لم تكُن “البلبلة” التي حصلت مُؤخراً في المصارف بسبب منصة “صيرفة” عابرة، فالنّظر إلى خلفيّاتها هو الأساس لمعرفة ما يسعى إليه مصرف لبنان الذي طلب مؤخراً من المؤسسات المصرفيّة حصرَ عمليات “صيرفة” بالأفراد
في الواقع، فإنّ السّوق اليوم بات مكشوفاً على أكثر من سيناريو، الأوّل ويرتبطُ بمدى قدرة “صيرفة” على تلبيةِ المواطنين، في حين أن الثاني يتّصل بمدى قدرة مصرف لبنان على لجمِ المُضاربين. وفي كل الحالات، فإنّ الأمر المحوري يرتبطُ بسيولة الدولار التي تدخل في الحركة الاقتصاديّة داخل لبنان حصراً، وهنا بيتُ القصيد.
ما هي أهداف مصرف لبنان ؟
يوم الأحد، تلقّت المصارف من البنك المركزي توجيهات تقتضي بجعل عمليات “صيرفة” للأفراد مع عدم السماح للمؤسسات بالحصول على الدولارات على أساس المنصّة. حُكماً، الأمر هذا هو الذي أثار البلبلة التي شهدها المواطنون، ما دفع مُجدداً بدولار السوق الموازية للارتفاع.
وضمنياً، فإنّ ما فعله مصرف لبنان مؤخراً قد يكونُ حقق هدفاً واحداً في المكان الصحيح وهو التالي: عندما حصرَ البنك المركزي عمليات “صيرفة” بالأفراد، فإنّه يكون بذلك قد جعل المؤسسات أو الجهات التي تستفيد من المنصة تحت أسماء شركات غير حقيقية، بعيدة عن الاستفادة من دولارات، إمّا قد يجري تحويلها إلى الخارج أو قد يتم استثمارها في عمليات المُضاربة. وعليه، فإنّ جعل المصرف المركزي لآلية “صيرفة” محصورة بالأفراد قد يُساهم في تخفيف استفادة المضاربين الكبار من دولارات المصارف، وبالتالي حصر تلك الاستفادة عند المواطنين، علماً أن هامش الربح ليس كبيراً.
مقابل كل ذلك، فإنّ ما يتبين هو أن هناك سعياً من قبل المصرف المركزي لكشف السوق. وعن هذا الأمر، تقولُ مصادر مصرفيّة لـ“لبنان24” إنّ التعميم الذي أصدره حاكم مصرف لبنان يوم 27 كانون الأول 2022، كان الهدف منه ضخّ الدولار عبر “صيرفة” من جهة، وكشف الجهات التي تسعى للاستفادة من الدولارات لتحويلها أو استغلالها بالمضاربة من جهة أخرى. إلا أنّ ما تبين خلال فترة أسبوعٍ تقريباً بعد صدور التعميم هو أنّ كبار التُجّار لم يلجأوا إلى “صيرفة” كما أنهم لم ينخرطوا في عملياتها، والأساس هنا هو التهرّب من تسجيل معاملاتهم والكشف عن حساباتهم وعن حجم طلبهم بالدولار. أما الأمر الأهم فهو أن تجنب التجار التعامل مع المصارف للحصول على الدولار، يجعلهم بعيدين عن الأضواء المُرتبطة بالعمولات وبالمساءلة عن نوعية استخدام المبالغ التي سيتم جنيها من “صيرفة”. وبذلك، فإنّ عدم تمكن مصرف لبنان من جذب مختلف التجار الكبار إلى “صيرفة” كان بمثابة الثغرة التي لم ينجح تعميم 27 كانون الأول في حلّها، ولهذا كان الهدف في حصر دولارات المنصّة بالأفراد.
وأمام كل ذلك، فإنّ السبب الأساس لعدم هبوط الدولار إلى ما دون الـ40 ألف ليرة بعد صدور التعميم أواخر العام الماضي، سببه هو أن التجار الكبار وجدوا أن السّوق مفتوحٌ أمامهم لشراء وبيع الدولار، طارحين السعر المناسب لهم وسط عمليات ضخ الدولار عبر “صيرفة”. وبمعنى آخر، فإنه بالتوازي مع قيام مصرف لبنان بمنح المواطنين والمؤسسات الدولار، كان التجار الكبار يتحركون في السوق ويطلبون العملة الصعبة لأنهم في الأساس لم يلتفتوا إلى قرار مصرف لبنان. ولهذا الأمر، اتخذ سعر الدولار منحى تصاعدياً تدريجياً رغم نشاط “صيرفة”.
ما جرى خلال اليومين الماضيين توقفت عنده المصادر المصرفيّة، معتبرة أنّ نشاط مصرف لبنان عبر “صيرفة” لا يمكن وصفه بـ”تدخل في السوق”، وقالت: “ما يجري هو نوعٌ من أنواع المضاربة، ومصرف لبنان هو الجهة الرسمية الوحيدة التي يمكنها الإعلان عن حجم المداولات التي تقوم بها، كما أن لديه آليات تنظيمية يتحرك بها”.
ولكن، السؤال الذي يطرح نفسه: هل ارتفاع الدولار في السوق هو ردّة فعل من التجار الكبار ضدّ البنك المركزي؟
بالنسبة للمصادر، فإنّ هذا الأمر وارد، لكنّ الأساس لا يكمنُ هنا بل بالسيولة المتوافرة وبحجم التدخل الذي سيستمر به مصرف لبنان. وحتى الآن، فإنّ أغلب التقديرات تشير إلى أن البنك المركزي لم يُنفق 1 مليار دولار على “صيرفة” حتى الآن، لكنه في المقابل قد يسعى لتقنين ذلك الانفاق أكثر فأكثر، وقد بدأ هذا الأمرُ تباعاً وأول الغيث كان في تحديد المصرف المركزي سقف إيداعات “صيرفة” بـ100 مليون ليرة شهرياً.
وحالياً، فإن المُنتظر هو النتيجة التي ستصدر عن اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان يوم غدٍ الأربعاء، وتتوقع المصادر أن تكونَ هناك قراراتٌ ترتبط بـ”صيرفة” وبحجم الإنفاق عليها، في حين أن التوجيهات نحو المصارف قد تكون واضحة بـ”تسيير” الطلبات المقدمة مسبقاً وإنهائها وفق السعر الحالي لغاية اتخاذ قراراتٍ أخرى، إما تشير باستمرار الأمور على ما هي عليه أو بتغيير الآليات المتبعة، والأيام المقبلة كفيلة بكشفِ ذلك.