عبر التاريخ الطويل لمرض السرطان، والممتد لأكثر من 3500 عام، حاول البشر على الدوام إيجاد علاج فعال ونهائي يقضي على المرض ويمنع تكرار حدوثه مرة أخرى. ولكن كانت كفة البشرية ترجح تارة، وكفة السرطان ترجح مرات، ومع كل علاج فعال أتت الأعراض الجانبية القاسية، التي في بعض الأحيان كانت أسوأ من المرض نفسه.
ولكن ربما حان الوقت لبعض أنواع السرطان أن تُهزم هزيمة كاملة، إذ يبدو أن البشرية قفزت قفزة مهمة للغاية في معركتها الطويلة للغاية ضد السرطان، باستخدام أسلوب علاجي جديد نسبيا وفعال إلى حدٍّ غير مسبوق، على الأقل حتى هذه اللحظة.
دراسة مثيرة
أثارت الدراسة المنشورة يوم 5 يونيو/حزيران الحالي في دورية “ذا نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن” (The New England Journal of Medicine) المرموقة صخبا في الوسط العلمي، بعد أن انتهت نتائج إحدى التجارب السريرية لعقار “دوستارليماب” (Dostarlimab) على مرضى “سرطان المستقيم الغُدّي” (Rectal adenocarcinoma) إلى نسبة شفاء 100% لكل العينات الخاضعة للتجربة، في نتيجة غير مسبوقة ولم تحدث من قبل في تاريخ دراسات مرض السرطان (1).
أُجريت الدراسة على مجموعة صغيرة من مرضى سرطان المستقيم في المرحلة الثانية أو الثالثة، الذين يعانون نقصا في جين “إصلاح عدم التطابق” (Mismatch repair) المتسبب في حدوث الورم، على أن يتناولوا جرعة كل 3 أسابيع لمدة 6 أشهر، تُتبع بجرعات من العلاج الكيماوي أو الإشعاعي أو الجراحي إذا دعت الحاجة.
تُمثِّل حالات نقص جين “إصلاح عدم التطابق” 5-10% من حالات سرطان المستقيم، وهذا النوع تحديدا لا يستجيب جيدا للعلاج الإشعاعي أو الكيماوي، مما يضطر الكثير من المرضى للخضوع إلى الحل الجراحي، باستئصال الورم والأنسجة المحيطة به، وما يترتب على ذلك من فقدان التحكم في عملية الإخراج والإضرار بالأعصاب المارة في المنطقة (2).
لذلك كان هذا العقار الجديد نسبيا طوق النجاة لهذه الفئة من المرضى، خاصة في المرحلة الثانية والثالثة، حين ينتشر الورم إلى الأنسجة المحيطة بالمستقيم، وقبل أن يبدأ انتشاره إلى أعضاء بعيدة في الجسم.
عقار جديد
كانت منظمة الغذاء والدواء (FDA) قد أعطت موافقة مستعجلة لشركة جلاسكو الدوائية (gsk) لاستخدام عقار “دوستارليماب” لعلاج حالات الأورام السرطانية الصلبة المتقدمة، وذلك في أغسطس/آب عام 2021. طُرح العقار تحت اسم “جمبرلي” (Jemperli) على هيئة سائل شفاف يُحقن في الوريد، ويخضع لدراسات مستمرة لمراقبة تأثيره على أنواع السرطانات المختلفة، مثل سرطان بطانة الرحم، وسرطان الرئتين، وسرطانات الجهاز الهضمي (3).
ينتمي العقار إلى عائلة “الأدوية المناعية” (Immune Therapy) التي أظهرت في السنوات الأخيرة نتائج مبشرة في علاج الأمراض السرطانية، وحصلت آخر الإنجازات فيها على جائزة نوبل قبل عدة سنوات. يعمل العلاج المناعي على مساعدة وتعزيز الجهاز المناعي الطبيعي ليستطيع إيجاد ومن ثم القضاء على الخلايا السرطانية، دون أن يهاجم الدواء الورم بنفسه (4).
يتكوَّن عقار “دوستارليماب” من أجسام مضادة لبروتين يسمى “الموت المبرمج 1” (Programmed death 1) ويُختصر إلى (PD-1) (5). في الحالات العادية، يعمل هذا البروتين على تثبيط نوع من “الخلايا التائية” (T-cells) لحماية الجسم من أمراض المناعة الذاتية، أي إنه يمنع أن يهاجم الجسم نفسه. ولكن في حالات الأورام السرطانية، يستخدم الورم هذا البروتين للتخفي من الجهاز المناعي وحماية نفسه من هجوم الجهاز المناعي، فتتكاثر الخلايا الخبيثة وتنمو في أمان. لذلك، فإن تعطيل هذا البروتين باستخدام العقار يجعل الخلايا السرطانية مكشوفة للجهاز المناعي مرة أخرى، على وجه الخصوص تلك الخلايا التي تفتقد جين “إصلاح عدم التطابق” (6).
