الفساد في لبنان… الأسباب والتداعيات

في الخامس من تشرين الثاني العام 1989، تمّ إقرار وثيقة الوفاق الوطني اتفاق الطائف بهدف وضع حدّ لخمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية في لبنان. وقد صدّق مجلس النواب المنتخب سنة 1972 هذا الاتفاق، وتمّ إثره وضع مقدّمة للدستور وإدخال بعض التعديلات عليه، ما يعني أنه حاز القوة الدستورية. فولدت الجمهورية الثانية مصحوبة بورشة إصلاح للنظام السياسي اللبناني. لكن بعد مرور 28 عاماً على الاتفاق، تبيّن أنّ مندرجاته الإصلاحية لم تطبّق، وأنّ النظام السياسي ليس قابلاً للتغيير والإصلاح وبناء مجتمع سليم ونزيه ومستقرّ. فللفساد أوجه مختلفة، والإصلاح كان مكبّلاً بقيود تفرض نفسها على صانعي القرار وعلى العملية السياسية. فواجهت مشاريع الإصلاح في لبنان انتكاسات عديدة وغابت المبادرات السياسية الحقيقية.

 

الحرب التي اندلعت في 1975 في لبنان، استهدفت الاقتصاد اللبناني والسلم الأهلي والازدهار ووحدة اللبنانيين، وهذه مرتكزات تميّز لبنان. وهذا الاستهداف أدّى الى إضعاف نظم الحكم والإدارة وإلى ارتفاع العنف وتفشي الصراعات وسعي القوى للسيطرة على الموارد الاقتصادية للبنان. وفي ظلّ هذه الأحداث تفشّى الفساد في لبنان فشمل الأنساق كافة. وظهرت أزمات سياسية واجتماعية، منها انقسامات سياسية حادّة تظهر فرضيّتين الأولى سياسية تدعم الزبائنية، تعتمد عليها الزعامات السياسية، تعزّز المنطق الطائفي والمذهبي. والثانية اقتصادية تعتمد على إعادة إعمار بيروت، فكانت خياراتها غير واضحة ومبنية على مصالحها الشخصية.

 

إنّ تفشّي الفساد في لبنان وبحسب منظمة الشفافية الدولية يعود إلى فقدان الثقة في النظام اللبناني وإلى عدم التمكّن من بسط سلطة القانون، لأنّ شرعية الدولة مهدّدة. وإنّ تقاسم السلطات يروّج لفاعلية النخب السياسية الطائفية التي تعمل بحسب أجندة مصالحها الخاصة. كما أنّ تفشي ظاهرة الفساد أدّى إلى إضعاف الاستثمارات الأجنبية، خصوصاً أنه لا توجد أيّة سياسات اقتصادية تعتمدها الحكومات لتخفيض الضرائب وتشجيع الاستثمارات. ولا ننسى السياسات المتبعة في إعطاء العقود للشركات التي تدفع الرشى وليس للتي تقدّم العروض الأفضل.

 

إنّ هذه الأسباب التي وردت آنفاً كانت الحافز لهجرة الأدمغة، لأنّ العمالة ليست مبنيّة على أساس الكفاءة، وإنما بحسب مفهوم المحاباة والزبائنية. ووفقاً لمؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية العام 2016 المعنية بمكافحة الفساد، يأتي لبنان في المرتبة 136 على قائمة 175 دولة، وفي المرتبة 13 من أصل 19 دولة في المنطقة العربية، مما يدلّ على قوة الفساد فيه.

 

وقسّمت منظمة الشفافية الدولية أسباب الفساد في العالم العربي وفي لبنان الى عامة وخاصة. وجاءت الأسباب العامة للفساد في لبنان، بحسب المنظمة مقرونة بالصعوبات المالية والمادية والهدر التاريخي للثروات الوطنية، بالإضافة إلى وجود منظومات قانونية، الجيد منها غير مطبق بفاعلية والسيّئ لا توجد حوله إرادة سياسية لتغييره وتطويره.

