ملف ترسيم الحدود البحرية يتابع فصوله في العام المقبل والاتفاق مع قبرص يسبقه آخر مع سوريا برعاية سياسية

لاشك في أنّ #ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل جنوباً شكّل بصيص أمل في آخر العام الجاري، بغضّ النظر عن التنازلات التي حرّكت المواقف الرافضة للترسيم، وبالرغم من أن لا ضامن لمقدار مخزون النفط الموجود في المنطقة. وبالتوازي، سُجّل ارتياح في الأسواق المالية أدّى إلى ضخّ كميّة من الدولارات في السوق، مما انعكس مزيداً من العرض لهذه العملة.
وكان المعهد ال#لبناني لدراسات السوق أشار إلى أن المصرف المركزي استحوذ على 418 مليون دولار خلال 30 يوماً، بالتزامن مع الأجواء الإيجابية التي رافقت ملفّ الترسيم، محافظاً على استقرار نسبيّ لسعر الصرف، بالتوازي مع زيادة احتياطيّ العملات الأجنبية إلى حدود 10 مليارات دولار.
في 12 كانون الأول الجاري، أعلن رئيس مجلس الإدارة، والمدير العام لشركة Energies Total، باتريك بوياني، أنّ “الشركة باشرت نشاطها للبدء بالاستكشاف في البلوك 9″، مرحّباً بالمفاجأة السّارّة التي شكّلها اتفاق ترسيم الحدود الذي تمّ إنجازه في نهاية شهر تشرين الأول الفائت.
وفنّد الخطوات التي ستتخذها الشركة خلال الفصلين الأولين من سنة 2023 لجهة التحضيرات اللوجستية وبناء القدرات البشرية لمواكبة عمليات الحفر والتنقيب.
العقدة الأصعب في ملف التنقيب عن النفط جنوباً تمّت حلحلتها بانتظار أن تباشر الشركة الفرنسية أعمالها التزاماً بوعدها. وتبقى عقدٌ أخرى لا تقلّ أهميّة عن الأولى، وتتعلّق بملف الترسيم مع كلٍّ من الجانبين القبرصي والسوري لإطلاق العمل بباقي البلوكات البحرية.
من المعلوم أن لبنان وقّع وقبرص اتفاقاً في العام 2007 حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، من دون تحديد إحداثيات نقطتي طرفَي هذا الخط بشكل نهائي؛ لكون ذلك يتطلّب ترسيماً ثلاثياً، أي لبنان وقبرص وسوريا، التي رفضت الترسيم شمالاً، ومع إسرائيل جنوباً. وقد نصّت مسوّدة مشروع الاتفاقية بشكل واضح على أنه يمكن مراجعة أو تعديل الإحداثيات الجغرافيّة للنقاط 1 و/أو 6 طبقاً للحاجة في ضوء التحديد المستقبليّ للمناطق الاقتصادية الخالصة مع دول الجوار الأخرى المعنيّة. وتضمّن الاتفاق الموّقع بين لبنان وقبرص أنّه “يتعّين على أيّ طرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوّصل إلى اتفاق نهائيّ مع أيّ دولة أخرى إذا ما تعلّق هذا التحديد بإحداثيات النقطتين 1 أو6”.
لم تضع الحكومة اللبنانية الاتفاقية الموقتة مع قبرص أمام المجلس النيابي بانتظار استكمال تحديد حدود لبنان النهائية جنوباً وشمالاً، وكذلك للقيام بالمزيد من الدراسات. وباشرت الحكومة استكمال ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة الشمالية والجنوبية انفرادياً.
توصّلت اللجنة التي ضمّت كلّاً من رئاسة الحكومة، ووزارة الأشغال العامة والنقل، ووزارة الطاقة والمياه، ووزارة الدفاع، ووزارة الخارجية والمغتربين، والجيش اللبناني والمجلس الوطني للبحوث العلمية، في نيسان 2009، إلى ترسيم الحدود البحرية جنوباً وشمالاً، بتوقيع جميع أعضائها، حيث أصبح الطرف الجنوبي هو النقطة الثلاثية 23، جنوب النقطة رقم 1، والطرف الشمالي النقطة الثلاثية 7 شمال النقطة رقم 6. وفي تموز 2010، قدّم لبنان الى الأمم المتحدة إحداثيات حدود منطقته الاقتصادية الخالصة الجنوبية بشكل منفرد، كذلك أودع إحداثيات الحدود الشمالية مع سوريا في النقطة 7.
لكنّ قبرص وقعّت مع إسرائيل في كانون الأول 2010 على اتفاقية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، من دون إبلاغ أو استشارة الدولة اللبنانية خلافاً للاتفاق معها، وذلك بعد قيام لبنان بإيداع إحداثيات النقطتين 23 و7 لدى الأمم المتحدة.
اعترضت الحكومة اللبنانية على تلك الاتفاقية برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في حزيران 2011، وذلك بسبب اعتماد إسرائيل النقطة رقم 1 كنقطة فصل مشتركة بين لبنان وإسرائيل، بدلاً من النقطة 23 التي تمّ تحديدها في العام 2008. والاتصالات التي تمّت بعدها مع الجانب القبرصيّ ربطت النتائج باتفاقية تحديد الحدود البحرية مع إسرائيل وسوريا لحسم النقاط بشكل كامل.
في تشرين الأول 2022، رحّبت الحكومة القبرصيّة عبر سفارتها في بيروت بالاتفاق بين لبنان وإسرائيل، وأبدت رغبتها بإجراء مشاورات مع لبنان لمعالجة تأثير اتفاق الترسيم مع إسرائيل على الحدود البحرية بين قبرص ولبنان.
