نشر موقع “العربي الجديد” مقالاً تحت عنوان: “تحوّلات الاقتصاد العالمي تضغط على لبنان”، وجاء فيه:
كانت 2022 السنة الثالثة على التوالي التي تمر بعد انفجار الأزمة الماليّة في لبنان، دون أن تشرع البلاد حتّى اللحظة بتطبيق أي خطة شاملة للإنقاذ الاقتصادي والخروج من الانهيار.
ورغم أن لبنان وقّع مذكرة تفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي، في ضوء مفاوضات أنتجت مساراً معيّناً للحل، لم يحقق لبنان معظم الإصلاحات التي اندرجت كشروط مسبقة في هذا التفاهم.
وفي بيئة اقتصاديّة من هذا النوع، يحكمها الانهيار المتفلّت من أي مسار منظّم للتصحيح المالي والمعالجة، من المتوقّع أن تتفاقم جميع عوارض الأزمة. لكن خلال العام 2022، ساهمت مجموعة من التحوّلات المستجدة على مستوى الاقتصاد العالمي في زيادة الضغط على الاقتصاد اللبناني المأزوم أساسًا، وهو ما ظهر من خلال العديد من المؤشّرات النقديّة والاقتصاديّة.
وفي المقابل، كانت الأزمة المحليّة تزيد من انكشاف وتأثّر لبنان بهذه الضغوط الخارجيّة، دون أن تملك البلاد الحصانة اللازمة للتعامل مع هذه الضغوط.
العامل الخارجي الأساسي الذي ساهم بالضغط على الاقتصاد اللبناني الهش كان التضخّم في أسعار المواد الأساسيّة على المستوى العالمي. فعلى سبيل المثال، تشير أرقام منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أنّ مؤشّر أسعار الغذاء كان قد ارتفع في شهر أيّار الماضي لغاية 158.1 نقطة، مقارنة بـ125.7 نقطة كمتوسّط سنوي خلال العام الماضي، و98.1 نقطة خلال العام 2020، و98.1 نقطة فقط خلال العام 2019.
وبصورة أوضح، باتت أسعار الغذاء الذي نستورده من الأسواق العالميّة اليوم أعلى بنسبة 61% من أسعارها قبل ثلاث سنوات.
وكانت أسعار النفط العالميّة تسير خلال العام الماضي في الاتجاه نفسه. فمتوسّط سعر برميل نفط برنت السنوي تجاوز خلال العام 2022 حدود الـ101 دولار للبرميل، مقارنة بـ70.86 دولارا للبرميل فقط خلال العام السابق، ونحو 41.96 دولارا للبرميل خلال العام 2020.
وبهذه الصورة، كان متوسّط أسعار النفط قد ارتفع خلال عام 2022 بنسبة 42.5% مقارنة بالعام السابق، وبنسبة 140% مقارنة بالعام 2020. وكما هو معلوم، يؤدّي ارتفاع أسعار النفط إلى رفع أسعار جميع السلع الأخرى في الأسواق العالميّة، نظرًا لدخول مشتقات النفط من ضمن تكاليف الإنتاج والشحن والتوزيع.
وبنتيجة كل هذه التطوّرات، يتوقّع صندوق النقد الدولي أن تكون نسب التضخّم العالميّة قد ارتفعت خلال العام 2022 لتبلغ حدود الـ8.8%، مقارنة بـ4.7% فقط في العام السابق.
وكما هو معروف، حصلت كل هذه التحوّلات على مستوى الاقتصاد العالمي تدريجيًّا منذ العام 2021، نتيجة ارتفاع الطلب على السلع الأساسيّة في مرحلة التعافي من أزمة تفشّي وباء كورونا. كذلك، اشتدّت هذه الضغوط التضخميّة بالتوازي مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، منذ شهر شباط 2022.
ويعتمد السوق اللبناني على الاستيراد لتلبية كل حاجته لمصادر الطاقة، بالإضافة إلى الغالبيّة الساحقة من السلع المستهلكة الأخرى. ولهذا السبب، كان من الطبيعي أن تنعكس هذه الضغوط التضخميّة على فاتورة الاستيراد وحجم العملة الصعبة المطلوبة لتمويل هذا الاستيراد.
وخلال العام 2022، تشير أرقام الجمارك اللبنانيّة إلى أنّ فاتورة الاستيراد ارتفعت لغاية شهر تشرين الثاني بنسبة 43.86%، مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق. وعملياً، فإنّ هذا التطوّر أدّى إلى رفع العجز التجاري اللبناني لحدود 14.57 مليار دولار لغاية تشرين الثاني 2022، مقابل 9.1 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق، ما عكس زيادة في حجم العجز بنسبة 60%.