في الخلايا الطبيعية، يعمل جين “إصلاح عدم التطابق” على إصلاح الطفرات الناتجة عن أخطاء النسخ، إذ من الوارد أثناء انقسام الخلية ونسخ حروف الحمض النووي أن تُكتب بعض الحروف بشكل خاطئ، ويؤدي تراكم هذه الأخطاء إلى حدوث طفرات جينية، قد تكون صامتة وحميدة، وقد تؤدي إلى الأورام الخبيثة.
يعاني بعض مرضى السرطان، خاصة سرطان القولون وبطانة الرحم، من نقص في هذا الجين الحيوي، مما يمنع تصحيح الأخطاء الناتجة عن الانقسام أولا بأول، ويجعل خلاياهم عُرضة للطفرات المتكررة. هذا النوع من السرطانات قد يكون مقاوِما للعلاجات التقليدية، لذلك فهذه الفئة من المرضى تحديدا هي المعنية بالعلاج المناعي (7).
توبعت عينة الدراسة المكوَّنة من 12 شخصا لمدة 6 أشهر على الأقل بعد انتهاء جرعات العقار، ولم يجد الباحثون أي أثر للأورام لدى أيٍّ من المشاركين، سواء باستخدام الفحص اليدوي، أو الفحص بالمنظار، أو الرنين المغناطيسي، أو المسح الذري، أو حتى بأخذ عينة من مكان الورم.
بالطبع أدَّت هذه النتيجة إلى إعفاء جميع المشاركين بلا استثناء من استكمال العلاج الكيماوي أو الإشعاعي، لأنه لم يعد يوجد أثر للأورام تماما. بالإضافة إلى اختفاء الأورام الأولية، وبعد متابعة تتراوح مدتها من 6-25 شهرا، لم يحدث أي انتكاسات أو تطور للمرض في أيٍّ من الحالات، وحتى تاريخ نشر الدراسة، لم يخضع أيٌّ من المشاركين للعلاج الإشعاعي أو الكيماوي أو الجراحي.
زائر خبيث
سبب آخر لثقل هذه الدراسة وأهميتها الشديدة يتعلق بطبيعة المرض نفسه، يحتل سرطان القولون والمستقيم المركز الثالث على مستوى العالم من حيث الانتشار، وهو أيضا ثالث أكثر السرطانات انتشارا في الرجال، وثاني أكثرها انتشارا في النساء بعد سرطان الثدي (8). لا يوجد سبب واحد مؤكد لحدوث هذا النوع من السرطان، ولكن هناك العديد من العوامل البيولوجية والبيئية التي ترفع من فرص الإصابة بالمرض، مثل وجود تاريخ مَرَضي بالإصابة في العائلة، أو تاريخ مَرَضي شخصي بالإصابة بالأورام الحميدة في القولون، التي قد تتحوَّل لاحقا إلى ورم خبيث مجرد أن يكون الشخص متقدما في العمر.
هناك أيضا عوامل يمكن التحكم بها مثل الوزن الزائد وقلة الحركة ونوع الحمية المتبعة، إذ إن الحميات الغنية باللحوم الحمراء ترفع من فرص الإصابة بهذا المرض، بالإضافة إلى التدخين وتناول المشروبات الكحولية (9). هذا لا يعني أن المرض لا يُصيب الأشخاص الأصغر سِنًّا، حيث إن 12% من الحالات السنوية في الولايات المتحدة فحسب تُكتشف في أشخاص أصغر من سن الخمسين (10).
للمزيد اقرأ: اتباع نظام غذائي صحي.. خطوات للوقاية من سرطان القولون والمستقيم
في عام 2020 فقط، فقد ما يقرب من مليون إنسان حياتهم نتيجة الإصابة بسرطان القولون أو المستقيم، ويُعَدُّ هذا المرض ثاني أكبر سبب للوفاة بين مرضى السرطان. كان المسار العلاجي المعتاد لمرضى سرطان القولون في المرحلتين الثانية والثالثة هو استخدام العلاج الكيماوي والإشعاعي في الخطوة الأولى، وأحيانا استخدام كليهما في الوقت نفسه، ثم اللجوء إلى الاستئصال الجراحي حلًّا أخيرا في حالة فشل المحاولات الأولى (11).