وفي 28 تشرين الأول، أعلنت الرئاسة اللبنانية التوّصل إلى صيغة لترسيم الحدود البحرية مع قبرص، فكشف نائب رئيس مجلس النواب إلياس أبو صعب، حينها، “أنه تمّ الاتفاق مع قبرص على تعديل الحدود البحرية الجنوبية بين البلدين، وفق الخط 23، وإن لبنان لن ينجز ملف ترسيم الحدود البحرية مع قبرص، إلا بعد التفاهم مع سوريا”.
وفق أستاذ التاريخ الدكتور عصام خليفة “طول خط الشاطئ القبرصي المقابل ينطلق شمالاً من الرأس البحري الواقع بين مدينة أيانابا وبلدة بروتاراس، وينتهي جنوباً عند الرأس البحري الواقع في منطقة أكروتيري الخاضعة للسيادة البريطانية. طول الاتجاه العام للشاطئ القبرصي حوالَي 103.13 كلم، والمساحة البحرية المشتركة بين لبنان وقبرص تبلغ نحو 31265.34 كلم2. وإذا ما تمّ تقاسم هذه المساحة المائية المشتركة نسبة لطول الاتجاه العام للشاطئ لكلتا الدولتين، فإنّ حصة لبنان تبلغ 20217.551 كلم2، وحصّة قبرص تبلغ 11047.791 كلم2. واتفاق العام 2007 أعطى لبنان مساحة 17573.7 كلم2 فقط، ممّا أدّى إلى خسارته 2643 كلم2، وفقاً لمعيار التناسب بين طولي الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين”.
وكان لوزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية وجهة نظر مغايرة كلياً لبرنامج الترسيم الذي اعتمدته وزارة الأشغال العامة والنقل بعدما طالبت بإعطاء لبنان كامل حقوقه مع معارضتها لاعتماد خطّ الوسط.
مسألة الربط بين الملفّين تطرح أموراً أخرى لا تقلّ تعقيداً، لا سيّما أنّ الدخول في أيّ مفاوضات جديدة يتطلّب وجود رئيس للجمهورية وحكومة فعليّة مزوّدة بالثقة، قادرة على قيادة الطروحات واتّخاذ القرارات.
رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يقول: “ستتم مقاربة الأمور بشكل هادىء مع قبرص وسوريا ولصالح كلّ البلدان وفق القوانين العالمية، ووفق القانون اللبناني. ولن نتسرّع في هذا الموضوع، بل سنأخذ وقتنا للقيام بقراءة عمليّة تُرضي كلّ الأطراف”.
عبود زهر
الخبير في شؤون النفط والغاز المهندس عبود زهر يعتبر “أنّه لا يمكن إنهاء الترسيم مع قبرص قبل إنجازه مع سوريا، لأن النقطة الثلاثية تجمع سوريا ولبنان وقبرص، ويجب تحديد هذه النقطة مع سوريا أولاً، ليُصار إلى تحديدها مع قبرص. الموضوع تقنيّ. للوصول إلى حلّ نهائي من دون الحاجة إلى أيّ تغيير لاحق يجب البدء من سوريا”.
وعن البلوكات التي تحدّ لبنان مع قبرص وحجم مخزونها يقول زهر لـ”النهار”: هي: 1، 3، 5، 8. ولا أحد يعرف مخزونها قبل الحفر فيها كلّها. ولأنّه لم يتمّ تلزيم هذه البلوكات بعد، فهي مطروحة للتلزيم في دورة التراخيص الثانية التي مدّدت حتى منتصف العام ٢٠٢٣”.
ويلفت زهر إلى أن “التفاوض مع سوريا ينتظر وصول حكومة جديدة، علماً بأن التعاطي مع سوريا يكون من منطلق سياسيّ أكثر من كونه قانونيّاً وعلميّاً. ولكن الموضوع عموماً غير معقّد”.
وعمّا إذا كانت هناك إمكانية لأن تعاود شركة “توتال إينيرجي” أعمال الحفر معاً في بئر آخر في البلوك رقم 4 مع بدء الحفر في البلوك رقم 9 يقول: “توتال بدأت بالتحضيرات للحفر في حقل قانا الموجود في البلوك ٩، وحتى تاريخه ما من معلومات عن أيّ نيّة لدى الشركة للحفر مجدداً في البلوك رقم 4”.
الجدير ذكره أنّه تم تقسيم البلوكات النفطية في لبنان، وفق المساحة البحرية للمنطقة الاقتصادية، والبالغة 22700 كيلومتر مربّع، ووفق المسوحات الزلزالية الثلاثية الأبعاد، إلى 10 بلوكات، وعليه قُسّمت المنطقة الاقتصادية كالآتي: 1 و2 شمال لبنان، و3- 4 -5 – 6 -7 في الوسط بين الشمال والجنوب، و 8-9- 10 في جنوب لبنان.
والتحرّك اللافت للشركات التي أبدت نيّتها في الاستثمار في قطاع الطاقة في المياه الاقتصادية اللبنانية بعد الاتفاق الأخير مع إسرائيل، دفع بوزارة الطاقة والمياه إلى تمديد مهلة تقديم طلبات الاشتراك في دورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية من 15 كانون الأول الحالي إلى 30 حزيران 2023.
وإذ يفرض القانون تحالف شركات يتضمّن 3 شركات بالحدّ الأدنى، بينما يُمنع على الشركات اللبنانية أن تستثمر في الرقعة البحرية الجنوبية الحدودية مع إسرائيل، التي تحمل رقم 9، وتتضمن حقل قانا، بموجب اتفاق ترسيم الحدود مع تل أبيب، لا يمنع من دخول “توتال إينرجي” في هذه الدورة أيضاً.
ملف الترسيم اجتاز عقبة الإسرائيلي برعاية أميركية، فهل يسقط الحاجز السوري بتفاهمات سياسية؟