الفراغ الرئاسي في لبنان… الحوار يتباعد والعقوبات تلوح

دخل لبنان عملياً، منتصف ليل الإثنين 31 أكتوبر (تشرين الأول)، مرحلة شغور رئاسي قد يطول في مشهد مكرر لعام 2014 عندما غادر الرئيس ميشال سليمان القصر الجمهوري ولم يسلم الخلف لتدخل البلاد بعده عامين من الفراغ في الموقع الدستوري الأول نتيجة تعطيل جلسات انتخاب الرئيس من قبل “حزب الله” وحلفائه الذين كانوا يملكون الأكثرية النيابية.

باستثناء الجلسات الأربع التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري التي مر على آخر واحدة عقدت 10 أيام وشبهت بمسرحيات هزيلة غير منتجة فإنه لا مؤشرات حتى الآن إلى إبرام موعد جديد للجلسة الخامسة، علماً أن مجلس النواب في حكم الهيئة الناخبة الدائمة منذ 20 أكتوبر، فباستثناء ما كرسته الجلسات الأربع من انقسام داخل القوى السياسية بين معسكري “حزب الله” من جهة والمعارضة زائد التغييريين والمستقلين من جهة أخرى، ثبتت هذه الجلسات أيضاً قدرة فريق المعارضة إن أراد على تعطيل أية جلسة قد يسعى من خلالها “حزب الله” إلى فرض رئيس مقرب منه.

وأمام انسداد الأفق وبلوغ الاستحقاق الرئاسي حائطاً مسدوداً من دون أي حل مرتقب تؤكد مصادر قريبة من “حزب الله” لـ”اندبندنت عربية” أن الشغور الرئاسي ربما يستمر شهرين كما قد يطول لفترة زمنية شبيهة بفترة الفراغ التي سبقت انتخاب عون.

في المقابل لا يبدو أن دعوة بري، حليف “حزب الله” والممسك دستورياً بقرار مواعيد جلسات انتخاب الرئيس، إلى جلسة قريبة لانتخاب الرئيس واردة وتبرر مصادر مقربة من بري لـ”اندبندنت عربية” ذلك بغياب التوافق والحاجة إلى الحوار، ومن هنا كان طرحه، كما تقول المصادر، عقد طاولة حوار يدعو إليها رؤساء الكتل النيابية للاتفاق على اسم لرئاسة الجمهورية.

دعوة بري اعتبرت مصادر نيابية معارضة أنها جاءت بطلب من “حزب الله” لتضييع الوقت وكسر الزخم المتعلق بانتخاب رئيس للجمهورية، خصوصاً أن الحزب غير قادر حالياً على التحكم كلياً بورقة الرئاسة ولا تزال دعوة رئيس مجلس النواب إلى الحوار غير محددة وهي قيد التحضير كما تقول مصادره في حين لا تبدو سالكة، خصوصاً بعد موقف حزب “القوات اللبنانية” الذي دعا بري إلى عقد الحوار في جلسة انتخاب مفتوحة لأن الأولوية هي لانتخاب الرئيس، متخوفاً كما ذكر رئيس الحزب سمير جعجع من أن يبدأ الحوار بالاستحقاق الرئاسي وينتقل إلى مواضيع أخرى متعلقة بالنظام ليس هذا توقيتها المناسب.

موقف “القوات اللبنانية” ترافق مع موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي اعتبر أن “ليس اليوم وقت الحوار، بل وقت انتخاب الرئيس الجديد”.

لا مبادرة عربية أو دولية

يربط كثيرون في لبنان بين عجز القوى السياسية عن انتخاب رئيس للجمهورية وغياب الراعي الدولي أو العربي للاستحقاق الرئاسي، فغياب التفاهم بين اللاعبين الأربعة الأساسيين والمؤثرين في الملف اللبناني، أي الولايات المتحدة والسعودية وإيران وفرنسا، يرخي بظلاله على الاستحقاق الرئاسي ويضعه حالياً في ثلاجة الانتظار كما تقول مصادر دبلوماسية لـ”اندبندنت عربية”.

وباستثناء البيانات الدورية الداعية إلى ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية إنهاء للفراغ الرئاسي لا مبادرة عربية أو دولية يمكن الحديث عنها، فإن العقوبات التي لوح الاتحاد الأوروبي بفرضها مجدداً بحق معطلي الاستحقاق الرئاسي ورقة الضغط الوحيدة حتى الآن.