 

أما الأسباب الخاصة بالفساد، وبحسب المصدر السابق، فهي مرتبطة في الممارسات التي تقوم بها القيادات والموظفون العامون مثل عدم مراعاة أحكام القوانين، حيث يتصرّف المسؤول انطلاقاً من اعتبارات الوجاهة والمحسوبية والكيل بالمكيالين، وعدم احترام الإجراءات التأديبية عند محاولة مطابقتها بالسلوكيات التي تتطلّب العقاب والتأديب، كالتشدّد في عقاب بعض الموظفين وعدم التشدّد مع البعض الآخر. لا ننسى مبدأ الوظيفة الذي لا يراعي مبدأ تكافؤ الفرص، ولا مبدأ الكفاءة، الأمر الذي يحمّل الهيئة الإدارية مسؤوليات لا تُطاق.

 

ما الذي يروّج إذاً للفساد السياسي في لبنان؟

 

إنّ النظام السياسي اللبناني يخضع لحالة انتشار الفساد السياسي الذي قاد إلى إضعاف فاعلية الدولة وكفاءة أجهزتها في التصدي لهذه الظاهرة. كلّ ذلك بسبب ضعف وتفكك مؤسسات الدولة وغياب التنسيق والإدارة وإمكانية المحاسبة فيها، واختراق تلك المؤسسات من جهات تناقض بمصالحها الخاصة المصلحة العامة. كما انّ ضعف الثقافة المؤسسية والبنى الاجتماعية الحديثة وهيمنة البنى التقليدية مع كلّ ما تتطلبه من تضامنات عشائرية أو مناطقية أو طائفية ومن شخصنة العمل السياسي والمؤسّسي يؤثر على ضعف أداء أو كفاءة آليات الضبط والموازنة. ويتمّ كلّ ذلك في ظلّ ضعف الشعور الوطني والهوية الوطنية وسهولة انقياد السياسيين لخدمة مصالح وقوى وجهات خارجية.

 

وبما أنّ حالة الفساد قد استشرت في لبنان وضربت الأرقام القياسية، فنرى أنّ هذه الظاهرة انغمس فيها رجال الدولة من أعلى القمة ونزولاً، فطالت المجالات كافة مثل قطاع استثمار الأبنية والأراضي والبنية التحتية كالطرقات… وقطاع الاتصالات، وقطاع البنوك وتهريب الأموال الى الخارج، وتجارة المخدرات والدعارة، بالإضافة إلى طرائق الاستيراد، وطرائق توزيع المساعدات، وطال الفساد الصحافة ومؤسساتها، ومؤسسة قوى الأمن الداخلي، والتعليم الرسمي الذي لم يتم دعمه وتمّ إبقاؤه دون المستوى المطلوب، أيّ إبقاء هذا النظام غير فعّال وذلك لمصلحة القطاع الخاص. كما يجب أن لا ننسى فساد القطاع الصحي الحكومي وعدم تقديم الخدمة المناسبة في المستشفيات الحكومية، وفساد الموظفين في القطاع العام، والفساد القضائي.

 

وعليه، يمكننا القول إنّ الفساد قد استشرى في لبنان واتسعت مجالاته وأصبح يهدّد بنية «المجتمع» اللبناني. فهذه الظاهرة تجتاح لبنان وتتسارع وتنمو بخطوات سريعة، بحيث أصبحت تمثل ناقوس الخطر أمام التنمية. هنا لا بدّ للمراقب المعني بمصالح لبنان ومصيره أن يطرح السؤال التالي:

 

من أين يفترض أن يبدأ وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد في محاربة هذه الظاهرة؟ وما هي الأساليب الأنجع التي يجب عليه اتباعها من أجل الفلاح في هذه المهمة التاريخية والمصيرية للبنان؟

 

دكتورة في العلوم السياسية والإدارية

 

باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد