لوهلة، وبين الحين والآخر، يتوهّم اللبنانيون أنّ حالهم قد اعتدلت ودولتهم قد نهضت وقضاءهم قد استقام، فالنيابة العامة تلاحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لفساده، وتدّعي على المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان متّهمة إياه بعرقلة العدالة من خلال توفير الحماية لسلامة.
ما أروع هذا المشهد في بلد يشكو من غياب تطبيق القانون! فحلم اللبنانيين أن يروا قرارات القضاء سارية والأجهزة الأمنية مستجيبة والحمايات ساقطة والمهدّدين بقطع الأيادي التي تمتد الى أعتى المجرمين مطاردين.
ولكن سرعان ما يصحو اللبنانيون من هذا الحلم الجميل على كابوس بشع، ويتّضح لهم أنّ ما يلمع ليس ذهباً بل…”تنكاً”!
فالنائب العام الإستئنافي غادة عون التي تلاحق كلّاً من سلامة وعثمان هي نفسها متّهمة بارتباطها المباشر ب”التيّار الوطني الحر”، في وقت يدرك الجميع أنّ قرار مجلس القضاء الأعلى بنقلها من منصبها هو أبرز الأسباب التي دفعت رئيس الجمهورية ميشال عون، حماية لها، إلى الإمتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات القضائية ممّا ألحق ويلحق بالعمل القضائي وانتظامه وسمعته والمتقاضين أمامه أسوأ الأضرار.
وبمتابعة ملف القاضي عون يتضّح أنّ أداءها في السنوات الأخيرة لم يعِبه “تمرّدها” على رؤسائها التسلسليين وعلى المرجعية المعنية بالتدقيق بأعمال القضاة فحسب، بل مواءمته للمعارك التي تفتحها رئاسة الجمهورية بمؤازرة من “التيار الوطني الحر”، أيضاً.
والأخطر من هذا وذاك أنّ “استشراس” القاضي غادة عون، بغض النظر عن طبيعة نياتها، يتزامن، بشكل مثير للريبة، مع قضايا مدوية، مثل: المؤتمرات التي ينظّمها “حزب الله” ضد عدد من الدول الخليجية، على الرغم من قرارات المنع الصادرة عن السلطات المختصة، والتحرّك الشعبي اللافت للانتباه ضد المسؤولين، قضائياً وسياسياً وميليشياوياً، عن تجميد التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وهو أضخم جريمة جنائية عرفها لبنان، والشبهات بنيات رئاسة الجمهورية في مسألة تحديد المساحة التي يفترض أن يتفاوض عليها لبنان مع إسرائيل بخصوص “حدوده النفطية” معها، وافتقاد “التيّار الوطني الحر” المترهّل انتخابياً إلى عناصر ملموسة لشعارات يتوهّم أنها يمكن أن تنقذه من الحال المزرية التي أوصل نفسه إليها.
وليس خفياً على أحد أنّ رياض سلامة كان هدفاً مثيراً شعبياً وذا صدى دولياً، في ضوء كارثة الإنهيار المالي-المصرفي التي عصفت بلبنان وسبّبت وتُسبّب الكثير من المآسي.
ولكن، مع توالي الأيّام وما كشفه تراشق المسؤولين السياسيين من فضائح يندى لها الجبين، تبيّن للبنانيين أنّ رياض سلامة، على الرغم من وجوب مساءلته سياسياً وشعبياً وقضائياً، ليس سوى حجر في مقلع، وتالياً فإنّ “الإستشراس” ضدّه، بناء على إخبارات و”خبريات” وليس على تقارير تتضمّن الحدّ الأدنى من الأدلّة، دون غيره ممّن تولّى مسؤوليات مؤسسات عامة ووزارات أهدرت مليارات الدولارات، كما هي عليه الحال في موضوع الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر، هو فعل فاسد، لأنّه نتاج أهداف عنوانها مكافحة الفساد وحقيقتها التغطية على الفاسدين، خصوصاً وأنّ الضليعين في القوانين عموماً وفي قانون “النقد والتسليف” خصوصاً يجزمون بأنّ المسائل التي تثيرها الإخبارات ضد سلامة والتي تتحرّك القاضي عون على أساسها، مآلها القانوني، الحفظ وتالياً… التبرئة.
إنّ مسؤولية رياض سلامة عن الكارثة التي عصفت بلبنان، حتى بالنسبة الى من لا يعرف دقائق الأمور، ضخمة ولكنّها جزء من سلسلة مترابطة، وتالياً فإنّ “استفراده” ينقله، تلقائياً، إلى موقع الضحية.
ومن يُدقق في نظرة اللبنانيين الى سلامة، قبل مدّة، ونظرتهم إليه، حالياً يكتشف أنّ حاكم مصرف لبنان، بدأ، بعد خسارات معنوية هائلة، يكسب تعاطفاً.
وليس هناك في قضية مكافحة الفساد ما هو أسوأ من تحويل المتورّط المحتمل الى ضحية.
وهذه هي النتيجة الوحيدة التي حققتها، حتى تاريخه، القاضي عون، بسبب ما يعتري سلوكها من عيوب وتوقيت “استشراسها” من شكوك.
إنّ البحث في أسباب الكارثة التي يئن لبنان تحت وطأتها ضروري للغاية، ولكن المشكلة تكمن في غياب المنهجية التي يجب أن تستند الى استقلالية المرجعية وشموليتها والقدرات المتوافرة لها.
ولو كانت هناك جديّة في هذا الموضوع، لما كان قد ترك أمره لمزاجية نائب عام من هنا ونائب عام من هناك، بل كان قد بدأ بتوفير الحدّ الأدنى من استقلالية القضاء، من خلال إطلاق يد مجلس القضاء الأعلى في إجراء تشكيلات قضائية لا يتدخّل في شأنها مسؤولون سياسيون هم أوّل “المشتبه بهم”، على أن يلي ذلك تشكيل لجنة تحقيق قضائية متنوّعة الإختصاصات يتم توفير ما يلزم لها من إمكانات لدراسة كل ما يصدر من تقارير ويرد من إخبارات وينفجر من فضائح، وتتولّى هي إحالة الملفات الجدية على المرجعيات المختصة التي تكون تحت رقابة لصيقة من “هيئة التفتيش القضائي”.
إنّ خارطة الطريق نحو تحديد أسباب الكارثة والمتورطين في صناعتها مستحيلة من دون نظرة شاملة تصل الى حدود “تقريش” تداعيات مسارات سياسية خطرة كإدخال البلاد في فراغ دستوري لأشهر حيناً ولسنوات حيناً آخر، لفرض إرادة طرف على الآخر، من دون إقامة أيّ اعتبار للدستور وروحيته، وللمصلحة الوطنية العليا وضرورياتها، وكانتهاكات “حزب الله” المتواصلة لتعهّدات لبنان ب”النأي بالنفس” ممّا زاد على مصيبة “المال المنهوب” التي يمكن وضع حدّ لها مصيبة “المال المحجوب” التي يستحيل تدارك ما تراكمه من كوارث إذا لم يرضَ “حزب الله” بأن يغيّر نهجه الذي يقوم على تقديم مصلحة “محور الممانعة” على مصلحة لبنان العليا.