ففي بيان صادر عن رئيس بعثة الاتحاد في لبنان جوزيب بوريل دعا السياسيين إلى “تنظيم انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة بأقصى سرعة”، مذكراً بإطار العقوبات الذي أصدره الاتحاد الأوروبي في يوليو (تموز) الماضي والذي يسمح “بفرض إجراءات تقييدية على الأفراد أو الكيانات التي تمنع الخروج من الأزمة اللبنانية”، كما حصل عشية الانتخابات النيابية وقبل تشكيل الحكومة.

وسط هذه الأجواء يشرح مصدر دبلوماسي في فرنسا لـ”اندبندنت عربية” أن باريس حريصة على إجراء الانتخابات الرئاسية في أقرب وقت، ملمحاً إلى أنها قد تلجأ إلى وسائل ضغط للدفع في هذا الاتجاه، لكن حصول ضغط من دولة واحدة وفق رأيه أو دولتين أو أكثر لن يفيد لأنه لن يكون بإمكانها التأثير سوى في فريق واحد من النواب، وتعتبر الدوائر الفرنسية أن المسؤولية تقع على النواب أنفسهم بالدرجة الأولى في حين لن يفيد الضغط الخارجي إلا إذا جاء نتيجة توافق أوسع يشمل الولايات المتحدة والسعودية وأيضاً إيران ومثل هذا التوافق الشامل غير متوافر الآن كما يقول المصدر الدبلوماسي.

وعلمت “اندبندنت عربية” أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحاول جمع وزراء خارجية إيران والسعودية وتركيا لكنه لم ينجح في مسعاه بعد، فيما لا يزال الاهتمام السعودي منحصراً في الشق الإنساني وسط غياب أي موقف من الاستحقاق الرئاسي باستثناء ما صدر في البيان الثلاثي المشترك مع أميركا وفرنسا من نيويورك الذي دعا إلى انتخاب رئيس يمكنه توحيد الشعب اللبناني.

تتعاطى الولايات المتحدة أيضاً ببرودة لافتة مع ملف الاستحقاق الرئاسي في لبنان وتكشف مصادر دبلوماسية في واشنطن لـ”اندبندنت عربية” عن أن الإدارة الأميركية لا ترتاح بالمطلق إلى جو الفراغ أو الشلل في المؤسسات، لكن في المقابل لا نية لديها للتدخل، فأولويتها الحالية هي ملف ترسيم الحدود وتنفيذ بنود الاتفاق واستكمال ملف لبنان مع صندوق النقد الدولي ولا تخفي المصادر انعكاساً سلبياً للعلاقة المتأزمة بين واشنطن والرياض، بالتالي تأجيل أي تنسيق ثنائي في ما يتعلق بالملف اللبناني.

ماذا عن المرشحين؟

أمام الواقع المأزوم وعلى رغم مواقف متعددة ومحاولات أكثر من فريق سياسي ركزت على لبننة الاستحقاق، فإن عمق الخلاف حول مشروعين سياسيين منفصلين حال دون ذلك. وحتى الرهان على القوى التغييرية وبعض المستقلين ليكونوا الرافعة الأساسية للبنان الجديد سقطت، إما للافتقار إلى الرؤية الواضحة لدى النواب الجدد الذين بدأوا بمجموعة وانتهوا بمجموعات أو للاختلاف حول الأولويات بين العناوين السيادية والاقتصادية أو لبقاء عدد منهم أسرى شعار “كلن يعني كلن” ورفض التعاون مع أحد

 

وإزاء مشهدية الانقسام تعددت أسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية منهم المعلنون وغير المعلنين والمدعومون وغير المدعومين والجديون وغير الجديين، وعلى رغم ترشيح أحزاب المعارضة أي “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”الكتائب” و”حركة التجدد” و”حزب الأحرار” وبعض المستقلين النائب ميشال معوض في الجلسات الأربع الأخيرة وتأكيد أوساطهم الاستمرار في هذا الخيار لم يحصل معوض على النصاب المطلوب لانتخابه.

لكن الانتقال إلى أي اسم آخر بالمواصفات التي اختير معوض على أساسها سيحتاج إلى ضمان حصول الاسم الجديد على العدد المطلوب لانتخابه وهو الأمر غير المتوافر حالياً، علماً أن جنبلاط وفق مصادره يبدو الأكثر عجلة في الانتقال إلى ما بعد معوض، متخوفاً من فراغ قد يطول وربما يستفيد منه “حزب الله” وحلفاؤه.