يُكتَشف نحو 37% من حالات سرطان القولون والمستقيم مبكرا في المرحلة الأولى، وعادة ما يُستأصل الورم بالمنظار بسهولة نسبية، لذلك تصل نِسَب النجاح في التعامل مع المرض إلى 91%. ولكن في حالة انتشار السرطان إلى الأنسجة المحيطة بالقولون أو الغدد الليمفاوية القريبة، تنخفض نِسَب النجاة إلى 72%، وتُمثِّل هذه المجموعة ثلث الحالات تقريبا. أما عن الحالات المتأخرة من المرض، التي تنتشر فيها الخلايا الخبيثة إلى مختلف أجزاء الجسم، فلا تتخطى معدلات النجاة نسبة 15% (12).
أمل البشر للتخلص من السرطان
تُقدِّم نتائج هذه الدراسة الجديدة أملا لعدد كبير من مرضى سرطان القولون والمستقيم، فهي تمنحهم دواء فعالا أكثر من العلاجين الإشعاعي والكيماوي، كما أنها تعطيهم علاجا أكثر أمانا، إذ لم ترصد الدراسة حدوث أي أعراض جانبية في عينات البحث، على عكس الأعراض الجانبية المزعجة والخطيرة لأنواع العلاج السابقة. ليس هذا فحسب، بل إن العقار الجديد لا يكتفي بالقضاء على الورم الخبيث، بل ويمنع انتكاس المرض أو رجوعه من جديد، وتلك طفرة طبية لا شك.
وعموما، كانت الدراسات السابقة المُجراة على العلاجات المناعية قد توصَّلت إلى نتائج جيدة وواعدة. في الدراسة المنشورة في دورية “ذا لانست” (The Lancet) الشهيرة، اختُبِر عقار “بمبروليزوماب” (Pembrolizumab)، الذي يعمل بشكل مشابه لعقار “دوستارليماب”، على عينة من مرضى سرطان القولون الذين يعانون من نقص جين إصلاح عدم التوافق.
بمقارنة نتائج هذا العقار بنتائج العلاج الكيماوي التقليدي، وُجد أن العلاج الكيماوي يمنح 8 أشهر من استقرار المرض، بينما يمنح العقار المرضى 16 شهرا لا يتطور فيها المرض. توبعت عينات البحث لمدة 44 شهرا تقريبا، ولوحظ أيضا أن الأعراض الجانبية للعقار كانت أخف وطأة بكثير من تلك الخاصة بالعلاج الكيماوي (13).
وفي دراسة أخرى أُجريت على عقار “نيفولوماب” (nivolumab) المنتمي إلى عائلة “دوستارليماب” نفسها، وصلت نسبة النجاة والخلوّ من المرض بعد سنة واحدة إلى 48.4%، بالإضافة إلى أن الدواء لم يتسبَّب في حدوث أعراض جانبية خطيرة. نتحدث هنا عن حالات مصابة بسرطان القولون المُتقدِّم، والمنتشر في الجسم كله، لذا فهذه النسبة تُعَدُّ واعدة للغاية مقارنة بطرق العلاج الأخرى في مثل هذه الحالات (14).
مشكلات بحثية
لكن رغم النتائج الباهرة لدراسة عقار “دوستارليماب”، التي تخطت نتائج كل الدراسات السابقة لها، فإن صغر حجم العينة يجعلها غير كافية لتقرير إذا ما كان هذا الدواء فعالا وآمنا حقا أم لا، تحتاج هذه التجربة إلى التكرار مرة أخرى، وعلى عينة أكبر من الحالات حتى تتأكد النتائج، ولكن هذا لا يمنع أن نتائجها مبشرة وتدعو للأمل.
مع إشراق كل يوم جديد، تتقدَّم البشرية خطوة صغيرة نحو شفاء وإنهاء آلام أنواع السرطان المختلفة، وكما نجحت من قبل في التعامل مع الكثير من أنواع السرطانات، ومنحت الناجين فرصة ثانية للحياة، فسوف تنجح يوما في الانتصار في هذه المعركة الضارية ضد السرطان كله، وهو ليس مرضا واحدا، بل متلازمة معقدة عديدة الأمراض.
ربما يأتي اليوم الذي لا يضطر فيه مريض السرطان للخضوع للعلاج الكيماوي القاسي، والمعاناة مع الغثيان والهزال وفقدان الشعر، ربما يمكننا أن نشاهد قريبا مريض السرطان يُشفى خلال أشهر معدودة ويعود لمزاولة حياته الطبيعية ببساطة، الدراسة الجديدة هي إذن رسالة بسيطة للمرضى: اصبروا وصابروا قدر إمكانكم، العلماء في طريقهم إلى النصر.