، حتى وإن ظهرت في الوقت ذاته أنها ما زالت بعيدة بعض الشيء. لكن ما هو ثابت أن الفرصة قد حانت لمن أراد الظهور في ظل عالم يُعاد تشكيله من جديد. وفي ذلك فرصة للجميع حتى للذين لم يحلموا ببلوغ المجد. وفي الاتحاد قوة لمن أراد أن يسمع الرسالة.