وبرزت في الأيام الأخيرة حركة لافتة للنائب المستقل غسان سكاف، ليس جنبلاط بعيداً منها، في محاولة للتقريب بين وجهات نظر الكتل المعارضة وكتل حليفة لـ”حزب الله”، لا سيما على خط التنمية والتحرير وكشفت مصادر مقربة من سكاف عن أنه اقترح على بري سلة من ستة أسماء هي حصيلة مقترحة من معظم الكتل يمكن أن توفر النصاب العددي المطلوب لعقد الجلسة على أن يترك الخيار النهائي للنواب داخلها، والأسماء هي ميشال معوض ونعمت افرام وصلاح حنين وناصيف حتي وشبلي ملاط والسيدة مي الريحاني.

وعلى رغم أن شيئاً لم يحسم بعد برزت في هذا السياق حركة لافتة للنائب نعمت افرام، وهو عضو في “كتلة التجدد” مع معوض، من خلال عقده أكثر من لقاء مع مرجعيات روحية وسياسية اتخذت طابعاً ترشيحياً غير معلن، فيما غابت أية حركة معلنة لكل من ملاط أو حنين وكذلك وزير الخارجية السابق ناصيف حتي الموجود في باريس وتستمر المرشحة مي الريحاني في عقد لقاءات مكوكية مع الكتل والنواب المستقلين عارضة برنامجاً انتخابياً يحمل عنوان “إنقاذ الكيان واسترداد الدولة”.

متى يفعلها باسيل ويترشح؟

في مقلب التغييريين وبعد انضمام اثنين منهم إلى المعارضة في تسمية النائب ميشال معوض لا يزال الـ11 الباقين غير قادرين على الاتفاق على اسم جديد بعد ترشيح خائب لرجل الأعمال سليم إدة وعصام خليفة رغماً عنهما وتكشف مصادر مطلعة عن أن الـ11 منقسمون إلى مجموعتين وسط غياب الاتفاق على أي اسم جديد بعدما حاول عدد منهم تسويق وزير الداخلية السابق زياد بارود الذي لا يزال في إطار بورصة الأسماء المطروحة للتداول فقط.

أما في محور “حزب الله” والحلفاء، فلا يزال الخيار حتى الساعة هو الورقة البيضاء على رغم أن رئيس “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية هو المرشح الجدي للحزب لكن غير المعلن، كما تقول مصادرهما.

والعائق الأساس أمام وصول فرنجية هو حليف الحليف رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي لم يتمكن الحزب من تسجيل أي تحسين للعلاقة المتأزمة بينه وفرنجية. أما “حزب الله”، فلن يتبنى ترشيح فرنجية في المرحلة الحالية لأن الظروف الداخلية والخارجية بحسب رأيه لم تنضج بعد، لكنه لن يساير أيضاً باسيل على حساب فرنجية كما تقول مصادره، فهو يسعى إلى المحافظة على الحليفين.

ويرفع جبران باسيل في وجه “حزب الله” ورقة ترشحه لرئاسة الجمهورية، إن تلميحاً أو تصريحاً كما جرى في الاجتماع الأخير بالضاحية بينه وحسن نصرالله وتعمد استخدام هذه الورقة من خلال تصريح أدلى به أحد القياديين في “التيار” جازماً أن باسيل سيترشح، الثلاثاء.

وفي ما يبدو فإن قرار ترشحه مرتبط حتى الآن بالتطورات التي يراهن باسيل عليها مع مرور الوقت وكان لافتاً التمهيد لها من قبل عمه الرئيس السابق ميشال عون في آخر إطلالة عبر وكالة “رويترز” عندما قال إن “عقوبات أميركا لا تمنع باسيل من الترشح لرئاسة الجمهورية ويمكن محوها بمجرد انتخابه”.

في السباق الرئاسي يبقى الاسم الأكثر تداولاً هو قائد الجيش العماد جوزيف عون، خصم باسيل الأول، على رغم عدم تحبيذ قوى سياسية عدة تكرار تجربة العسكري في سدة الرئاسة، لكن كثيرين يجمعون على أن الفراغ الرئاسي ربما يكون لمصلحة إيصال عون إلى المنصب في النهاية، علماً أن قائد الجيش يؤكد في مجالسه الخاصة أنه لا يسعى إلى الرئاسة.