وبالتأكيد، يرتبط جزء محدود جدًا من هذه الزيادة بارتفاع حجم السلع المستوردة نفسها، إذ تظهر أرقام مرفأ بيروت زيادة حركة الحاويات بنسبة 14.19% هذه السنة. إلا أنّ العامل الأهم والأساسي، الذي رفع فاتورة الاستيراد وعجز الميزان التجاري على هذا النحو، كان ارتفاع أسعار السلع المستوردة نفسها، وخصوصًا المواد الغذائيّة ومصادر الطاقة، وهو ما يتصل بالضغوط التضخميّة التي أشرنا إليها على مستوى الاقتصاد العالمي.
من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم ما طرأ من تحوّلات على ميزان المدفوعات اللبناني، الذي يلخّص صافي التداولات الماليّة بين لبنان والخارج، والذي يؤثّر بدوره على موازين عرض وطلب العملات الأجنبيّة في سوق القطع اللبناني. فعجز ميزان المدفوعات ارتفع لغاية شهر تشرين الأوّل من العام 2022 لحدود الـ2.86 مليار دولار، مقارنة بـ1.74 مليار دولار فقط خلال العام السابق، ليسجّل هذا العجز زيادة سريعة وقاسية بنسبة 64% بين العامين.
وفعلياً، فإنّ الحاجة لتمويل الاستيراد وتغطية عجز ميزان المدفوعات استنزفتا قدرة المصرف المركزي على التدخّل في سوق القطع، بعدما اضطرّ خلال النصف الأوّل من العام لضخ الدولار في السوق الموازية لتقليص الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
ولهذا السبب، تعكس أرقام احتياطات المصرف المركزي انخفاضها بنحو 2.57 مليار دولار بحلول نهاية العام 2022، مقارنة ببداية العام. وفي المحصّلة، بات حجم هذه الاحتياطات يقتصر اليوم على نحو 10.25 مليارات دولار.
وعلى مدى أشهر العام 2022، كانت كل هذه الضغوط تساهم، إلى جانب عوامل أخرى، في الضغط على سعر صرف العملة المحليّة. فسعر صرف الدولار في السوق الموازية ارتفع، وعلى مراحل، من 27.666 ليرة مقابل الدولار في بداية العام 2022، إلى نحو 41.950 ليرة في نهاية العام، ليعكس بذلك زيادة بنسبة 51.6% بين الفترتين.
وكما كان واضحًا من هذه التحوّلات، لم تفلح جميع تدخّلات المصرف المركزي في سوق القطع في ضبط هذا التدهور في قيمة العملة المحليّة، في ظل فوضى سوق القطع وأسعار الصرف المتعددة التي يشهدها لبنان.
على أي حال، من المرتقب أيضًا أن يعاني لبنان من ضغوط إضافيّة بفعل نوع آخر من التحوّلات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. فنتيجة ارتفاع الفوائد العالميّة وزيادة أسعار النفط والغذاء، من المتوقّع أن تتعمّق أزمات الدول النامية التي تعاني من مديونيّات خارجيّة مرتفعة، أو من أزمات مزمنة في ميزان مدفوعاتها.
وهذا العامل بالتحديد سيرفع طلب هذه الدول على برامج تمويل المؤسسات الدوليّة، التي تقدّم في العادة رزم الدعم لهذه الدول. ولهذا السبب، من المتوقّع أن يتأثّر حتمًا حجم المساعدات والقروض الخارجيّة، التي يراهن لبنان على استقطابها على هامش برنامجه الموعود مع صندوق النقد الدولي.
وفوق كل هذا، سيساهم ارتفاع الفوائد في الأسواق العالميّة، وخصوصًا الغربيّة، في شحّ التدفقات الماليّة التي يمكن أن يراهن لبنان على استقطابها في المستقبل، بالتوازي مع إعادة هيكلة قطاعه المصرفي. وهذا العامل المستجد، سيؤثّر حكمًا على احتمالات وإمكانات نجاح مسار إعادة الهيكلة. كما من الطبيعي أن يؤثّر هذا العامل أيضًا على حجم الاستثمارات الممكن استقطابها إلى السوق اللبناني خلال أي مسار للتعافي المالي.
الإشكاليّة الأساسيّة، التي تساهم في تعميق أثر كل هذه العوامل الخارجيّة، تبقى أساسًا عدم تطبيق الدولة اللبنانيّة أي رؤية شاملة لمعالجة الوضع الاقتصادي المتأزّم، بما يأخذ بعين الاعتبار هذه التحوّلات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وبما يرسم مسارات الحل المطلوبة لمعالجة الأزمات المصرفيّة والنقديّة الراهنة.
وبغياب هذه الرؤية، سيبقى الاقتصاد اللبناني مكشوفًا بالكامل أمام هذه العوامل الخارجيّة، كما ستعجز السلطتان النقديّة والتنفيذيّة عن الحد من تأثير هذه العوامل، تمامًا كما هو الحال اليوم.