رئيسَة التّحرير غادة الخَرسا

عظماء من لبنان.. بني وائل… للأديبة د. غادة الخرسا

كامل بك الأول في المنفى:

بعد الحوادث التي جرت في جبل عامل، وإثر حملة ” نيجر “، حكم على كامل بك بالنفي من البلاد، ويذكر رضا التامر في مذكراته: أنه بعد حكم الفرنسيين على خاله كامل بك الأسعد، وعبد اللطيف بك بالنفي المؤبد من البلاد، ذهب والده وخالاه إلى قرية ” رب تلاتين “، قرب الطيبة، وهناك تركوا الأهل والعيال وديعة ثم قصدوا منطقة الجولان وجهة لهم، حيث يستطيعون الاتصال برجال الملك فيصل، وأنه كان الرحيل يومئذ على الجمال، وقد ركب النساء على الهوادج”.

استقر كامل بك الأسعد ومعه بعض مشردي بنت جبيل والحاج خليل عبد الله وبعض شباب أسرته من الخيام، ورئيسا مجموعة المقاومة، شبيب باشا وأدهم خنجر، استقروا معه في قرية المنصورة ” الجولان ” ، ومن هناك بدأ يجري اتصالات لمعرفة ما ستؤول إليه الأوضاع، وما ستستقر عليه الأمور والآراء، وبعد مشاورات أجراها مع أخيه عبد اللطيف الأسعد ومحمد التامر، اتصل بالسلطات الإنجليزية، وقد حاولت الضغط على كامل الأسعد، لأنها كانت تطمع بضم جبل عامل إلى فلسطين، غير أنها وافقت أخيراً على دخوله إلى فلسطين، فأقام مع حاشيته، وخمسةٍ وأربعين من رجاله، في قرية ” الجاعونة “.

عودة كامل بك الأسعد على ” حصان أبيض “.

حاول بعض الأعيان من زعماء دينيين، وزمنيين، العمل مع السلطة الفرنسية لإعادة كامل بك الأسعد إلى جبل عامل، وإعطائه الأمان ليرجع إلى وطنه، فوافقت السلطة الفرنسية شريطة أن يستسلم للسلطة العسكرية، ويضع يده بيد ” الجنرال غورو “، غير أن كامل بك رفض طلب السلطة الفرنسية بالاستسلام، كما يذكر الشيخ أحمد رضا، لكن الحكومة الفرنسية تحت تأثير الضغط الشعبي، وشعورها بالهياج الذي يملأ صدور أهالي جبل عامل، الذين أصبحوا بدون قائد يرشدهم، ويحميهم، وخوفاً من تفجر الوضع ضدها، صدر حكم العفو عن كامل بك، وعاد زعيم جبل عامل إلى الطيبة على ” حصان أبيض “.

فأخذت السلطة الفرنسية تتودد إليه لأنها لم تجد بداً من ذلك نظراً للتأييد الشعبي معه غير أن كامل بك بقي على مواقفه، فالتفَّ الشعب العاملي حواله وأصبح الزعيم الأوحد، خصوصاً بعد أن أفل نجم العصابات وقادتها وانتهى دورها، إذ اعتبر أهل الجنوب مسؤولة عما حدث من دمار وخراب وتشريد ونهب وتقتيل، وبعد أن أيقنوا أنه الوحيد الذي يحفظ كرامة الجبل ويستطيع أن يدفع عنه الأذية بإرادته الصلبة، وقراراته الوطنية المستقلة النابعة من قراراته، لأنه كان يعتبر نفسه، كما يعتبره أهالي الجنوب، المسؤول أولاً وأخيراً عن أرض جبل عامل وشعبه، خصوصاً بعد أن تبين أ، محمود الفاعور نفسه الذي كان يصر على مقاومة الفرنسيين كان يعمل معهم سراً، فلما أصدرت فرنسا عفوها عن كامل الأسعد ورجع إلى لبنان، قصده الجنرال غورو في دار الطيبة مقدما اعتذاره، وقدم له صينية فضية هدبة مؤرخة بتاريخ الزيارة وقد جرت بينه وبين الجنرال غورو معاتبة.. قال غورو: ” كيف كنت تسمح لمحمود الفاعور بالإغارة على العسكر الفرنسي والقرى في جبل عامل ؟” ضحك كامل الأسعد وأجاب: ” إن محمود الفاعور الذي كان يدفع خوة لكامل الأسعد سابقاً وصار اليوم يهدد فرنسا، ويهدد باحتلال سوق الصاغة في بيروت، لا بد أن تكون وراءه دولة قوية كفرنسا “.

هكذا بقي كامل الأسعد زعيم الجنوب الأوحد حتى وفاته عام 1924 في دار الطيبة، عن عمر يناهز 56 عاماً، ودُفن في مدفن خاص جانب القصر، الذي شيده على الرابية الجنوبية من الطيبة، وقد نشرت مجلة العرفان النعي بقولها: ” فُجعت عامل بزعيمها العميد، وابن بجدتِها الصنديد، وحامي حوزتها المغوار الشديد.

سطا عليه الموت ولم يُرهب بطلاً عنت له الأشاوس الصيد، ولم يرحم طلعة جميلة مهيبة، كانت تتطلع إليها الناس تطلعها إلى هلال العيد، قضى الكامل وكل من عرفه ينشد قول الشاعر: ” كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ ”

… أجل مات مانل بك الأسعد الذي كان يقري الضيف ويتهلل وجهه بشراً وابتهاجاً به. مات الذي كان يمثل الزعامة أتم تمثيل، مات ذو الشخصية البارزة والخُلق الجميل، مات من كان يصدق عليه قول الشاعر: إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا

فإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

وبعدُ، يحضرني هنا قول السموأل:

إذا مات منا سيدٌ قام سيدُ

شبابٌ تسامى للعُلا وكهولُ ”

وهنا يتساءل المرء: ما سرُّ هذه العائله !

فقد حكمت البلاد، وتولت قيادتها منذ مئات السنين، كانت تمر في فترات انكفاء، ثم تعود أقوى مما كانت عليه. أهي منحة من الله عز وجلّ ! أم هي لغزٌ في هذا الكون، يعجز المرء عن سبر أغواره ! ظاهرة عجيبة قلما ظهر مثلها في التاريخ، جميع الملوك والسلاطين والأمراء، يحكمون، وبمجرد تخلفهم مرة واحدة وسقوطهم، تندثر إماراتهم وممالكهم، باستثناء هذه العائلة، تبقى على مرّ الأزمان مهما قيل ويُقال حول خطئها أو صوابية مواقفها، فكلما اشتدَّ عليها الزمان، عادت أقوى مما كانت، وتجذرت عاطفة الناس تجاهها أكثر، وترحموا عليها وتمنوا عودتها: سرٌّ لا يعرفه سوى الله عز وجلّ.

انتهى